الاثنين، 27 يونيو 2022

تفسير القرطبي15. و16.

 

15. الجامع لأحكام القرآن=تفسير القرطبي15.
المؤلف : أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي شمس الدين القرطبي (المتوفى : 671هـ)

أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (47)

أي أعنى المتعيب. والبينات: الحجج والبراهين. والزبر: الكتب. وقد تقدم في آل عمران «1». (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ) يعنى القرآن. (لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) في هذا الكتاب من الأحكام والوعد والوعيد بقولك وفعلك، فالرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مبين عن الله عز وجل مراده مما أجمله في كتابه من أحكام الصلاة والزكاة، وغير ذلك مما لم يفصله. وقد تقدم هذا المعنى مستوفى في مقدمة الكتاب، والحمد لله. (وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) فيتعظون.

[سورة النحل (16): الآيات 45 الى 47]
أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (47)
قوله تعالى: (أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ) أي بالسيئات، وهذا وعيد للمشركين الذين احتالوا في إبطال الإسلام. (أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ) قال ابن عباس: كما خسف بقارون، يقال: خسف المكان يخسف خسوفا ذهب في الأرض، وخسف الله به الأرض خسوفا أي غاب به فيها، ومنه قوله:" فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ «2»". وخسف هو في الأرض وخسف به. والاستفهام بمعنى الإنكار، أي يجب ألا يأمنوا عقوبة تلحقهم كما لحقت المكذبين. (أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ) كما فعل بقوم لوط وغيرهم. وقيل: يريد يوم بدر، فإنهم أهلكوا ذلك اليوم، ولم يكن شي منه في حسابهم. (أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ) أي في أسفارهم وتصرفهم، قاله قتادة. (فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ) أي سابقين لله ولا فائتيه. وقيل:" فِي تَقَلُّبِهِمْ" على فراشهم أينما كانوا. وقال الضحاك: بالليل والنهار. (أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ) قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما: أي على تنقص من أموالهم
__________
(1). راجع ج 4 ص 296.
(2). راجع ج 13 ص 317.

ومواشيهم وزروعهم. وكذا قال ابن الاعرابي: أي على تنقص من الأموال والأنفس والثمرات حتى أهلكهم كلهم. وقال الضحاك: هو من الخوف، المعنى: يأخذ طائفة ويدع طائفة، فتخاف الباقية أن ينزل بها ما نزل بصاحبتها. وقال الحسن:" عَلى تَخَوُّفٍ" أن يأخذ القرية فتخافه القرية الأخرى، وهذا هو معنى القول الذي قبله بعينه، وهما راجعان إلى المعنى الأول، وأن التخوف التنقص، تخوفه تنقصه، وتخوفه الدهر وتخونه- (بالفاء والنون) بمعنى، يقال: تخوننى فلان حقي إذا تنقصك. قال ذو الرمة:
لا، بل هو الشوق من دار تخونها ... مرا سحاب ومرا بارح ترب «1»
وقال لبيد:
تخونها نزولي وارتحالي «2»

أي تنقص لحمها وشحمها. وقال الهيثم بن عدى: التخوف (بالفاء) التنقص، لغة لازد شنوءة. وأنشد:
تخوف غدرهم مالى وأهدى ... سلاسل في الحلوق لها صليل
وقال سعيد بن المسيب: بينما عمر بن الخطاب رضى الله عنه على المنبر قال: يا أيها الناس، ما تقولون في قول الله عز وجل:" أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ" فسكت الناس، فقال شيخ من بنى هذيل: هي لغتنا يا أمير المؤمنين، التخوف التنقص. فخرج رجل فقال: يا فلان، ما فعل دينك؟ قال: تخوفته، أي تنقصته، فرجع فأخبر عمر فقال عمر: أتعرف العرب ذلك في أشعارهم؟ قال نعم، قال شاعرنا أبو كبير «3» الهذلي يصف ناقة تنقص السير سنامها بعد تمكه واكتنازه:
تخوف الرحل منها تامكا قردا ... كما تخوف عود النبعة السفن «4»
__________
(1). البارح: الريح الحارة في الصيف التي فيها تراب كثير.
(2). هذا عجز لبيت، وصدره كما في اللسان:
عذافرة تقمص بالردافي

(3). كذا في الأصول، والذي في اللسان أنه لابن مقبل وقيل: لذي الرمة.
(4). القرد: معناه هنا: المتراكم بعضه فوق بعض من السمن. والنبعة: شجرة من أشجار الجبال يتخذ منها القسي.

أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (48)

فقال عمر: يا أيها الناس، عليكم بديوانكم شعر الجاهلية فإن فيه تفسير كتابكم ومعاني كلامكم. تمك السنام يتمك تمكا، أي طال وارتفع، فهو تأمك. والسفن والمسفن ما ينجر به الخشب. وقال الليث بن سعد:" عَلى تَخَوُّفٍ" على عجل. وقال: على تقريع بما قدموه من ذنوبهم، وهذا مروي عن ابن عباس أيضا. وقال قتادة:" عَلى تَخَوُّفٍ" أن يعاقب أو يتجاوز. (فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) أي لا يعاجل بل يمهل.

[سورة النحل (16): آية 48]
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ (48)
قرأ حمزة والكسائي وخلف ويحيى والأعمش" تروا" بالتاء، على أن الخطاب لجميع الناس. الباقون بالياء خبرا عن الذين يمكرون السيئات، وهو الاختيار. (مِنْ شَيْءٍ) يعنى من جسم قائم له ظل من شجرة أو جبل، قاله ابن عباس. وإن كانت الأشياء كلها سميعة مطيعة لله تعالى. (يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ) قرأ أبو عمرو ويعقوب وغيرهما بالتاء لتأنيث الظلال. الباقون بالياء، واختاره أبو عبيد. أي يميل من جانب إلى جانب، ويكون أول النهار على حال ويتقلص ثم يعود في آخر النهار على حالة أخرى، فدورانها وميلانها من موضع إلى موضع سجودها، ومنه قيل للظل بالعشي: في، لأنه فاء من المغرب إلى المشرق، أي رجع. والفيء الرجوع، ومنه" حَتَّى تَفِي ءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ «1»". روى معنى هذا القول عن الضحاك وقتادة وغيرهما، وقد مضى هذا المعنى في سورة" الرعد" «2». وقال الزجاج: يعنى سجود الجسم، وسجوده انقياده وما يرى فيه من أثر الصنعة، وهذا عام في كل جسم. ومعنى (وَهُمْ داخِرُونَ) أي خاضعون صاغرون. والدخور: الصغار والذل. يقال: دحر الرجل (بالفتح) فهو داخر، وأدخره الله. وقال ذو الرمة:
فلم يبق إلا داخر في مخيس ... ومنحخر «3» في غير أرضك في حجر
__________
(1). راجع ج 16 ص 315.
(2). راجع ج 9 ص 302.
(3). كذا في كتب اللغة. يقال: انجحر الضب إذا دخل الحجر. والذي في الأصول وديوان ذى والبرمة:" متحجر في غير أرضك في حجر" بتقديم الحاء على الجيم في الكلمتين، وكذا في ج.

وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50)

كذا نسبه الماوردي لذي الرمة، ونسبه الجوهري للفرزدق وقال: المخيس اسم سجن كان بالعراق، أي موضع التذلل، وقال «1»:
أما تراني كيسا مكيسا ... بنيت بعد نافع مخيسا
ووحد اليمين في قوله:" عَنِ الْيَمِينِ" وجمع الشمال، لان معنى اليمين وإن كان واحدا الجمع. ولو قال «2»: عن الايمان والشمائل، واليمين والشمال، أو اليمين والشمال لجاز، لان المعنى للكثرة. وأيضا فمن شأن العرب إذا اجتمعت علامتان في شي واحد أن تجمع إحداهما وتفرد الأخرى، كقوله تعالى:" خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ «3» وكقوله تعالى:" وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ «4» ولو قال على أسماعهم وإلى الأنوار لجاز. ويجوز أن يكون رد اليمين على لفظ" ما" والشمال على معناه. ومثل هذا في الكلام كثير. قال الشاعر:
الواردون وتيم في ذرأ سبإ ... قد عض أعناقهم جلد الجواميس «5»
ولم يقل جلود. وقيل: وحد اليمين لام الشمس إذا طلعت وأنت متوجه إلى القبلة انبسط الظل عن اليمين ثم في حال يميل إلى جهة الشمال ثم حالات «6»، فسماها شمائل.

[سورة النحل (16): الآيات 49 الى 50]
وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (50)
قوله تعالى: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ أي من كل ما يدب على الأرض. (وَالْمَلائِكَةُ) يعنى الملائكة الذين في الأرض، وإنما أفردهم بالذكر لاختصاصهم
__________
(1). القائل هو سيدنا على رضى الله عنه. ونافع: سجن بالكوفة كان غير مستوثق البناء وكان من قصب، وكان المحبوسون يهربون منه. وقيل: إنه نقب وأفلت منه المحبوسون، فهدمه على رضى الله عنه وبنى المخيس لهم من مدر.
(2). أي قائل في غير القرآن. [.....]
(3). راجع ج 1 ص 189.
(4). راجع ج 6 ص 117.
(5). البيت لجرير. ورواية ديوانه:
تدعوك تيم وتيم في قرى سبإ

إلخ
(6). هكذا وردت هذه الجملة في الأصول. ولعل صوابها: لان الشمس إذا طلعت وأنت متوجه إلى القبلة انبسط الظل عن اليمين في حال، ثم يميل إلى جهة الشمال في حالات، فسماها شمائل. والذي في البحر لابي حيان:" وقيل: وحد اليمين وجمع الشمائل لان الابتداء عن اليمين، ثم ينقبض شيئا فشيئا حالا بعد حال، فهو بمعنى الجمع، فصدق على كل حال لفظة الشمال فتعدد تعدد الحالات".

وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51)

بشرف المنزلة، فميزهم من صفة الدبيب بالذكر وإن دخلوا فيها، كقوله:" فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ «1»". وقيل: لخروجهم من جملة ما يدب لما جعل الله لهم من الأجنحة، فلم يدخلوا في الجملة فلذلك ذكروا. وقيل: أراد" وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ" من الملائكة والشمس والقمر والنجوم والرياح والسحاب،" وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ" وتسجد ملائكة الأرض. (وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) عن عبادة ربهم. وهذا رد على قريش حيث زعموا أن الملائكة بنات الله. ومعنى (يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ) أي عقاب ربهم وعذابه، لان العذاب المهلك إنما ينزل من السماء. وقيل: المعنى يخافون قدرة ربهم التي هي فوق قدرتهم، ففي الكلام حذف. وقيل: معنى" يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ" يعنى الملائكة، يخافون ربهم وهى من فوق ما في الأرض من دابة ومع ذلك يخافون، فلان يخاف من دونهم أولى، دليل هذا القول قوله تعالى: (وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) يعنى الملائكة.

[سورة النحل (16): آية 51]
وَقالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51)
قوله تعالى: (وَقالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ) قيل: المعنى لا تتخذوا اثنين إلهين. وقيل: جاء قوله: «اثنين» توكيدا. ولما كان الإله الحق لا يتعدد وأن كل من يتعدد فليس بإله، اقتصر على ذكر الاثنين، لأنه قصد نفي التعدد. (إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ) يعني ذاته المقدسة. وقد قام الدليل العقلي والشرعي على وحدانيته حسبما تقدم في البقرة بيانه «2» وذكرناه في اسمه الواحد في شرح الأسماء، والحمد لله. (فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) أي خافون. وقد تقدم في البقرة «3».

[سورة النحل (16): آية 52]
وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ واصِباً أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52)
__________
(1). راجع ج 17 ص 185.
(2). راجع ج 2 ص 190 وما بعدها.
(3). راجع ج 1 ص 332.

وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55)

قوله تعالى: (وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ واصِباً) الدين: الطاعة والإخلاص. و" واصِباً" معناه دائما، قال الفراء، حكاه الجوهري. وصب الشيء يصب وصوبا، أي دام. ووصب الرجل على الامر إذا واظب عليه. والمعنى: طاعة الله واجبة أبدا. وممن قال واصبا دائما: الحسن ومجاهد وقتادة والضحاك. ومنه قوله تعالى:" وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ «1»" أي دائم. وقال الدولي:
لا أبتغى الحمد القليل بقاؤه ... بدم يكون الدهر أجمع واصبا
أنشد الغزنوي والثعلبي وغيرهما:
ما أبتغى الحمد القليل بقاؤه ... يوما بذم الدهر أجمع واصبا
وقيل: الوصب التعب والإعياء، أي تجب طاعة الله وإن تعب العبد فيها. ومنه قول الشاعر:
لا يمسك الساق من أين ولا وصب ... ولا يعض على شرسوفه الصفر «2»
وقال ابن عباس:" واصِباً" واجبا. الفراء والكلبي: خالصا. (أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ) أي لا ينبغي أن تتقوا غير الله." فَغَيْرَ" نصب ب" تَتَّقُونَ".

[سورة النحل (16): الآيات 53 الى 55]
وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ (53) ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55)
قوله تعالى: (وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ) قال الفراء." ما" بمعنى الجزاء. والباء في" بِكُمْ" متعلقة بفعل مضمر، تقديره: وما يكن بكم." مِنْ نِعْمَةٍ" أي صحة جسم وسعة رزق وولد فمن الله. وقيل: المعنى وما بكم من نعمة فمن الله هي. (ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ)
__________ (1). راجع ج 15 ص 64.
(2). الشعر لأعشى باهله. والشطر الأول من بيت، والثاني من بيت آخر. والبيتان:
لا يتأرى لما في القير يرقبه ... ولا يعض على شرسوفة الصفر
لا يغمز الساق من أين ولا نصب ... ولا يزال أمام القوم يقتفر
تأرى بالمكان: أمام به. والشرسوف: غضروف كل عظم رخص يؤكل معلق بكل ضلع مثل غضروف الكتف. والشقر (بالتحريك): داء في البطن يصفر منه الوجه. وقيل: الصفر هنا الجوع. وافتقر الأثر: تتبعه.

وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56)

أي السقم والبلاء والقحط. فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ أي تضجون بالدعاء. يقال: جأر يجار جؤارا. والجؤار مثل الخوار، يقال: جأر الثور يجأر، أي صاح. وقرا بعضهم" عجلا جسدا له جؤار «1»"، حكاه الأخفش. وجار الرجل إلى الله، أي تضرع بالدعاء. وقال الأعشى «2» يصف بقرة:
فطافت ثلاثا بين يوم وليلة ... وكان النكير أن تضيف «3» وتجأرا
(ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ) أي البلاء والسقم. (إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ) بعد إزالة البلاء وبعد الجؤار. فمعنى الكلام التعجيب من الاشراك بعد النجاة من الهلاك، وهذا المعنى مكرر في القرآن، وقد تقدم في" الانعام «4» ويونس «5»"، ويأتي في" سبحان" وغيرها. وقال الزجاج: هذا خاص بمن كفر. (لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ) أي ليجحدوا نعمة الله التي أنعم بها عليهم من كشف الضر والبلاء. أي أشركوا ليجحدوا، فاللام لام كي. وقيل لام العاقبة. وقيل:" لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ" أي ليجعلوا النعمة سببا للكفر، وكل هذا فعل خبيث، كما قال:
والكفر مخبثة لنفس المنعم «6»

(فَتَمَتَّعُوا) أمر تهديد. وقرا عبد الله" قل تمتعوا". (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) أي عاقبة أمركم.

[سورة النحل (16): آية 56]
وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56)
قوله تعالى: (وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ) ذكر نوعا آخر من جهالتهم، وأنهم يجعلون لما لا يعلمون أنه يضر وينفع- وهى الأصنام- شيئا من أموالهم يتقربون به إليه، قال مجاهد وقتادة وغيرهما. ف" يَعْلَمُونَ" على هذا للمشركين. وقيل هي
__________
(1). راجع ج 7 ص 284 وص 8 و235 ج 11.
(2). كذا في الأصول. والذي في اللسان مادة" ضيف" وكتاب سيبويه ج 2 ص 174 أنه للنابغة الجعدي.
(3). في الأصول:" تطيف" بالطاء. والتصويب عن اللسان وكتاب سيبويه. وتضيف: تشفق ومحذر والنكير: الإنكار. والجؤار: الصياح. والمعنى: أن هذه البقرة فقدت ولدها فطافت تطلبه ثلاث ليال وأيامها، ولا إنكار عندها ولا انتصار مما عدا على ولدها إلا أن تشفق وتحذر وتصيح.
(4). راجع ج 7 ص 284 وص 8 و235 ج 11.
(5). راجع ج 8 ص 317. [.....]
(6). هذا عجز بيت من معلقة عنترة، وصدره:
نبئت عمرا غير شاكر نعمتي

وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (57)

للأوثان، وجرى بالواو والنون مجرى من يعقل، فهو رد على" ما" ومفعول يعلم محذوف والتقدير: ويجعل هؤلاء الكفار للأصنام التي تعلم شيئا نصيبا. وقد مضى في" الانعام" تفسير هذا المعنى في قوله:" فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا «1»" ثم رجع من الخبر إلى الخطاب فقال: (تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ) وهذا سؤال توبيخ. (عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ) أي تختلقونه من الكذب على الله أنه أمركم بهذا.

[سورة النحل (16): آية 57]
وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ (57)
قوله تعالى: (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ) نزلت في خزاعة وكنانة، فإنهم زعموا أن الملائكة بنات الله، فكانوا يقولون الحقوا البنات بالبنات. (سُبْحانَهُ) نزه نفسه وعظمها عما نسبوه إليه من اتخاذ الأولاد. (وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ) أي يجعلون لأنفسهم البنين ويأنفون من البنات. وموضع" ما" رفع بالابتداء، والخبر" لَهُمْ" وتم الكلام عند قوله:" سُبْحانَهُ". وأجاز الفراء كونها نصبا، على تقدير: ويجعلون لهم ما يشتهون. وأنكره الزجاج وقال: العرب تستعمل في مثل هذا ويجعلون لأنفسهم.

[سورة النحل (16): آية 58]
وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58)
قوله تعالى: (وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ) أي أخبر أحدهم بولادة بنت. (ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا) أي متغيرا، وليس يريد السواد الذي هو ضد البياض، وإنما هو كناية عن غمه بالبنت. والعرب تقول لكل من لقى مكروها: قد اسود وجهه غما وحزنا قال الزجاج. وحكى الماوردي أن المراد سواد اللون قال: وهو قول الجمهور. (وَهُوَ كَظِيمٌ) أي ممتلئ من الغم. وقال ابن عباس: حزين. وقال الأخفش: هو الذي يكظم غيظه فلا يظهره. وقيل: إنه المغموم الذي يطبق فاه فلا يتكلم من الغم، مأخوذ من الكظامة وهو شد فم القربة، قال على بن عيسى. وقد تقدم هذا المعنى في سورة" يوسف «2»".
__________
(1). راجع ج 7 ص 89.
(2). راجع ج 9 ص 249.

يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (59)

[سورة النحل (16): آية 59]
يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (59)
قوله تعالى: (يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ) أي يختفى ويتغيب. (مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ) أي من سوء الحزن والعار والحياء الذي يلحقه بسبب البنت. (أَيُمْسِكُهُ) ذكر الكناية لأنه مردود على" ما". (عَلى هُونٍ) أي هوان. وكذا قرأ عيسى الثقفي" عَلى هُونٍ" والهون الهوان بلغة قريش، قاله اليزيدي وحكاه أبو عبيد عن الكسائي. وقال الفراء: هو القليل بلغة تميم. وقال الكسائي: هو البلاء والمشقة. وقالت الخنساء:
نهين النفوس وهون النفوس ... يوم الكريهة أبقى لها وقرا
الأعمش" أيمسكه على سوء" ذكره النحاس، قال: وقرا الجحدري" أم يدسها في التراب" يرده على قوله:" بِالْأُنْثى " ويلزمه أن يقرأ" أيمسكها «1»". وقيل: يرجع الهوان إلى البنت، أي أيمسكها وهى مهانة عنده. وقيل: يرجع إلى المولود له، أيمسكه على رغم أنفه أم يدسه في التراب، وهو ما كانوا يفعلونه من دفن البنت حية. قال قتادة: كان مضر وخزاعة يدفنون البنات أحياء، وأشدهم في هذا تميم. زعموا خوف القهر عليهم وطمع غير الاكفاء فيهن. وكان صعصعة ابن ناجية عم الفرزدق إذا أحس بشيء من ذلك وجه إلى والد البنت إبلا يستحييها بذلك. فقال الفرزدق يفتخر:
وعمى «2» الذي منع الوائدات ... وأحيا الوئيد فلم يوأد
وقيل: دسها إخفاؤها عن الناس حتى لا تعرف، كالمدسوس في التراب لإخفائه عن الأبصار، وهذا محتمل. مسألة- ثبت في صحيح مسلم عن عائشة رضى الله عنها قالت: جاءتني امرأة ومعها ابنتان لها، فسألتني فلم تجد عندي غير تمرة واحدة، فأعطيتها إياها فأخذتها فقسمتها بين ابنتيها ولم تأكل منها شيئا، ثم قامت فخرجت وابنتاها، فدخل على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فحدثته «3»
__________
(1). قال محققة: في الشواذ أن الجحدري يقرأ كذلك. كأن المصنف لم يقف عليها.
(2). الرواية: وجدي، وأن صعصعة بن ناجية جد الفرزدق كما في الاستيعاب.
(3). في ج: فخبرته.

حديثها، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" من ابتلى من البنات بشيء فأحسن إليهن كن له سترا من النار". ففي هذا الحديث ما يدل على أن البنات بلية، ثم أخبر أن في الصبر عليهن والإحسان إليهن ما يقي من النار. وعن عائشة رضى الله عنها أنها قالت: جاءتني مسكينة تحمل ابنتين لها، فأطعمتها ثلاث تمرات فأعطت كل واحدة منهما تمرة، ورفعت إلى فيها تمرة لتأكلها فاستطعمتها ابنتاها فشقت التمرة التي كانت تريد أن تأكلها بينهما، فأعجبني شأنها، فذكرت الذي صنعت لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال:" إن الله عز وجل قد أوجب لها بها الجنة أو أعتقها بها من النار". وعن أنس بن مالك قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" من عال جاريتين حتى تبلغا جاء يوم القيامة أنا وهو" وضم أصابعه، خرجهما أيضا مسلم رحمه الله! وخرج أبو نعيم الحافظ من حديث الأعمش عن أبى وائل عن عبد الله قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" من كانت له بنت فأدبها فأحسن أدبها وعلمها فأحسن تعليمها وأسبغ عليها من نعم الله التي أسبغ عليه كانت له سترا أو حجابا من النار". وخطب إلى عقيل بن علفة ابنته الجرباء فقال:
إنى وإن سيق إلى المهر ... ألف وعبدان وخور «1» عشر
أحب أصهاري إلى القبر

وقال عبد الله بن طاهر:
لكل أبى بنت يراعى شئونها ... ثلاثة أصهار إذا حمد الصهر
فبعل يراعيها وخدر يكنها ... وقبر يواريها وخيرهم القبر
(أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ) أي في إضافة البنات إلى خالقهم وإضافة البنين إليهم. نظيره" أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى . تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى " أي جائرة، وسيأتي «2».
__________
(1). الخور: جمع خوارة على غير قياس،. هي الناقة الغزيرة اللبن.
(2). راجع ج 17 ص 102.

لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60)

[سورة النحل (16): آية 60]
لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60)
قوله تعالى: (لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) أي لهؤلاء الواصفين «1» لله البنات (مَثَلُ السَّوْءِ) أي صفة السوء من الجهل والكفر. وقيل: هو وصفهم الله تعالى بالصاحبة والولد. وقيل: أي العذاب والنار. (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى ) أي الوصف الأعلى من الإخلاص والتوحيد، قاله قتادة. وقيل: أي الصفة العليا بأنه خالق رازق قادر ومجاز. وقال ابن عباس:" مَثَلُ السَّوْءِ" النار، و" الْمَثَلُ الْأَعْلى " شهادة أن لا إله إلا الله. وقيل:" لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ «2»". وقيل:" وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى " كقوله:" اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ «3»". فإن قيل: كيف أضاف المثل هنا إلى نفسه وقد قال:" فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ «4»" فالجواب أن قوله:" فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ" أي الأمثال التي توجب الأشباه والنقائص، أي لا تضربوا لله مثلا يقتضى نقصا وتشبيها بالخلق. والمثل الأعلى وصفه بما لا شبيه له ولا نظير، جل وتعالى عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا. (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) تقدم معناه «5».

[سورة النحل (16): آية 61]
وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (61)
قوله تعالى: (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ) أي بكفرهم وافترائهم، وعاجلهم. (ما تَرَكَ عَلَيْها) أي على الأرض، فهو كناية عن غير مذكور، لكن دل عليه قوله:" مِنْ دَابَّةٍ" فإن الدابة لا تدب إلا على الأرض. والمعنى المراد من دابة كافرة فهو خاص. وقيل: المعنى أنه لو أهلك الآباء بكفرهم لم تكن الأبناء. وقيل: المراد بالآية العموم، أي لو أخذ الله الخلق بما كسبوا ما ترك على
__________
(1). في ج وو: الواضعين.
(2). راجع ج 16 ص 7.
(3). راجع ج 12 ص و22.
(4). راجع ص 146 من هذا الجزء.
(5). راجع ج 1 ص 287 وج 2 ص 131.

وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62)

ظهر هذه الأرض من دابة من نبى ولا غيره، وهذا قول الحسن. وقال ابن مسعود وقرا هذه الآية: لو أخذ الله الخلائق بذنوب المذنبين لأصاب العذاب جميع الخلق حتى الجعلان «1» في حجرها، ولامسك الأمطار من السماء والنبات من الأرض فمات الدواب، ولكن الله يأخذ بالعفو والفضل، كما قال:" وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ «2»" (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ) أي أجل موتهم ومنتهى أعمارهم. (لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) وقد تقدم «3» فإن قيل: فكيف يعم بالهلاك مع أن فيهم مؤمنا ليس بظالم؟ قيل: يجعل هلاك الظالم انتقاما وجزاء، وهلاك المؤمن معوضا بثواب الآخرة. وفى صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول:" إذا أراد الله بقوم عذابا أصاب العذاب من كان فيهم ثم بعثوا على نياتهم «4»". وعن أم سلمة وسئلت عن الجيش الذي يخسف به وكان ذلك في أيام ابن الزبير، فقالت قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" يعوذ بالبيت عائذ فيبعث إليه بعث فإذا كانوا ببيداء من الأرض خسف بهم" فقلت: يا رسول الله، فكيف بمن كان كارها؟ قال:" يخسف به معهم ولكنه يبعث يوم القيامة على نيته". وقد أتينا على هذا المعنى مجودا في" كتاب التذكرة" وتقدم في المائدة وآخر الانعام «5» ما فيه كفاية، والحمد لله. وقيل: (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ) أي فإذا جاء يوم القيامة. والله أعلم.

[سورة النحل (16): آية 62]
وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62)
قوله تعالى: (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ) أي من البنات. (وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ. أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى ) قال مجاهدك هو قولهم أن لهم البنين ولله البنات." الْكَذِبَ" مفعول" تصف" و" أَنَّ" في محل نصب بدل من الكذب، لأنه
__________
(1). الجعلان (بكسر الجيم جمع جعل، كصرد): دابة سوداء من دواب الأرض. [.....]
(2). راجع ج 16 ص 30.
(3). راجع ج 7 ص 202.
(4). في صحيح مسلم «على أعمالهم».
(5). راجع ج 6 ص 352 وج 7 ص 157.

تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)

بيان له. وقيل:" الْحُسْنى " الجزاء الحسن، قال الزجاج. وقرا ابن عباس وأبو العالية ومجاهد وابن محيصن" الْكَذِبَ" برفع الكاف والذال والباء نعتا للالسنة، وكذا" وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ «1»". والكذب جمع كذوب، مثل رسول ورسل وصبور وصبر وشكور وشكر. (لا) رد لقولهم، وتم الكلام، أي ليس كما تزعمون. (جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ) أي حقا أن لهم النار. وقد تقدم مستوفى «2». (وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ) متركون منسيون في النار، قاله ابن الاعرابي وأبو عبيدة والكسائي والفراء، وهو قول سعيد بن جبير ومجاهد. وقال ابن عباس وسعيد بن جبير أيضا: مبعدون. قتادة والحسن: معجلون إلى النار مقدمون إليها. والفارط: الذي يتقدم إلى الماء، ومنه قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أنا فرطكم على الحوض) أي متقدمكم. وقال القطامي:
فاستعجلونا وكانوا من صحابتنا ... كما تعجل فراط لوراد
والفراط: المتقدمون في طلب الماء. والوراد: المتأخرون. وقرا نافع في رواية ورش" مفرطون" بكسر الراء وتخفيفها، وهى قراءة عبد الله بن مسعود وابن عباس، ومعناه مسرفون في الذنوب والمعصية، أي أفرطوا فيها. يقال: أفرط فلان على فلان إذا أربى عليه، وقال له أكثر مما قال من الشر. وقرا أبو جعفر القارئ" مفرطون" بكسر الراء وتشديدها، أي مضيعون أمر الله، فهو من التفريط في الواجب.

[سورة النحل (16): آية 63]
تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (63)
قوله تعالى: (تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) أي أعمالهم الخبيثة. هذا تسلية للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن من تقدمه من الأنبياء قد كفر بهم قومهم. (فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ) أي ناصر هم في الدنيا على زعمهم. (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ)
__________
(1). راجع ص 95 من هذا الجزء.
(2). راجع ج 9 ص 20

وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64)

في الآخر وقيل:" فَهُوَ وَلِيُّهُمُ" أي قرينهم في النار." الْيَوْمَ" يعنى يوم القيامة، وأطلق عليه اسم اليوم لشهرته. وقيل: يقال لهم يوم القيامة: هذا وليكلم فاستنصروا به لينجيكم من العذاب، على جهة التوبيخ لهم.

[سورة النحل (16): آية 64]
وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64)
قوله تعالى: (وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ) أي القرآن (إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ) من الدين والأحكام فتقوم الحجة عليهم ببيانك. وعطفك" هُدىً وَرَحْمَةً" على موضع قوله:" لِتُبَيِّنَ" لان محله نصب. ومجاز الكلام: وما أنزلنا عليك الكتاب إلا تبيانا للناس. (وَهُدىً) أي رشدا (وَرَحْمَةً) للمؤمنين.

[سورة النحل (16): آية 65]
وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65)
قوله تعالى: (وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ) أي السحاب. (ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) عاد الكلام إلى تعداد النعم وبيان كمال القدرة. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) أي دلالة على البعث وعلى وحدانيته، إذ علموا أن معبودهم لا يستطيع شيئا، فتكون هذه الدلالة (لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) عن الله تعالى بالقلوب لا بالآذان، (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ «1»).

[سورة النحل (16): آية 66]
وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ (66)
__________
(1). راجع ج 12 ص 76.

فيه عشر مسائل: الاولى- قوله تعالى: (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً) قد تقدم القول في الانعام «1»، وهى هنا الأصناف الاربعة: الإبل والبقر والضأن والمعز." لَعِبْرَةً" أي دلالة على قدرة الله ووحدانيته وعظمته. والعبرة أصلها تمثيل الشيء بالشيء لتعرف حقيقته من طريق المشاكلة، ومنه" فَاعْتَبِرُوا «2»". وقال أبو بكر الوراق: العبرة في الانعام تسخيرها لأربابها وطاعتها لهم، وتمردك على ربك وخلافك له في كل شي. ومن أعظم العبر برئ يحمل مذنبا. الثانية- قوله تعالى: (نُسْقِيكُمْ) قراءة أهل المدينة وابن عامر وعاصم في رواية أبى بكر (بفتح النون) من سقى يسقى. وقرا الباقون وحفص عن عاصم (بضم النون) من أسقى يسقى، وهى قراءة الكوفيين واهل مكة. قيل: هما لغتان. وقال لبيد:
سقى قومي بنى مجد وأسقى ... نميرا والقبائل من هلال
وقيل: يقال لما كان من يدك إلى فيه سقيته، فإذا جعلت له شرابا أو عرضته لان يشرب بفيه أو يزرعه قلت أسقيته، قال ابن عزيز، وقد تقدم «3». وقرأت فرقة" تسقيكم" بالتاء، وهى ضعيفة، يعنى الانعام. وقرى بالياء، أي يسقيكم الله عز وجل. والقراء على القراءتين المتقدمتين، ففتح النون لغة قريش وضمها لغة حمير. الثالثة- قوله تعالى: (مِمَّا فِي بُطُونِها) اختلف الناس في الضمير من قوله:" مِمَّا فِي بُطُونِهِ" على ماذا يعود. فقيل: هو عائد إلى ما قبله وهو جمع المؤنث. قال سيبويه: العرب تخبر عن الانعام بخبر الواحد. قال ابن العربي: وما أراه عول عليه إلا من هذه الآية، وهذا لا يشبه منصبه ولا يليق بإدراكه. وقيل: لما كان لفظ الجمع وهو اسم الجنس يذكر ويؤنث فيقال: هو الانعام وهى الانعام، جاز عود الضمير بالتذكير،
__________
(1). راجع ج 7 ص، 111.
(2). راجع ج 18 ص 5.
(3). راجع ج 1 ص، 418

وقال الزجاج، وقال الكسائي: معناه مما في بطون ما ذكرناه، فهو عائد على المذكور، وقد قال الله تعالى:" إِنَّها تَذْكِرَةٌ. فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ «1»" وقال الشاعر:
مثل الفراخ نتفت حواصله

ومثله كثير. وقال الكسائي:" مِمَّا فِي بُطُونِهِ" أي مما في بطون بعضه، إذ الذكور لا ألبان لها، وهو الذي عول عليه أبو عبيدة. وقال الفراء: الانعام والنعم واحد، والنعم يذكر، ولهذا تقول العرب: هذا نعم وارد، فرجع الضمير إلى لفظ النعم الذي هو بمعنى الانعام. قال ابن العربي: إنما رجع التذكير إلى معنى الجمع، والتأنيث إلى معنى الجماعة، فذكره هنا باعتبار لفظ الجمع، وأنثه في سورة المؤمنين باعتبار لفظ الجماعة فقال:" نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها «2»" وبهذا التأويل ينتظم المعنى انتظاما. حسنا. والتأنيث باعتبار لفظ الجماعة والتذكير باعتبار لفظ الجمع أكثر من رمل «3» يبرين وتيهاء فلسطين. الرابعة- لاستنبط بعض العلماء الجلة وهو القاضي إسماعيل من عود هذا الضمير، أن لبن الفحل يفيد التحريم، وقال: إنما جئ به مذكرا لأنه راجع إلى ذكر النعم، لان اللبن للذكر محسوب، ولذلك قضى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن لبن الفحل يحرم حين أنكرته عائشة [رضى الله عنها «4»] في حديث أفلح أخى أبى القعيس" فللمرأة السقي وللرجل اللقاح" فجرى الاشتراك فيه بينهما. وقد مضى قول في تحريم لبن الفحل في" النساء «5»" والحمد لله. الخامسة- قوله تعالى: (مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً) نبه سبحانه على عظيم قدرته بخروج اللبن خالصا بين الفرث والدم. والفرث: الزبل الذي ينزل إلى الكرش، فإذا خرج لم يسم فرثا. يقال: أفرثت الكرش إذا أخرجت ما فيها. والمعنى: أن الطعام يكون فيه ما في الكرش ويكون منه الدم، ثم يخلص اللبن من الدم، فأعلم الله سبحانه أن هذا اللبن يخرج من بين ذلك وبين الدم في العروق. وقال ابن عباس: إن الدابة تأكل العلف
__________
(1). راجع ج 91 ص 213.
(2). راجع ج 12 ص، 118.
(3). رمل لا تدرك أطرافه عن يمين مطلع الشمس من الحجر اليمامة. (ياقوت).
(4). من ج. [.....]
(5). راجع ج 5 ص 111.

فإذا استقر في كرشها طبخته فكان أسفله فرثا وأوسطه لبنا وأعلاه دما، والكبد مسلط على هذه الأصناف فتقسم الدم وتميزه وتجريه في العروق، وتجرى اللبن في الضرع ويبقى الفرث كما هو في الكرش،" حكمة بالغة فما تغن «1» النذر". (خالِصاً) يريد من حمرة الدم وقذارة الفرث وقد جمعهما وعاء واحد. وقال ابن بحر: خالصا بياضه. قال النابغة:
بخالصة الأردان «2» خضر المناكب

أي بيض الأكمام. وهذه قدرة لا تنبغي إلا للقائم على كل شي بالمصلحة. السادسة- قال النقاش: في هذا دليل على أن المنى ليس بنجس. وقاله أيضا غيره واحتج بأن قال: كما يخرج اللبن من بين الفرث والدم سائغا خالصا كذلك يجوز أن يخرج المنى على مخرج البول طاهرا. قال ابن العربي: إن هذا لجهل عظيم واخذ شنيع، اللبن جاء الخبر عنه مجيء النعمة والمنة الصادرة عن القدرة ليكون عبرة، فاقتضى ذلك كله وصف الخلوص واللذة، وليس المنى من هذه الحالة حتى يكون ملحقا به أو مقيسا عليه. قلت: قد يعارض هذا بأن يقال: وأى منة أعظم وأرفع من خروج المنى الذي يكون عنه الإنسان المكرم، وقد قال تعالى:" يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ «3»"، وقال:" وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً «4»" وهذا غاية في الامتنان. فإن قيل: إنه يتنجس بخروجه في مجرى البول، قلنا: هو ما أردناه، فالنجاسة عارضة وأصله طاهر، وقد قيل: إن مخرجه غير مخرج البول وخاصة المرأة، فإن مدخل الذكر منها ومخرج الولد غير مخرج البول على ما قاله العلماء. وقد تقدم في البقرة. فإن قيل: أصله دم فهو نجس، قلنا ينتقض بالمسك، فإن أصله دم وهو طاهر. وممن قال بطهارته الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وغيرهم، لحديث عائشة رضى الله عنها قالت: كنت افركه من ثوب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يابسا بظفرى. قال الشافعي: فإن لم يفرك فلا بأس به. وكان سعد
__________
(1). راجع ج 71 ص 128.
(2). الأردان: جمع ردن (بضم الراء وسكون الدال) وهو أصل الحكم.
(3). راجع ج 20 ص 4.
(4). راجع ص 142 من هذا الجزء.

ابن أبى وقاص يفرك المنى من ثوبه. وقال ابن عباس: هو كالنخامة أمطه عنك بإذخرة وامسحه بخرقة. فإن قيل: فقد ثبت عن عائشة أنها قالت: كنت أغسل المنى من ثوب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم يخرج إلى الصلاة في ذلك الثوب وأنا أنظر إلى أثر الغسل فيه. قلنا: يحتمل أن تكون غسلته استقذارا كالأشياء التي تزال من الثوب لا لنجاسة، ويكون هذا جمعا بين الأحاديث. والله أعلم. وقال مالك وأصحابه والأوزاعي: هو نجس. قال مالك: غسل الاحتلام من الثوب أمر واجب مجتمع عليه عندنا، وهو قول الكوفيين. ويروى عن عمر بن الخطاب وابن مسعود وجابر بن سمرة أنهم غسلوه من ثيابهم. واختلف فيه عن ابن عمر وعائشة. وعلى هذين القولين في نجاسة المنى وطهارته التابعون. السابعة- في هذه الآية دليل على جواز الانتفاع بالألبان من الشرب وغيره، فأما لبن الميتة فلا يجوز الانتفاع به، لأنه مائع طاهر حصل في وعاء نجس، وذلك أن ضرع الميتة نجس واللبن طاهر فإذا حلب صار مأخوذا من وعاء نجس. فأما لبن المرأة الميتة فاختلف أصحابنا فيه، فمن قال: إن الإنسان «1» طاهر حيا وميتا فهو طاهر. ومن قال: ينجس بالموت فهو نجس. وعلى القولين جميعا تثبت الحرمة، لان الصبى قد يغتذى به كما يغتذى من الحية، وذلك أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:" الرضاع ما أنبت اللحم وأنشز العظم". ولم يخص، وقد مضى في:" النساء «2»". الثامنة- قوله تعالى: (سائِغاً لِلشَّارِبِينَ) أي لذيذا هينا لا يغص به من شربه. يقال: ساغ الشراب يسوغ سوغا أي سهل مدخله في الحلق، وأساغه شاربه، وسغته أنا أسيغه وأسوغه، يتعدى، والأجود أسغته إساغة. يقال: أسغ لي غصتي أي أمهلني ولا تعجلني، وقال تعالى:" يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ «3»". والسواغ (بكسر السين) ما أسغت به غصتك. يقال: الماء سواغ الغصص، ومنه قول الكميت:
فكانت سواغا أن جيزت بغصة

وروى: أن اللبن لم يشرق به أحد قط، وروى ذلك عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
__________
(1). أي المسلم.
(2). راجع ج 5 ص 111.
(3). راجع ج 9 ص 349.

وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67)

التاسعة- في هذه الآية دليل على استعمال الحلاوة والأطعمة اللذيذة وتناولها، ولا يقال: إن ذلك يناقض الزهد أو يباعده، لكن إذا كان من وجهه ومن غير سرف ولا إكثار. وقد تقدم هذا المعنى في" المائدة «1»" وغيرها. وفى الصحيح عن أنس قال: لقد سقيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقدحى هذا الشراب كله: العسل والنبيذ واللبن والماء. وقد كره بعض القراء أكل الفالوذج «2» واللبن من الطعام، وأباحه عامة العلماء. وروى عن الحسن أنه كان على مائدة ومعه مالك بن دينار، فأتى بفالوذج فامتنع عن أكله، فقال له الحسن: كل! فإن عليك في الماء البارد أكثر من هذا. العاشرة- روى أبو داود وغيره عن ابن عباس قال: أتى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بلبن فشرب، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" إذا أكل أحدكم طعاما فليقل اللهم بارك لنا فيه وأطعمنا خيرا منه، وإذا سقى لبنا فليقل اللهم بارك لنا فيه وزدنا منه فإنه ليس شي يجزى عن الطعام والشراب إلا اللبن". قال علماؤنا: فكيف لا يكون ذلك وهو أول ما يغتذى به الإنسان وتنمى به الجثث والأبدان، فهو قوت خلى عن المفاسد به قوام الأجسام، وقد جعله الله تعالى علامة لجبريل على هداية هذه الامة التي هي خير الأمم أمة، فقال في الصحيح:" فجاءني جبريل بإناء من خمر وإناء من لبن فاخترت اللبن فقال لي جبريل اخترت الفطرة أما إنك لو اخترت الخمر غوت «3» أمتك (. ثم إن في الدعاء بالزيادة منه علامة الخصب وظهور الخيرات [وكثرة «4»] والبركات، فهو مبارك كله.

[سورة النحل (16): آية 67]
وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67)
الاولى- قوله تعالى:" وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ" قال الطبري: التقدير ومن ثمرات النخيل والأعناب ما تتخذون، فحذف" ما" ودل على حذفه قوله:" منه". وقيل:
__________
(1). راجع ج 6 ص 260 وما بعدها، وج 7 ص 191.
(2). الفالوذج: حلواء تعمل من الدقيق والماء والعسل. (عن الألفاظ الفارسية المعربة).
(3). غوت: ضلت وفسدت.
(4). من ج.

المحذوف شي، والامر قريب. وقيل: معنى" مِنْهُ" أي من المذكور، فلا يكون في الكلام حذف وهو أولى. ويجوز أن يكون قوله:" وَمِنْ ثَمَراتِ" عطفا على" الْأَنْعامِ"، أي ولكم من ثمرات النخيل والأعناب عبرة. ويجوز أن يكون معطوفا على" مِمَّا" أي ونسقيكم أيضا مشروبات من ثمرات. الثانية- قولة تعالى: (سَكَراً) السكر ما يسكر، هذا هو المشهور في اللغة. قال ابن عباس: نزلت هذه الآية قبل تحريم الخمر. وأراد بالسكر الخمر، وبالرزق الحسن جميع ما يؤكل ويشرب حلالا من هاتين الشجرتين. وقال بهذا القول ابن جبير والنخعي والشعبي وأبو ثور. وقد قيل: إن السكر الخل بلغة الحبشة، والرزق الحسن الطعام. وقيل: السكر العصير الحلو الحلال، وسمي سكرا لأنه قد يصير مسكرا إذا بقي، فإذا بلغ الإسكار حرم. قال ابن العربي: أسد، هذه الأقوال قول ابن عباس، ويخرج ذلك على أحد معنيين، إما أن يكون ذلك قبل تحريم الخمر، وإما أن يكون المعنى: أنعم الله عليكم بثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه ما حرم الله عليكم اعتداء منكم، وما أحل لكم اتفاقا أو قصدا إلى منفعة أنفسكم. والصحيح أن ذلك كان قبل تحريم الخمر فتكون منسوخة، فإن هذه الآية مكية باتفاق من العلماء، وتحريم الخمر مدني. قلت: فعلى أن السكر الخمر أو العصير الحلو لا نسخ، وتكون الآية محكمة وهو حسن. قال ابن عباس: الحبشة يسمون الخل السكر، إلا أن الجمهور على أن السكر الخمر، منهم ابن مسعود وابن عمر وأبو رزين والحسن ومجاهد وابن أبى ليلى والكلبي وغيرهم ممن تقدم ذكرهم، كلهم قالوا: السكر ما حرمه الله من ثمرتيهما. وكذا قال أهل اللغة: السكر اسم للخمر وما يسكر، وأنشدوا:
بئس الصحاة وبئس الشرب شربهم ... إذا جرى فيهم المزاء والسكر
والرزق الحسن: ما أحله الله من مرتيهما. وقيل: إن قوله" تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً" خبر معناه الاستفهام بمعنى الإنكار، أي أتتخذون منه سكرا وتدعون رزقا حسنا الخل والزبيب

والتمر، كقوله:" فَهُمُ الْخالِدُونَ «1»" أي أفهم الخالدون. والله أعلم. وقال أبو عبيدة: السكر الطعم، يقال: هذا سكر لك أي طعم. وأنشد:
جعلت عيب الأكرمين سكرا

أي جعلت ذمهم طعما. وهذا اختيار الطبري أن السكر ما يطعم من الطعام وحل شربه من ثمار النخيل والأعناب، وهو الرزق الحسن، فاللفظ مختلف والمعنى واحد، مثل"نَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي
«2»لَى اللَّهِ" وهذا حسن ولا نسخ، إلا أن الزجاج قال: قول أبى عبيدة هذا لا يعرف، واهل التفسير على خلافه، ولا حجة له في البيت الذي أنشده، لان معناه عند غيره أنه يصف أنها تتخمر بعيوب الناس. وقال الحنفيون: المراد بقوله:" سَكَراً" ما لا يسكر من الأنبذة، والدليل عليه أن الله سبحانه وتعالى امتن على عباده بما خلق لهم من ذلك، ولا يقع الامتنان إلا بمحلل لا بمحرم، فيكون ذلك دليلا على جواز شرب ما دون المسكر من النبيذ، فإذا انتهى إلى السكر لم يجز، وعضدوا هذا من السنة بما روى عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال:" حرم الله الخمر بعينها والسكر من غيرها". وبما رواه عبد الملك بن نافع عن ابن عمر قال: رأيت رجلا جاء إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو عند الركن، ودفع إليه القدح فرفعه إلى فيه فوجده شديدا فرده إلى صاحبه، فقال له حينئذ رجل من القوم: يا رسول الله، إحرام هو؟ فقال:" على بالرجل" فأتى به فأخذ منه القدح، ثم دعا بماء فصبه فيه ثم رفعه إلى فيه فقطب، ثم دعا بماء أيضا فصبه فيه ثم قال:" إذا اغتلمت «3» عليكم هذه الأوعية فاكسروا متونها بالماء". وروى أنه عليه السلام كان ينبذ له فيشربه ذلك اليوم، فإذا كان من اليوم الثاني أو الثالث سقاه الخادم إذا تغير، ولو كان حراما ما سقاه إياه. قال الطحاوي: وقد روى أبو عون الثقفي عن عبد الله بن شداد عن ابن عباس قال: حرمت الخمر بعينها القليل منها والكثير والسكر من كل شراب، خرجه الدارقطني أيضا.
__________
(1). راجع ج 11 ص 287.
(2). راجع ج 9 ص 251. [.....]
(3). الاغتلام مجاوزة الحد، أي إذا جاوزت حدها الذي لا يسكر إلى حدها الذي يسكر.

ففي هذا الحديث وما كان مثله، أن غير الخمر لم تحرم عينه كما حرمت الخمر بعينها. قالوا: والخمر شراب العنب خلاف فيها، ومن حجتهم أيضا ما رواه شريك بن عبد الله، حدثنا أبو إسحاق الهمداني عن عمرو بن ميمون قال قال عمر بن الخطاب: إنا نأكل لحوم هذه الإبل وليس يقطعه في بطوننا إلا النبيذ. قال شريك: ورأيت الثوري يشرب النبيذ في بيت حبر أهل زمانه مالك بن مغول. والجواب أن قولهم: إن الله سبحانه وتعالى امتن على عباده ولا يكون امتنانه إلا بما أحل فصحيح، بيد أنه يحتمل أن يكون ذلك قبل تحريم الخمر كما بيناه فيكون منسوخا كما قدمناه. قال ابن العربي: إن قيل كيف ينسخ هذا وهو خبر والخبر لا يدخله النسخ، قلنا: هذا كلام من لم يتحقق الشريعة، وقد بينا أن الخبر إذا كان عن الوجود الحقيقي أو عن إعطاء ثواب فضلا من الله فهو الذي لا يدخله النسخ، فأما إذا تضمن الخبر حكما شرعيا فالأحكام تتبدل وتنسخ، جاءت بخبر أو أمر، ولا يرجع النسخ إلى نفس اللفظ وإنما يرجع إلى ما تضمنه، فإذا فهمتم هذا خرجتم عن الصنف الغبي الذي أخبر الله عن الكفار فيه بقوله:" وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ «1»". المعنى أنهم جهلوا أن الرب يأمر بما يشاء ويكلف ما يشاء، ويرفع من ذلك بعدل ما يشاء ويثبت ما يشاء وعنده أم الكتاب. قلت: هذا تشنيع شنيع حتى يلحق فيه العلماء الأخيار في قصور الفهم بالكفار، والمسألة أصولية، وهى أن الاخبار عن الأحكام الشرعية هل يجوز نسخها أم لا؟ اختلف في ذلك، والصحيح جوازه لهذه الآية وما كان مثلها، ولان الخبر عن مشروعية حكم ما يتضمن طلب ذلك المشروع، وذلك الطلب هو الحكم الشرعي الذي يستدل على نسخه. والله أعلم. وأما ما ذكروا من الأحاديث فالأول والثاني ضعيفان، لأنه عليه السلام قد روى عنه بالنقل الثابت أنه قال:" كل شراب أسكر فهو حرام" وقال:" كل مسكر خمر وكل مسكر حرام" وقال:" ما أسكر كثيره فقليله حرام". قال النسائي: وهؤلاء أهل الثبت والعدالة مشهورون
__________
(1). راجع ص 176 من هذا الجزء

بصحة النقل، وعبد الملك لا يقوم مقام واحد منهم ولو عاضده من أشكاله جماعة، وبالله التوفيق. وأما الثالث وإن كان صحيحا فإنه ما كان يسقيه للخادم على أنه مسكر، وإنما كان يسقيه لأنه متغير الرائحة. وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يكره أن توجد منه الرائحة، فلذلك لم يشربه، ولذلك تحيل عليه أزواجه في عسل زبيب بأن قيل له: إنا نجد منك ريح مغافير، يعنى ريحا منكرة، فلم يشربه بعد. وسيأتي في التحريم «1». وأما حديث ابن عباس فقد روى عنه خلاف ذلك من رواية عطاء وطاوس ومجاهد أنه قال:" ما أسكر كثيره فقليله حرام"، ورواه عنه قيس بن دينار. وكذلك فتياه في المسكر، قاله الدارقطني. والحديث الأول رواه عنه عبد الله ابن شداد وقد خالفه الجماعة، فسقط القول به مع ما ثبت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وأما ما روى عن عمر من قوله: ليس يقطعه في بطوننا إلا النبيذ، فإنه يريد غير المسكر بدليل ما ذكرنا. وقد روى النسائي عن عتبة بن فرقد قال: كان النبيذ الذي شربه عمر بن الخطاب قد خلل. قال النسائي: ومما يدل على صحة هذا حديث السائب، قال الحارث بن مسكين قراءة عليه وأنا أسمع عن ابن القاسم: حدثني مالك عن ابن شهاب عن السائب بن يزيد، أنه أخبره أن عمر بن الخطاب خرج عليهم فقال: إنى وجدت من فلان ريح شراب، فزعم أنه شراب الطلاء، وأنا سائل عما شرب، فإن كان مسكرا جلدته، فجلده عمر بن الخطاب رضى الله عنه الحد تاما. وقد قال في خطبته على منبر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أما بعد، أيها الناس فإنه نزل تحريم الخمر وهى من خمسة: من العنب والعسل والتمر والحنطة والشعير. والخمر ما خامر العقل. وقد تقدم في" المائدة «2»". فإن قيل: فقد أحل شربه إبراهيم النخعي وأبو جعفر الطحاوي وكان إمام أهل زمانه، وكان سفيان الثوري يشربه. قلنا: ذكر النسائي في كتابه أن أول من أحل المسكر من الأنبذة إبراهيم النخعي، وهذه زلة من عالم وقد حذرنا من زلة العالم، ولا حجة في قول أحد مع السنة «3». وذكر النسائي أيضا عن ابن المبارك قال: ما وجدت الرخصة في المسكر عن أحد صحيحا إلا عن إبراهيم. قال أبو أسامة: ما رأيت
__________
(1). راجع ج 18 ص 177.
(2). راجع ج 285.
(3). لعل ما يشربه النخعي وهو إمام- ليس من النبيذ المسكر فإن منه ما لم يبلغ حد الإسكار.

رجلا أطلب للعلم من عبد الله بن المبارك الشامات «1» ومصر واليمن والحجاز. وأما الطحاوي وسفيان لو صح ذلك عنهما لم يحتج بهما على من خالفهما من الأئمة في تحريم المسكر مع ما ثبت من السنة، على أن الطحاوي قد ذكر في كتابه الكبير في الاختلاف خلاف ذلك. قال أبو عمر بن عبد البر في كتاب التمهيد له: قال أبو جعفر الطحاوي اتفقت الامة على أن عصير العنب إذا اشتد وغلى وقذف بالزبد فهو خمر ومستحله كافر. واختلفوا في نقيع التمر إذا غلى وأسكر. قال: فهذا يدلك على أن حديث يحيى بن أبى كثير عن أبى هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال:" الخمر من هاتين الشجرتين النخلة والعنب" غير معمول به عندهم، لأنهم لو قبلوا الحديث لاكفروا مستحل نقيع التمر، فثبت أنه لم يدخل في الخمر المحرمة غير عصير العنب الذي قد اشتد وبلغ أن يسكر. قال: ثم لا يخلو من أن يكون التحريم معلقا بها فقط غير مقيس عليها غيرها أو يجب القياس عليها، فوجدناهم جميعا قد قاسوا عليها نقيع التمر إذا غلى وأسكر كثيره وكذلك نقيع الزبيب. قال: فوجب قياسا على ذلك أن يحرم كل ما أسكر من الأشربة. قال: وقد روى عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال:" كل مسكر حرام" واستغنى عن سنده لقبول الجميع له، وإنما الخلاف بينهم في تأويله، فقال بعضهم: أراد به جنس ما يسكر. وقال بعضهم: أراد به ما يقع السكر عنده كما لا يسمى قاتلا إلا مع وجود القتل. قلت: فهذا يدل على أنه محرم عند الطحاوي لقوله، فوجب قياسا على ذلك أن يحرم كل ما أسكر من الأشربة. وقد روى الدارقطني في سننه عن عائشة رضى الله عنها أنها قالت: إن الله لم يحرم الخمر لاسمها وإنما حرمها لعاقبتها، فكل شراب يكون عاقبته كعاقبة الخمر فهو حرام كتحريم الخمر. قال ابن المنذر: وجاء أهل الكوفة بأخبار معلولة، وإذا اختلف الناس في الشيء وجب رد ذلك إلى كتاب الله وسنة رسوله عليه السلام، وما روى عن بعض التابعين أنه شرب الشراب الذي يسكر كثيره فللقوم ذنوب يستغفرون
__________
(1). في حاشية السندي على سنن النسائي:" قوله الشامات، كأنه جمع على إرادة البلاد الشامية":

وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68)

الله منها، وليس يخلو ذلك من أحد معنيين: إما مخطئ أخطأ في التأويل على حديث سمعه، أو رجل أتى ذنبا لعله أن يكثر من الاستغفار لله تعالى، والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حجة الله على الأولين والآخرين من هذه الامة. وقد قيل في تأويل الآية: إنها إنما ذكرت للاعتبار، أي من قدر على خلق هذه الأشياء قادر على البعث، وهذا الاعتبار لا يختلف بأن كانت الخمر حلالا أو حراما، فاتخاذ السكر لا يدل على التحريم، وهو كما قال تعالى:" قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ «1»" والله أعلم.

[سورة النحل (16): آية 68]
وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68)
فيه ثلاث مسائل: الاولى- قوله تعالى: (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) قد مضى القول في الوحى وأنه قد يكون بمعنى «2» الإلهام، وهو ما يخلقه الله تعالى في القلب ابتداء من غير سبب ظاهر، وهو من قوله تعالى:" وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها. فَأَلْهَمَها فُجُورَها «3» وَتَقْواها". ومن ذلك البهائم وما يخلق الله سبحانه فيها من درك منافعها واجتناب مضارها وتدبير معاشها. وقد أخبر عز وجل بذلك عن الموات فقال:" تُحَدِّثُ أَخْبارَها. بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها «4»". قال إبراهيم الحربي. لله عز وجل في الموات قدرة لم يدر ما هي، لم يأتها رسول من عند الله ولكن الله تعالى عرفها ذلك، أي ألهمها. ولا خلاف بين المتأولين أن الوحى هنا بمعنى الإلهام. وقرا يحيى بن وثاب" إلى النحل" بفتح الحاء. وسمي نحلا لان الله عز وجل نحله العسل الذي يخرج منه، قاله الزجاج. الجوهري: والنحل والنحلة الدبر يقع على الذكر والأنثى، حتى يقال: يعسوب. والنحل يؤنث في لغة أهل الحجاز، وكل جمع ليس بينه وبين واحده إلا الهاء. وروى من حديث
__________
(1). راجع ج 3 ص 51.
(2). راجع ج 4 ص 85.
(3). راجع ج 20 ص 75. وص 145.
(4). راجع ج 20 ص 75. وص 145.

ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69)

أبى هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال:" الذبان كلها في النار يجعلها عذابا لأهل النار إلا النحل" ذكره الترمذي الحكيم في (نوادر الأصول). وروى عن ابن عباس قال: نهى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن قتل النملة والنحلة والهدهد والصرد «1»، خرجه أبو داود أيضا، وسيأتي في" النمل «2»" إن شاء الله تعالى. الثانية- قوله تعالى: (أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ) هذا إذا لم يكن لها مليك «3». (وَمِمَّا يَعْرِشُونَ) جعل الله بيوت النحل في هذه الثلاثة الأنواع، إما في الجبال وكواها، وإما في متجوف الأشجار وام فيما يعرش ابن آدم من الاجباح «4» والخلايا والحيطان وغيرها. وعرش معناه هنا هيأ، وأكثر ما يستعمل فيما يكون من إتقان الأغصان والخشب وترتيب ظلالها، ومنه العريش الذي صنع لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم بدر، ومن هذا لفظة العرش. يقال: عرش يعرش ويعرش (بكسر الراء وضمها)، وقرى بهما. قرأ ابن عامر بالضم وسائرهم بالكسر، واختلف في ذلك عن عاصم. الثالثة- قال ابن العربي: ومن عجيب ما خلق الله في النحل أن ألهمها لاتخاذ بيوتها مسدسة، فبذلك اتصلت حتى صارت كالقطعة الواحدة، وذلك أن الاشكال من المثلث إلى المعشر إذا جمع كل واحد منها إلى أمثاله لم يتصل وجاءت بينهما فرج، إلا الشكل المسدس، فإنه إذا جمع إلى أمثاله اتصل كأنه كالقطعة الواحدة.

[سورة النحل (16): آية 69]
ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69)
__________
(1). الصرد: طائر ضخم الرأس والمنقار له ريش عظيم نصفه أبيض ونصفه أسود يصيد صغار الطير.
(2). راجع ج 13 ص 169 فما بعد.
(3). كذا في ى. وفى أ: مالك.
(4). الاجباح: خلايا النحل في الجبل وفيها تعسل. [.....]

قوله تعالى: (ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) وذلك أنها إنما تأكل النوار من الأشجار. (فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ) أي طرق ربك. والسبل: الطرق، وأضافها إليه لأنه خالقها. أي ادخلي طرق ربك لطلب الرزق في الجبال وخلال الشجر. (ذُلُلًا) جمع ذلول وهو المنقاد، أي مطيعة مسخرة. ف" ذُلُلًا" حال من النحل. أي تنقاد وتذهب حيث شاء صاحبها، لأنها تتبع أصحابها حيث ذهبوا، قاله ابن زيد. وقيل: المراد بقوله" ذُلُلًا" السبل. واليعسوب سيد «1» النحل، إذا وقف وقفت وإذا سار سارت. قوله تعالى:" (يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ) فيه تسع مسائل: الاولى- قوله تعالى: (يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها) رجع الخطاب إلى الخبر على جهة تعديد النعمة والتنبيه على العبرة فقال:" يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ" يعنى العسل. وجمهور الناس على أن العسل يخرج من أفواه النحل، وورد عن على بن أبى طالب رضى الله عنه أنه قال في تحقيره للدنيا: أشرف لباس ابن آدم فيها لعاب دودة، وأشرف شرابه رجيع نحلة. فظاهر هذا أنه من غير الفم. وبالجملة فإنه يخرج ولا يدرى من فيها أو أسفلها، ولكن لا يتم صلاحه إلا بحمى أنفاسها. وقد صنع أرسطاطاليس بيتا من زجاج لينظر إلى كيفية ما تصنع، فأبت أن تعمل حتى لطخت باطن الزجاج بالطين، ذكره الغزنوي. وقال:" مِنْ بُطُونِها" لان استحالة الأطعمة لا تكون إلا في البطن. الثانية- قوله تعالى: (مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ) يريد أنواعه من الأحمر والأبيض والأصفر والجامد والسائل، والام واحدة والأولاد مختلفون دليل على أن القدرة نوعته بحسب تنويع الغذاء، كما يختلف طعمه بحسب اختلاف المراعى، ومن هذا المعنى قول زينب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" جرست نحله العرفط «2»" حين شبهت رائحته برائحة المغافير.
__________
(1). اليعسوب: هو الملكة وليس للنحل غيرها رئيسا وذكر النخل هو الذي يلقح الملكة ثم يموت، هذا الذي يقرره العلماء بهذا الجنس.
(2). الجرس: الأكل. والعرفط (بالضم): شجر الطلح، وله صمغ كريه الرائحة، فإذا أكلته النحل حصل في عسلها من ريحه. أي شربت عسلا أكلت نحلة من شجر الطلح.

الثالثة- قوله تعالى: (فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ) الضمير للعسل، قال الجمهور. أي في العسل شفاء للناس. وروى عن ابن عباس والحسن ومجاهد والضحاك والفراء وابن كيسان: الضمير للقرآن، أي في القرآن شفاء. النحاس: وهذا قول حسن، أو فيما قصصنا عليكم من الآيات والبراهين شفاء للناس. وقيل: العسل فيه شفاء، وهذا القول بين أيضا، لان أكثر الأشربة والمعجونات التي يتعالج بها أصلها من العسل. قال القاضي أبو بكر ابن العربي: من قال إنه القرآن بعيد ما أراه يصح عنهم، ولو صح نقلا لم يصح عقلا، فإن مساق الكلام كله للعسل، ليس للقرآن فيه ذكر. قال ابن عطية: وذهب قوم من أهل الجهالة إلى أن هذه الآية يراد بها أهل البيت وبنو هاشم، وأنهم النحل، وأن الشراب القرآن والحكمة، وقد ذكر هذا بعضهم في مجلس المنصور أبى جعفر العباسي، فقال له رجل ممن حضر: جعل الله طعامك وشرابك مما يخرج من بطون بنى هاشم، فاضحك الحاضرين وبهت الآخر وظهرت سخافة قوله. الرابعة- اختلف العلماء في قوله تعالى: فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ هل هو على عمومه أم لا، فقالت طائفة: هو على العموم في كل حال ولكل أحد، فروى عن ابن عمر أنه كان لا يشكو قرحة ولا شيئا إلا جعل عليه عسلا، حتى الدمل إذا خرج عليه طلى عليه عسلا. وحكى النقاش عن أبى وجرة أنه كان يكتحل بالعسل ويستمشى بالعسل ويتداوى بالعسل. وروى أن عوف بن مالك الأشجعي مرض فقيل له: ألا نعالجك؟ فقال: ائتوني بالماء، فإن الله تعالى يقول:" وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً «1» مُبارَكاً" ثم قال: ائتوني بعسل، فإن الله تعالى يقول:" فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ" وائتوني بزيت، فإن الله تعالى يقول:" مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ «2»" فجاءوه بذلك كله فخلطه جميعا ثم شربه فبرئ. ومنهم من قال: إنه على العموم إذا خلط بالخل ويطبخ فيأتي شرابا ينتفع به في كل حالة من كل داء. وقالت طائفة: إن ذلك على الخصوص ولا يقتضى العموم في كل علة وفى كل إنسان، بل إنه خبر عن أنه يشفى كما يشفى غيره من
__________
(1). راجع ج 17 ص 6. والظاهر أن المراد بالمبارك ماء المطر فإنه في غاية النقاء فهو شفاء من الأمراض مطهر من الجراثيم. محققة.
(2). راجع ج 12 ص 262.

الأدوية في بعض وعلى حال دون حال، ففائدة الآية إخبار منه في أنه دواء لما كثر الشفاء به وصار خليطا ومعينا للأدوية في الأشربة والمعاجين، وليس هذا بأول لفظ خصص فالقرآن مملوء منه ولغة العرب يأتي فيها العام كثيرا بمعنى الخاص والخاص بمعنى العام. ومما يدل على أنه ليس على العموم أن" شِفاءٌ" نكرة في سياق الإثبات، ولا عموم فيها باتفاق أهل اللسان ومحققي أهل العلم ومختلفى أهل الأصول. لكن قد حملته طائفة من أهل الصدق والعزم على العموم. فكانوا يستشفون بالعسل من كل الأوجاع والأمراض، وكانوا يشفون من عللهم ببركة القرآن وبصحة التصديق والإيقان. ابن العربي: ومن ضعفت نيته وغلبته على الدين عادته أخذه مفهوما على قول الأطباء، والكل من حكم الفعال لما يشاء. الخامسة- إن قال قائل: قد رأينا من ينفعه العسل ومن يضره، فكيف يكون شفاء للناس؟ قيل له: الماء حياة كل شي وقد رأينا من يقتله الماء إذا أخذه على ما يضاده من علة في البدن، وقد رأينا شفاء العسل في أكثر هذه الأشربة، قال معناه الزجاج. وقد اتفق الأطباء عن بكرة أبيهم على مدح عموم منفعة السكنجبين «1» في كل مرض، وأصله العسل وكذلك سائر المعجونات، على أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد حسم داء الاشكال وأزاح وجه الاحتمال حين أمر الذي يشتكى بطنه بشرب العسل، فلما أخبره أخوه بأنه لم يزده إلا استطلاقا أمره بعود الشراب له فبرئ، وقال:" صدق الله وكذب بطن أخيك". السادسة- اعترض بعض زنادقة الأطباء على هذا الحديث فقال: قد أجمعت الأطباء على أن العسل يسهل فكيف يوصف لمن به الإسهال، فالجواب أن ذلك القول حق في نفسه لمن حصل له التصديق بنبيه عليه السلام، فيستعمله على الوجه الذي عينه وفى المحل الذي أمره بعقد نية وحسن طوية، فإنه يرى منفعته ويدرك بركته، كما قد اتفق لصاحب هذا العسل وغيره كما تقدم. وأما ما حكى من الإجماع فدليل على جهله بالنقل حيث لم يقيد وأطلق. قال الامام أبو عبد الله المازري: ينبغي أن يعلم أن الإسهال يعرض من ضروب كثيرة، منها الإسهال
__________
(1). السكنجبين: شراب معرب، أي خل وعسل (عن الألفاظ الفارسية المعربة)

الحادث عن التخم والهيضات «1»، والأطباء مجمعون في مثل هذا على أن علاجه بأن يترك للطبيعة وفعلها، وإن احتاجت إلى معين على الإسهال أعينت ما دامت القوة باقية، فأما حبسها فضرر، فإذا وضح هذا قلنا: فيمكن أن يكون ذلك الرجل أصابه الإسهال عن امتلاء وهيضة فأمره النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشرب العسل فزاده إلى أن فنيت المادة فوقف الإسهال فوافقه شرب العسل. فإذا خرج هذا عن صناعة الطب أذن ذلك بجهل المعترض بتلك الصناعة. قال: ولسنا نستظهر على قول نبينا بأن يصدقه الأطباء بل لو كذبوه لكذبناهم ولكفرناهم وصدقناه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإن أوجدونا بالمشاهدة صحة ما قالوه فنفتقر حينئذ إلى تأويل كلام رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتخريجه على ما يصح إذ قامت الدلالة على أنه لا يكذب. السابعة- في قوله تعالى: (فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ) دليل على جواز التعالج بشرب الدواء وغير ذلك خلافا لمن كره ذلك من جلة العلماء، وهو يرد على الصوفية الذين يزعمون أن الولاية لا تتم إلا إذا رضى بجميع ما نزل به من البلاء، ولا يجوز له مداواة. ولا معنى لمن أنكر ذلك، روى الصحيح عن جابر عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال:" لكل داء دواء فإذا أصيب دواء الداء برأ بإذن الله". وروى أبو داود والترمذي عن أسامة بن شريك قال قالت الاعراب: ألا نتداوى يا رسول الله؟ قال:" نعم. يا عباد الله تداووا فإن الله لم يضع داء إلا وضع له شفاء أو دواء إلا داء واحد" قالوا: يا رسول الله وما هو؟ قال:" الهرم" لفظ الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح. ورو ي عن أبى خزامة عن أبيه قال: سألت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقلت: يا رسول الله، أرأيت رقى نسترقيها ودواء نتداوى به وتقاة نتقيها، هل ترد من قدر الله شيئا؟ قال:" هي من قدر الله" قال: حديث حسن، ولا يعرف لابي خزامة غير هذا الحديث. وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" إن كان في شي من أدويتكم خير ففي شرطة محجم أو شربة من عسل أو لذعة بنار وما أحب أن أكتوى" أخرجه الصحيح. والأحاديث في هذا الباب أكثر من أن تحصى. وعلى إباحة التداوي والاسترقاء
__________
(1). الهيضات: جمع هيضة، وهى انطلاق البطن.

جمهور العلماء. روى أن ابن عمر اكتوى من اللقوة «1» ورقي من العقرب. وعن ابن سيرين أن ابن عمر كان يسقى ولده الترياق «2». وقال مالك: لا بأس بذلك. وقد احتج من كره ذلك بما رواه أبو هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" دخلت أمة بقضها «3» وقضيضها الجنة كانوا لا يسرقون ولا يكتوون ولا يتطيرون" وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ". قالوا: فالواجب على المؤمن أن يترك ذلك اعتصاما بالله وتوكلا عليه وثقه به وانقطاعا إليه، فإن الله تعالى قد علم أيام المرض وأيام الصحة فلو حرص الخلق على تقليل ذلك أو زيادته ما قدروا، قال الله تعالى:" ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها «4»". وممن ذهب إلى هذا جماعة من أهل الفضل والأثر، وهو قول ابن مسعود وأبى الدرداء رضوان الله عليهم. دخل عثمان بن عفان على ابن مسعود في مرضه الذي قبض فيه فقال له عثمان: ما تشتكي؟ قال ذنوبي. قال: فما تشتهي؟ قال رحمة ربى. قال: ألا أدعو لك طبيبا؟ قال: الطبيب أمرضني ... وذكر الحديث. وسيأتي بكماله في فضل الواقعة إن شاء الله تعالى. وذكر وكيع قال: حدثنا أبو هلال عن معاوية بن قرة قال: مرض أبو الدرداء فعادوه وقالوا: ألا ندعو لك طبيبا؟ قال: الطبيب أضجعني. وإلى هذا ذهب الربيع بن خيثم. وكره سعيد بن جبير الرقى. وكان الحسن يكره شرب الأدوية كلها إلا اللبن والعسل. وأجاب الأولون عن الحديث بأنه لا حجة فيه، لأنه يحتمل أن يكون قصد إلى نوع من الكي مكروه بدليل كي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبيا يوم الأحزاب على أكحله «5» لما رمى. وقال:" الشفاء في ثلاثة" كما تقدم. ويحتمل أن يكون قصد إلى الرقى بما ليس في كتاب الله، وقد قال سبحانه وتعالى:" وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ «6»" على ما يأتي بيانه. ورقي أصحابه وأمرهم بالرقية، على ما يأتي بيانه.
__________
(1). اللقوة (بالفتح): مرض يعرض للوجه فيميله إلى أحد جانبيه.
(2). الترياق: ما يستعمل لدفع السم من الأدوية والماجين، وهو معرب.
(3). أي دخلوا مجتمعين، ينقض آخرهم على أولهم. وقال ابن الاعرابي: إن القض الحصى الصغار، أي دخلوا بالكبير والصغير.
(4). راجع ج 17 ص 194.
(5). الأكحل: عرق في وسط الذراع.
(6). راجع ص 315 من هذا الجزء.

وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70)

الثامنة- ذهب مالك وجماعة أصحابه إلى أن لا زكاة في العسل وإن كان مطعوما مقتاتا. واختلف فيه قول الشافعي، والذي قطع به في قوله الجديد: أنه لا زكاة فيه. وقال أبو حنيفة بوجوب زكاة العسل في قليله وكثيره، لان النصاب عنده فيه ليس بشرط. وقال محمد بن الحسن: لا شي فيه حتى يبلغ ثمانية أفراق «1»، والفرق ستة وثلاثون رطلا من أرطال العراق. وقال أبو يوسف: في كل عشرة أزقاق زق، متمسكا بما رواه الترمذي عن ابن عمر قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" في العسل في كل عشرة أزقاق زق" قال أبو عيسى: في إسناده مقال، ولا يصح عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذا الباب كبير شي، والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم، وبه يقول أحمد وإسحاق، وقال بعض أهل العلم: ليس في العسل شي. التاسعة- قوله تعالى: (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) أي يعتبرون، ومن العبرة في النحل بإنصاف النظر وإلطاف الفكر في عجيب أمرها. فيشهد اليقين بأن ملهمها الصنعة اللطيفة مع البنية الضعيفة، وحذقها باحتيالها في تفاوت أحوالها هو الله سبحانه وتعالى، كما قال:" وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ" الآية. ثم أنها تأكل الحامض والمر والحلو والمالح والحشائش الضارة «2»، فيجعله الله تعالى عسلا حلوا وشفاء، وفى هذا دليل على قدرته.

[سورة النحل (16): آية 70]
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70)
قوله تعالى: (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ) بين معناه. (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ) يعنى أردأه وأوضعه. وقيل: الذي ينقص قوته وعقله ويصيره إلى الخرف ونحوه. وقال ابن عباس: يعنى إلى أسفل العمر، يصير كالصبي الذي لا عقل له، والمعنى متقارب. وفى صحيح البخاري عن أنس بن مالك قال كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتعوذ يقول:
__________
(1). في ج وى:" خمسة أفراق".
(2). لم يصح هذا عند النحالين. محققة. [.....]

وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71)

اللهم إنى أعوذ بك من الكسل وأعوذ بك من الجبن وأعوذ بك من الهرم وأعوذ بك من البخل". وفى حديث سعد بن أبى وقاص" وأعوذ بك أن أرد إلى أرذل العمر" الحديث. خرجه البخار ي. (لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً) أي يرجع إلى حالة الطفولية فلا يعلم ما كان يعلم قبل من الأمور لفرط الكبر. وقد قيل: هذا لا يكون للمؤمن، لان المؤمن لا ينزع عنه علمه. وقيل: المعنى لكيلا يعمل بعد علم شيئا، فعبر عن العمل بالعلم لافتقاره إليه، لان تأثير الكبر في عمله أبلغ من تأثيره في علمه. والمعنى المقصود الاحتجاج على منكري البعث، أي الذي رده إلى هذه الحال قادر على أن يميته ثم يحييه.

[سورة النحل (16): آية 71]
وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71)
قوله تعالى: (وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ) أي جعل منكم غنيا وفقيرا وحرا وعبدا. (فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا) أي في الرزق. (بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) أي لا يرد المولى على ما ملكت يمينه مما رزق شيئا حتى يستوي المملوك والمالك في المال. وهذا مثل ضربه الله لعبدة الأصنام، أي إذا لم يكن عبيدكم معكم سواء فكيف تجعلون عبيدي معى سواء، فلما لم يكن يشركهم عبيدهم في أموالهم لم يجز لهم أن يشاركوا الله تعالى في عبادة غيره من الأوثان والأنصاب وغيرهما مما عبد، كالملائكة والأنبياء وهم عبيده وخلقه. حكى معناه الطبري، وقاله ابن عباس ومجاهد وقتادة وغيرهم. وعن ابن عباس أيضا أنها نزلت في نصارى نجران حين قالوا عيسى ابن الله فقال الله لهم:" فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ" أي لا يرد المولى على ما ملكت يمينه مما رزق حتى يكون المولى والعبد في المال شرعا سواء، فكيف ترضون لي ما لا ترضون لأنفسكم فتجعلون لي ولدا

وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72)

من عبيدي. ونظيرها" ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ «1»" على ما يأتي. ودل هذا على أن العبد لا يملك، على ما يأتي أنفا «2».

[سورة النحل (16): آية 72]
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72)
قوله تعالى: (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً) جعل بمعنى خلق وقد تقدم." مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً" يعنى آدم خلق منه حواء. وقيل: المعنى جعل لكم من أنفسكم، أي من جنسكم ونوعكم وعلى خلقتكم، كما قال:" لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ «3»" أي من الآدميين. وفى هذا رد على العرب التي كانت تعتقد أنها كانت تزوج الجن وتباضعها، حتى روى أن عمرو بن هند «4» تزوج منهم غولا وكان يخبؤها عن البرق لئلا تراه فتنفر، فلما كان في بعض الليالي لمع البرق وعاينته السعلاة «5» فقالت: عمرو! ونفرت، فلم يرها أبدا. وهذا من أكاذيبها، وإن كان جائزا في حكم الله وحكمته فهو رد على الفلاسفة الذين ينكرون وجود الجان ويحيلون طعامهم. (أَزْواجاً) زوج الرجل هي ثانيته، فإنه فرد فإذا انضافت إليه كانا زوجين، وإنما جعلت الإضافة إليه دونها لأنه أصلها في الوجود كما تقدم.
__________
(1). راجع ج 14 ص 22.
(2). يريد بعد قليل." آنفا" إنما تستعمل في الماضي القريب لا في المستقبل القريب.
(3). راجع ج 8 ص 301.
(4). كذا في نسخ الأصول وأحكام القرآن لابن العربي، والصواب أنه عمرو بن يربوع بن حنظلة بن مالك بن مناة، قال علياء بن أرقم:
يا قبحا لله بنى السعلاة ... عمرو بن يربوع شرار النات

راجع شرح التنوير على سقط الزند في شرح بيت أبى العلاء المعرى:
إذا لاح إيماض شرت وجوهها ... كأني عمرو والمطي سعالي

(5). السغلاة: أخبت الغيلان.

قوله تعالى: (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً) فيه خمس مسائل: الاولى- قوله تعالى: (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ) ظاهر في تعديد النعمة في الأبناء، ووجود الأبناء يكون منهما معا، ولكنه لما كان خلق المولود فيها وانفصاله عنها أضيف إليها، ولذلك تبعها في الرق والحرية وصار مثلها في المالية. قال ابن العربي: سمعت إمام الحنابلة بمدينة السلام أبا الوفاء على بن عقيل يقول: إنما تبع الولد الام في المالية وصار بحكمها في الرق والحرية، لأنه انفصل عن الأب نطفة لا قيمة له ولا مالية فيه ولا منفعة، وإنما اكتسب ما اكتسب بها ومنها فلأجل ذلك تبعها. كما لو أكل رجل تمر في أرض رجل وسقطت منه نواة في الأرض من يد الآكل فصارت نخلة فإنها ملك صاحب الأرض دون الآكل بإجماع من الامة لأنها انفصلت عن الآكل ولا قيمة لها. الثانية- قوله تعالى:" وَحَفَدَةً" روى ابن القاسم عن مالك قال: وسألته عن قوله تعالى:" بَنِينَ وَحَفَدَةً" قال: الحفدة الخدم والأعوان في رأيى. وروى عن ابن عباس في قوله تعالى:" وَحَفَدَةً" قال هم الأعوان، من أعانك فقد حفدك. قيل له: فهل تعرف العرب ذلك؟ قال نعم وتقول! أو ما سمعت قول الشاعر:
حفد الولائد حولهن وأسلمت ... بأكفهن أزمة الإجمال
أي أسرعن الخدمة. والولائد: الخدم، الواحدة وليدة، قال الأعشى:
كلفت مجهولها نوقا يمانية ... إذا الحداة على أكسائها حفدوا «1»
أي أسرعوا. وقال ابن عرفة: الحفدة عند العرب الأعوان، فكل من عمل عملا أطاع فيه وسارع فهو حافد، قال: ومنه قولهم" إليك نسعى ونحفد"، والحفدان السرعة. قال أبو عبيد: الحفد العمل والخدمة. وقال الخليل بن أحمد: الحفدة عند العرب الخدم، وقاله مجاهد. وقال الأزهري: قيل الحفدة أولاد الأولاد. وروى عن ابن عباس. وقيل الأختان، قاله ابن مسعود وعلقمة وأبو الضحا وسعيد بن جبير وإبراهيم،
__________
(1). الاكساء: جمع كسى (بالضم) وهو مؤخر العجز.

ومنه قول الشاعر «1»:
فلو أن نفسي طاوعتني لأصبحت ... لها حفد ما يعد كثير
ولكنها نفس على أبية ... عيوف لإصهار «2» اللئام قذور
وروى زر عن عبد الله قال: الحفدة الأصهار، وقاله إبراهيم، والمعنى متقارب. قال الأصمعي: الختن من كان من قبل المرأة، مثل أبيها وأخيها وما أشبههما، والأصهار منها جميعا. يقال: أصهر فلان إلى بنى فلان وصاهر. وقول عبد الله هم الأختان، يحتمل المعنيين جميعا. يحتمل أن يكون أراد أبا المرأة وما أشبهه من أقربائها، ويحتمل أن يكون أراد وجعل لكم من أزواجكم بنين وبنات تزوجونهن، فيكون لكم بسببهن أختان. وقال عكرمة: الحفدة من نفع الرجال من ولده، وأصله من حفد يحفد (بفتح العين في الماضي وكسرها في المستقبل) إذا أسرع في سيره، كما قال كثير «3»:
حفد الولائد بينهن ...

البيت.
ويقال: حفدت وأحفدت، لغتان إذا خدمت. ويقال: حافد وحفد، مثل خادم وخدم، وحافد وحفدة مثل كافر وكفرة. قال المهدوي: ومن جعل الحفدة الخدم جعله منقطعا مما قبله ينوي به التقديم، كأنه قال: جعل لكم حفدة وجعل لكم من أزواجكم بنين. قلت: ما قال الأزهري من أن الحفدة أولاد الأولاد هو ظاهر القرآن بل نصه، ألا ترى أنه قال:" وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً" فجعل الحفدة والبنين منهن. وقال ابن العربي: الأظهر عندي في قوله" بَنِينَ وَحَفَدَةً" أن البنين أولاد الرجل لصلبه والحفدة أولاد ولده، وليس في قوة اللفظ أكثر من هذا، ويكون تقدير الآية على هذا: وجعل لكم من أزواجكم بنين ومن البنين حفدة. وقال معناه الحسن. الثالثة- إذا فرعنا على قول مجاهد وابن عباس ومالك وعلماء اللغة في قولهم إن الحفدة الخدم والأعوان، فقد خرجت خدمة الولد والزوجة من القرآن بأبدع بيان، قاله ابن العربي
__________
(1). هو جميل.
(2). في البحر: لأصاب.
(3). تقدم استشهاد ابن عباس به فلا يصح أن يكون لكثير عزة.

روى البخاري وغيره عن سهل بن سعد أن أبا أسيد الساعدي دعا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعرسه فكانت امرأته خادمهم ... الحديث، وقد تقدم في سورة" هود «1»". وفى الصحيح عن عائشة قالت: أنا فتلت قلائد بدن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيدي. الحديث. ولهذا قال علماؤنا: عليها أن تفرش الفراش وتطبخ القدر وتقم الدار، بحسب حالها وعادة مثلها، قال الله تعالى:" وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها «2»" فكأنه جمع لنا فيها السكن والاستمتاع وضربا من الخدمة بحسب جرى العادة. الرابعة- ويخدم الرجل زوجته فيما خف من الخدمة ويعينها، لما روته عائشة أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يكون في مهنة أهله فإذا سمع الأذان خرج. وهذا قول مالك: ويعينها. وفى أخلاق النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنه كان يخصف النعل ويقم البيت ويخيط الصوب. وقالت عائشة وقد قيل لها: ما كان يعمل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بيته؟ قالت: كان بشرا من البشر يفلي «3» ثوبه ويحلب شاته ويخدم نفسه. الخامسة- وينفق على خادمة واحدة، وقيل: على أكثر، على قدر الثروة والمزلة. وهذا أمر دائر على العرف الذي هو أصل من أصول الشريعة، فإن نساء الاعراب وسكان البوادي يخدمن أزواجهن (حتى «4» في استعذاب الماء وسياسة الدواب، ونساء الحواضر يخدم المقل منهم زوجته فيما خف ويعينها، وأما أهل الثروة فيخدمون «5» أزواجهم ويترفهن معهم إذا كان لهم منصب ذلك، فإن كان أمرا مشكلا شرطت عليه الزوجة ذلك، فتشهد أنه قد عرف أنها ممن لا تخدم نفسها فالتزم أحد أمها، فينفذ ذلك وتنقطع الدعوى فيه. قوله تعالى: (وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) أي من الثمار والحبوب والحيوان. (أَفَبِالْباطِلِ) يعنى الأصنام، قاله ابن عباس. (يُؤْمِنُونَ) قراءة الجمهور بالياء. وقرا أبو عبد الرحمن بالتاء (وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ) أي بالإسلام. (هُمْ يَكْفُرُونَ).
__________
(1). راجع ج 9 ص 68.
(2). راجع ج 7 ص 337.
(3). يفلي ثوبه مما يناله من بعض الجلساء أن عنصره صلوات الله عليه في غاية الصفا والنقا الخالص.
(4). من ابن العربي.
(5). كذا في ابن العربي والعبارة له. [.....]

وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ (73)

[سورة النحل (16): الآيات 73 الى 74]
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ (73) فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (74)
قوله تعالى: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ (73) فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (74) قوله تعالى: (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ) يعنى المطر. (وَالْأَرْضِ) يعنى النبات. (شَيْئاً) قال الأخفش: هو بدل من الرزق. وقال الفراء: هو منصوب بإيقاع الرزق عليه، أي يعبدون ما لا يملك أن يرزقهم شيئا. (وَلا يَسْتَطِيعُونَ) أي لا يقدرون على شي، يعنى الأصنام. (فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ) أي لا تشبهوا به هذه الجمادات، لأنه واحد قادر لا مثل له. وقد تقدم.

[سورة النحل (16): آية 75]
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (75)
فيه خمس مسائل: الاولى- قوله تعالى: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا) نبه تعالى على ضلالة المشركين، وهو منتظم بما قبله من ذكر نعم الله عليهم وعدم مثل ذلك من آلهتهم." ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا" أي بين شبها، ثم ذكر ذلك فقال: (عَبْداً مَمْلُوكاً) أي كما لا يستوي عندكم عبد مملوك لا يقدر من أمره على شي ورجل حر قد رزق رزقا حسنا فكذلك أنا وهذه الأصنام. فالذي هو مثال في هذه الآية هو عبد بهذه الصفة مملوك لا يقدر على شي من المال ولا من أمر نفسه، وإنما هو مسخر بإرادة سيده. ولا يلزم من الآية أن العبيد كلهم بهذه الصفة، فإن النكرة في الإثبات لا تقتضي الشمول عند أهل اللسان كما تقدم، وإنما تفيد واحدا، فإذا كانت بعد أمر أو نهى أو مضافة إلى مصدر كانت للعموم الشيوعي، كقوله: أعتق رجلا ولا تهن

رجلا، والمصدر كإعتاق رقبة، فأي رجل أعتق فقد خرج عن عهدة الخطاب، ويصح منه الاستثناء. وقال قتادة: هذا المثل للمؤمن والكافر، فذهب قتادة إلى أن العبد المملوك هو الكافر، لأنه لا ينتفع في الآخرة بشيء من عبادته، وإلى أن معنى" وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً" المؤمن. والأول عليه الجمهور من أهل (العلم «1» والتأويل. قال الأصم: المراد بالعبد المملوك الذي ربما يكون أشد من مولاه أسرا «2» وأنضر وجها، وهو لسيده ذليل لا يقدر إلا على ما أذن له فيه، فقال الله تعالى ضربا للمثال. أي فإذا كان هذا شأنكم وشأن عبيدكم فكيف جعلتم أحجارا مواتا شركاء لله تعالى في خلقه وعبادته، وهى لا تعقل ولا تسمع. الثانية- فهم المسلمون من هذه الآية ومما قبلها نقصان رتبة العبد عن الحر في الملك، وأنه لا يملك شيئا وإن ملك. قال أهل العراق: الرق ينافي الملك، فلا يملك شيئا البتة بحال، وهو قول الشافعي في الجديد، وبه قال الحسن وابن سيرين. ومنهم من قال: يملك إلا أنه ناقص الملك، لان لسيده أن ينتزعه منه أي وقت شاء، وهو قول مالك ومن اتبعه، وبه قال الشافعي في القديم. وهو قول أهل الظاهر، ولهذا قال أصحابنا: لا تجب عليه عبادة الأموال من زكاة وكفارات، ولا من عبادات الأبدان ما يقطعه عن خدمة سيده كالحج والجهاد وغير ذلك. وفائدة هذه المسألة أن سيده لو ملكه جارية جاز له أن يطأها بملك اليمين، ولو ملكه أربعين من الغنم فحال عليها الحول لم تجب على السيد زكاتها لأنها ملك غيره، ولا على العبد لان ملكه غير مستقر. والعراقي يقول: لا يجوز له أن يطأ الجارية، والزكاة في النصاب واجبة على السيد كما كانت. ودلائل هذه المسألة للفريقين في كتب الخلاف. وأدل دليل لنا قوله تعالى:" اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ «3»" فسوى بين العبد والحر في الرزق والخلق. وقال عليه السلام: من أعتق عبدا وله مال ..." فأضاف المال إليه. وكان ابن عمر يرى عبده يتسرى في ماله فلا يعيب عليه ذلك. وروى عن ابن عباس أن عبدا له طلق امرأته طلقتين فأمره أن يرتجعها بملك اليمين، فهذا دليل على أنه يملك ما بيده ويفعل فيه ما يفعل المالك في ملكه ما لم ينتزعه سيده. والله أعلم.
__________
(1). من ى.
(2). الأسر: الخلق.
(3). راجع ج 14 ص 40.

الثالثة- وقد استدل بعض العلماء بهذه الآية على أن طلاق العبد بيد سيده، وعلى أن بيع الامة طلاقها، معولا على قوله تعالى:" لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ". قال: فظاهره يفيد أنه لا يقدر على شي أصلا، لا على الملك ولا على غيره فهو على عمومه، إلا أن يدل دليل على خلافه. وفيما ذكرناه عن ابن عمر وابن عباس ما يدل على التخصيص. والله تعالى أعلم. والرابعة- قال أبو منصور في عقيدته «1»: الرزق ما وقع الاغتذاء به. وهذه الآية ترد هذا التخصيص، وكذلك قوله تعالى:" وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ «2»". و" أَنْفِقُوا «3» مِمَّا رَزَقْناكُمْ" وغير ذلك من قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" جعل رزقي تحت ظل رمحي" وقوله:" أرزاق أمتي في سنابك خيلها وأسنة رماحها". فالغنيمة كلها رزق، وكل ما صح به الانتفاع فهو رزق، وهو مراتب: أعلاها ما يغذى. وقد حصر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجوه الانتفاع في قوله:" يقول ابن آدم مالى مالى وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت". وفى معنى اللباس يدخل الركوب وغير ذلك. وفى ألسنة المحدثين: السماع رزق، يعنون سماع الحديث، وهو صحيح. الخامسة- قوله تعالى: (وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً) هو المؤمن، يطيع الله في نفسه وماله. والكافر ما لم ينفق في الطاعة صار كالعبد الذي لا يملك شيئا." هَلْ يَسْتَوُونَ" أي لا يستوون، ولم يقل يستويان لمكان" مَنْ" لأنه اسم مبهم يصلح للواحد والاثنين والجمع والمذكر والمؤنث. وقيل: ان" عَبْداً مَمْلُوكاً"،" وَمَنْ رَزَقْناهُ" أريد بهما الشيوع في الجنس. (الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أي هو مستحق للحمد دون ما يعبدون من دونه، إذ لا نعمة للأصنام عليهم من يد ولا معروف فتحمد عليه، إنما الحمد الكامل لله، لأنه المنعم الخالق." بَلْ أَكْثَرُهُمْ" أي أكثر المشركين." لا يَعْلَمُونَ" أن الحمد لي، وجميع النعمة منى. وذكر الأكثر وهو يريد الجميع، فهو خاص أريد به التعميم. وقيل: أي بل أكثر الخلق لا يعلمون، وذلك أن أكثرهم المشركون.
__________
(1). العقيدة: اسم كتاب لابي منصور الماتريدى، وهو محمد بن محمد بن محمود مات بسمرقند سنة 333 هـ. راجع كشف الظنون وتاج التراجم في زبقات الحنيفة.
(2). راجع ج 1 ص 177.
(3). راجع ج 2 ص 265.

وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (76)

[سورة النحل (16): آية 76]
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (76)
قوله تعالى: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ) هذا مثل آخر ضربه الله تعالى لنفسه وللوثن، فالأبكم الذي لا يقدر على شي هو الوثن، والذي يأمر بالعدل هو الله تعالى، قاله قتادة وغيره. وقال ابن عباس: الأبكم عبد كان لعثمان رضى الله عنه، وكان يعرض عليه الإسلام فيأبى، ويأمر بالعدل عثمان. وعنه أيضا أنه مثل لابي بكر الصديق ومولى له كافر. وقيل: الأبكم أبو جهل، والذي يأمر بالعدل عمار بن ياسر العنسي، وعنس (بالنون) حي من مذحج، وكان حليفا لبنى مخزوم رهط أبى جهل، وكان أبو جهل يعذبه على الإسلام ويعذب أمه سمية، وكانت مولاة لابي جهل، وقال لها ذات يوم: إنما آمنت بمحمد لأنك تحبينه لجماله، ثم طعنها بالرمح في قبلها فماتت، فهي أول شهيد مات في الإسلام، رحمها الله. من كتاب النقاش وغيره. وسيأتي هذا في آية الإكراه مبينا «1» إن شاء الله تعالى. وقال عطاء: الأبكم أبى بن خلف، كان لا ينطق بخير. (وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ) أي قومه لأنه كان يؤذيهم ويؤذى عثمان بن مظعون. وقال مقاتل: نزلت في هشام بن عمرو بن الحارث، كان كافرا قليل الخير يعادى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقيل: إن الأبكم الكافر، والذي يأمر بالعدل المؤمن جملة بجملة، روى عن ابن عباس وهو حسن لأنه يعم. والأبكم الذي لا نطق له. وقيل الذي لا يعقل. وقيل الذي لا يسمع ولا يبصر. وفى التفسير إن الأبكم ها هنا الوثن. بين أنه لا قدرة له ولا أمر، وأن غيره ينقله وينحته فهو كل عليه. والله الآمر بالعدل، الغالب على كل شي. وقيل:" وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ" أي ثقل على وليه وقرابته، ووبال على صاحبه وابن عمه. وقد يسمى اليتيم كلا لثقله على من يكفله، ومنه قول الشاعر:
أكول لمال الكل قبل شبابه ... إذا كان عظم الكل غير شديد
__________
(1). راجع ص 180 وما بعدها من هذ الجزء.

وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77)

والكل أيضا الذي لا ولد له ولا والد. والكل العيال، والجمع الكلول، يقال منه: كل السكين كلا أي غلظت شفرته فلم يقطع. (أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ) قرأ الجمهور" يُوَجِّهْهُ" وهو خط المصحف، أي أينما يرسله صاحبه لا يأت بخير، لأنه لا يعرف ولا يفهم ما يقال له ولا يفهم عنه. وقرا يحيى بن وثاب" أَيْنَما يُوَجِّهْهُ" على الفعل المجهول. (وروى «1» عن ابن مسعود) أيضا" توجه" على الخطاب. (هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ. وَهُوَ. عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي هل يستوي هذا الأبكم ومن يأمر بالعدل وهو على الصراط المستقيم.

[سورة النحل (16): آية 77]
وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77)
قوله تعالى: (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) تقدم معناه «2» وهذا متصل بقوله:" إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ" أي شرع التحليل والتحريم إنما يحسن ممن يحيط بالعواقب والمصالح وأنتم أيها المشركون لا تحيطون بها فلم تتحكمون. (وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ) وتجازون فيها بأعمالكم. والساعة هي الوقت الذي تقوم فيه القيامة، سميت ساعة لأنها تفجأ الناس في ساعة فيموت الخلق بصيحة. واللمح النظر بسرعة، يقال لمحه لمحا ولمحانا. ووجه التأويل أن الساعة لما كانت آتية ولا بد جعلت من القرب كلمح البصر. وقال الزجاج: لم يرد أن الساعة تأتى في لمح البصر، وإنما وصف سرعة القدرة على الإتيان بها، أي يقول للشيء كن فيكون. وقيل: إنما مثل بلمح البصر لأنه يلمح السماء مع ما هي عليه من البعد من الأرض. وقيل: هو تمثيل للقرب، كما يقول القائل: ما السنة إلا لحظة، وشبهه. وقيل: المعنى هو عند الله كذلك لا عند المخلوقين، دليله قوله:" إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً. وَنَراهُ قَرِيباً «3»". (أَوْ هُوَ أَقْرَبُ) ليس" أَوْ" للشك بل للتمثيل بأيهما أراد الممثل. وقيل: دخلت لشك المخاطب. وقيل:" أَوْ" بمنزلة بل. (إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) تقدم «4».
__________
(1). من ى.
(2). راجع ج 9 ص 177.
(3). راجع ج 18 ص 283.
(4). راجع ج 1 ص 224.

وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78)

[سورة النحل (16): آية 78]
وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78)
قوله تعالى: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً) ذكر أن من نعمه أن أخرجكم من بطون أمهاتكم أطفالا لا علم لكم بشيء. وفية ثلاثة أقاويل: أحدها- لا تعلمون شيئا مما أخذ عليكم من الميثاق في أصلاب آبائكم. الثاني- لا تعلمون شيئا مما قضى عليكم من السعادة والشقاء. الثالث- لا تعلمون شيئا من منافعكم، وتم الكلام، ثم ابتدأ فقال: (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ) أي التي تعلمون بها وتدركون، لان الله جعل ذلك لعباده قبل إخراجهم من البطون وإنما أعطاهم ذلك بعد ما أخرجهم، أي وجعل لكم السمع لتسمعوا به الامر والنهى، والأبصار لتبصروا بها آثار صنعه، والأفئدة لتصلوا بها إلى معرفته." وَالْأَفْئِدَةَ" جمع الفؤاد نحو غراب وأغربه. وقد قيل في ضمن قوله:" وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ" إثبات النطق لان من لم يسمع لم يتكلم، وإذا وجدت حاسة السمع وجد النطق. وقرا الأعمش وابن وثاب وحمزة" أُمَّهاتِكُمْ" هنا وفى النور «1» والزمر «2» والنجم «3»، بكسر الهمزة والميم. وأما الكسائي فكسر الهمزة وفتح الميم، وإنما كان هذا للاتباع. الباقون بضم الهمزة وفتح الميم على الأصل. واصل الأمهات: أمات، فزيدت الهاء تأكيدا كما زادوا هاء في أهرقت الماء وأصله أرقت. وقد تقدم هذا المعنى في" الفاتحة «4»". (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) فيه تأويلان: أحدهما: تشكرون نعمه. الثاني- يعنى تبصرون آثار صنعته، لان إبصارها يؤدى إلى الشكر.

[سورة النحل (16): آية 79]
أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللَّهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79)
__________
(1). راجع ج 12 ص 311.
(2). راجع ج 15 ص 234.
(3). راجع ج 17 ص 105. [.....]
(4). راجع ج 1 ص 148.

وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (80)

قوله تعالى: (أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ) قرأ يحيى بن وثاب والأعمش وابن عامر وحمزة ويعقوب" تروا" بالتاء على الخطاب، واختاره أبو عبيد. الباقون بالياء على الخبر. (مُسَخَّراتٍ) مذللات لأمر الله تعالى، قاله الكلبي. وقيل:" مُسَخَّراتٍ" مذللات لمنافعكم. (فِي جَوِّ السَّماءِ) الجو ما بين السماء والأرض، وأضاف الجو الى السماء لارتفاعه عن الأرض. وفى قوله" مُسَخَّراتٍ" دليل على مسخر سخرها ومدبر مكنها من التصرف. (ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ) في حال القبض والبسط والاصطفاف. بين لهم كيف يعتبرون بها على وحدانيته. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ) أي علامات وعبرا ودلالات. (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) بالله وبما جاءت به رسلهم «1».

[سورة النحل (16): آية 80]
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (80)
فيه عشر «2» مسائل: الاولى- قوله تعالى: (جَعَلَ لَكُمْ) معناه صير. وكل ما علاك فأظلك فهو سقف وسماء، وكل ما أقلك فهو أرض، وكل ما سترك من جهاتك الأربع فهو جدار، فإذا انتظمت واتصلت فهو بيت. وهذه الآية فيها تعديد نعم الله تعالى على الناس في البيوت، فذكر أولا بيوت المدن وهى التي للإقامة الطويلة. وقوله: (سَكَناً) أي تسكنون فيها وتهدأ جوارحكم من الحركة، وقد تتحرك فيه وتسكن في غيره، إلا أن القول خرج على الغالب. وعد هذا في جملة النعم فإنه لو شاء خلق العبد مضطربا أبدا كالأفلاك لكان ذلك كما خلق وأراد، لو خلقه ساكنا كالأرض لكان كما خلق وأراد، ولكنه أوجده خلقا يتصرف للوجهين، ويختلف حاله بين الحالتين، وردده كيف وأين. والسكن مصدر يوصف به الواحد والجمع. ثم ذكر تعالى بيوت القلة والرحلة وهى:
__________
(1). في ج وو: رسلهم.
(2). اضطربت الأصول في عد هذه المسائل.

الثانية- فقال (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها) أي من الأنطاع والأدم." بُيُوتاً" يعنى الخيام والقباب يخف عليكم حملها في الاسفار. (يَوْمَ ظَعْنِكُمْ) الظعن: سير البادية في الانتجاع «1» والتحول من موضع إلى موضع، ومنه قول عنترة:
ظعن الذين فراقهم أتوقع ... وجرى ببينهم الغراب الأبقع
والظعن الهودج أيضا، قال:
ألا هل هاجك الأظعان إذ بانوا ... وإذ جادت بوشك البين غربان
وقرئ بإسكان العين وفتحها كالشعر والشعر. وقيل: يحتمل أن يعم (به «2» بيوت الأدم وبيوت الشعر وبيوت الصوف، لان هذه من الجلود لكونها ثابتة فيها، نحا إلى ذلك ابن سلام. وهو احتمال حسن، ويكون قوله" وَمِنْ أَصْوافِها" ابتداء كلام، كأنه قال جعل أثاثا، يريد الملابس والوطاء، وغير ذلك، قال الشاعر:
أهاجتك الظعائن يوم بانوا ... بذي الزي الجميل من الأثاث
ويحتمل أن يريد بقوله" مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ" بيوت الأدم فقط كما قدمناه أولا. ويكون قوله" وَمِنْ أَصْوافِها" عطفا على قوله" مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ" أي جعل بيوتا أيضا. قال ابن العربي:" وهذا أمر انتشر في تلك الديار، وعزبت عنه بلادنا، فلا تضرب الأخبية عندنا إلا من الكتان والصوف، وقد كان للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبة من أدم، وناهيك من أدم الطائف غلاء في القيمة، واعتلاء في الصنعة، وحسنا في البشرة، ولم يعد ذلك صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ترفا ولا رآه سرفا، لأنه مما امتن الله سبحانه من نعمته وأذن فيه من متاعه، وظهرت وجوه منفعته في الاكتنان والاستظلال الذي لا يقدر على الخروج عنه جنس الإنسان. ومن غريب ما جرى أنى زرت بعض المتزهدين من الغافلين مع بعض المحدثين، فدخلنا عليه في خباء كتان فعرض عليه صاحبي المحدث أن يحمله إلى منزله ضيفا، وقال: إن هذا موضع يكثر فيه الحر والبيت أرفق بك وأطيب لنفسي فيك، فقال: هذا الخباء لنا كثير، وكان
__________
(1). النجعة والانتجاع: طلب الكلا ومساقط الغيث.
(2). من ج وى.

في صنعنا من الحقير، فقلت: ليس كما زعمت فقد كان لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو رئيس الزهاد قبة من أدم طائفي يسافر معها ويستظل بها، فبهت، ورأيته على منزلة من العي فتركته مع صاحبي وخرجت عنه. الثالثة-: (. مِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها) أذن الله سبحانه بالانتفاع بصوف الغنم ووبر الإبل وشعر المعز، كما أذن في الأعظم، وهو ذبحها واكل لحومها، ولم يذكر القطن والكتان لأنه لم يكن في بلاد العرب المخاطبين به، وإنما عدد عليهم ما أنعم به عليهم، وخوطبوا فيما عرفوا بما فهموا. وما قام مقام هذه وناب منابها فيدخل في الاستعمال والنعمة مدخلها، وهذا كقوله تعالى:" وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ «1»" فخاطبهم بالبرد لأنهم كانوا يعرفون نزوله كثيرا عندهم، وسكت عن ذكر الثلج، لأنه لم يكن في بلادهم، وهو مثله في الصفة والمنفعة، وقد ذكرهما النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معا في التطهير فقال:" اللهم اغسلني بماء وثلج وبرد". قال ابن عباس: الثلج شي أبيض ينزل من السماء وما رأيته قط. وقيل: إن ترك ذكر القطن والكتان إنما كان إعراضا عن الترف، إذ ملبس عباد الله الصالحين إنما هو الصوف" وهذا فيه نظر، فإنه سبحانه يقول:" يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ" حسبما تقدم بيانه في" الأعراف «2»" وقال هنا:" وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ" فأشار إلى القطن والكتان في لفظة" سَرابِيلَ" والله أعلم. و" أَثاثاً
" قال الخليل: متاعا منضما بعضه إلى بعض، من أث إذا كثر. قال:
وفرع يزين المتن أسود فاحم ... أثيث كقنو النخلة المتعثكل «3»
ابن عباس:" أَثاثاً" ثيابا. وتضمنت هذه الآية جواز الانتفاع بالاصواف والأوبار والاشعار على كل حال، ولذلك قال أصحابنا: صوف الميتة وشعرها طاهر يجوز
__________
(1). راجع ج 12 ص 289.
(2). راجع ج 7 ص 182.
(3). البيت من معلقة امرئ القيس. والفرع: الشعر التام و. والمتن والمتنة: ما عن يمين الصلب وشماله من العصب واللحم. والفاحم: الشديد السواد. والقنو (بالكسر والضم): العذق وهو شمراخ. والمتعثكل: الذي قد دخل بعضه في بعض لكثرته.

الانتفاع به على كل حال، ويغسل مخافة أن يكون علق به وسخ، وكذلك روت أم سلمة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال:" لا بأس بجلد الميتة إذا دبغ وصوفها وشعرها إذا غسل «1»" لأنه مما لا يحله الموت، سواء كان شعر ما يؤكل لحمه أو لا، كشعر ابن آدم والخنزير، فإنه طاهر كله، وبه قال أبو حنيفة، ولكنه زاد علينا فقال: القرن والسن والعظم مثل الشعر، قال: لان هذه الأشياء كلها لا روح فيها لا تنجس بموت الحيوان. وقال الحسن البصري والليث بن سعد والأوزاعي: إن الشعور كلها نجسة ولكنها تطهر بالغسل. وعن الشافعي ثلاث روايات: الاولى- طاهرة لا تنجس بالموت. الثانية- تنجس. الثالثة- الفرق بين شعر ابن آدم وغيره، فشعر ابن آدم طاهر وما عداه نجس. ودليلنا عموم قوله تعالى:" وَمِنْ أَصْوافِها" الآية. فمن علينا بأن جعل لنا الانتفاع بها، ولم يخصي شعر الميتة من المذكاة، فهو عموم إلا أن 0 يمنع منه دليل. وأيضا فإن الأصل كونها طاهرة قبل الموت بإجماع، فمن زعم أنه انتقل إلى نجاسة فعليه الدليل. فإن قيل قوله:" حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ «2»" وذلك عبارة عن الجملة. قلنا: نخصه بما ذكرنا، فإنه منصوص عليه في ذكر الصوف، وليس في آيتكم ذكره صريحا، فكان دليلنا أولى. والله أعلم. وقد عول الشيخ الامام أبو إسحاق إمام الشافعية ببغداد على أن الشعر جزء متصل بالحيوان خلقة، فهو ينمى بنمائه ويتنجس بموته كسائر الاجزاء. وأجيب بأن الماء ليس بدليل على الحياة، لان النبات ينمى وليس بحي. وإذا عولوا على النماء المتصل لما على الحيوان عولنا نحن على الإبانة التي تدل على عدم الاحساس الذي يدل على عدم الحياة. وأما ما ذكره الحنفيون في العظم والسن والقرن أنه مثل الشعر، فالمشهور عندنا أن ذلك نجس كاللحم. وقال ابن وهب مثل قول أبى حنيفة. ولنا قول ثالث- هل تلحق أطراف القرون والأظلاف بأصولها أو بالشعر، قولان. وكذلك الشعرى من الريش حكمه حكم الشعر، والعظمى منه حكمه حكمه. ودليلنا قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" لا تنتفعوا من الميتة بشيء" وهذا عام فيها وفى كل جزء منها، إلا ما قام دليله، ومن الدليل القاطع على ذلك قوله تعالى:" قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ «3»"،
__________
(1). والحديث المشهور" أيها أهاب دبغ قد طهر" رواه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجة.
(2). راجع ج 6 ص 47.
(3). راجع ج 15 ص 58.

وقال تعالى:" وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها «1»"، وقال:" فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً «2»"، وقال:" أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً «3»" فالأصل هي العظام، والروح والحياة فيها كما في اللحم والجلد. وفى حديث عبد الله بن عكيم:" لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب". فإن قيل: قد ثبت في الصحيح أن النبي صلى اله عليه وسلم قال في شاة ميمونة:" ألا انتفعتم بجلدها"؟ فقالوا: يا رسول الله، إنها ميتة. فقال:" إنما حرم أكلها" والعظم لا يؤكل. قلنا: العظم يؤكل، وخاصة عظم الحمل «4» الرضيع والجدى والطير، وعظم الكبير يشوى ويؤكل. وما ذكرناه قبل يدل على وجود الحياة فيه، وما كان طاهرا بالحياة ويستباح بالذكاة ينجس بالموت. والله أعلم. الرابعة- قوله تعالى- (مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ) عام في جلد الحي والميت، فيجوز الانتفاع بجلود الميتة وإن لم تدبغ، وبه قال ابن شهاب الزهري والليث بن سعد. قال الطحاوي: لم نجد عن أحد من الفقهاء جواز بيع جلد الميتة قبل الدباغ إلا عن الليث. قال أبو عمر: يعنى من الفقهاء أئمة الفتوى بالأمصار بعد التابعين، وأما ابن شهاب فذلك عنه صحيح، وهو قول أباه جمهور أهل العلم. وقد روى عنهما خلاف هذا القول، والأول أشهر. قلت: قد ذكر الدارقطني في سننه حديث يحيى بن أيوب عن يونس وعقيل عن الزهري، وحديث بقية عن الزبيدي، وحديث محمد بن كثير العبدى وأبى سلمة المنقري عن سليمان بن كثير عن الزهري، وقال في آخرها: هذه أسانيد صحاح. السادسة «5»- اختلف العلماء في جلد الميتة إذا دبغ هل يطهر أم لا، فذكر ابن عبد الحكم عن مالك ما يشبه مذهب ابن شهاب في ذلك. وذكره ابن خويز منداد في كتابه عن ابن عبد الحكم أيضا. قال ابن خويز منداد: وهو قول الزهري والليث. قال: والظاهر من مذهب مالك ما ذكره ابن عبد الحكم، وهو أن الدباغ لا يطهر جلد الميتة، ولكن يبيح الانتفاع به في الأشياء اليابسة، ولا يصلى عليه ولا يؤكل فيه. وفى المدونة لابن القاسم:
__________
(1). راجع ج 3 ص 288.
(2). راجع ج 12 ص 108.
(3). راجع ج 91 ص 188. [.....]
(4). في أ، ج، ح، و: الجمل.
(5). اضطربت الأصول في عد هذه المسائل.

من اغتصب جلد ميتة غير مدبوغ فأتلفه كان عليه قيمته. وحكى أذلك قول مالك. وذكر أبو الفرج أن مالكا قال: من اغتصب لرجل جلد ميتة غير مدبوغ فلا شي عليه. قال إسماعيل: إلا أن يكون لمجوسي. وروى ابن وهب، وابن عبد الحكم عن مالك جواز بيعه، وهذا في جلد كل ميتة إلا الخنزير وحده، لان الزكاة لا تعمل فيه، فالدباغ أولى. قال أبو عمر: وكل جلد ذكى فجائز استعماله للوضوء وغيره. وكان مالك يكره الوضوء في إناء جلد الميتة بعد الدباغ على اختلاف من قوله، ومرة قال: إنه لم يكرهه إلا في خاصة نفسه، وتكره الصلاة عليه وبيعه، وتابعه على ذلك جماعة من أصحابه. وأما أكثر المدنيين فعلى إباحة ذلك وإجازته، لقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" أيما إهاب دبغ فقد طهر". وعلى هذا أكثر أهل الحجاز والعراق من أهل الفقه والحديث،. وهو اختيار ابن وهب. السابعة- ذهب الامام أحمد بن حنبل رضى الله عنه إلى أنه لا يجوز الانتفاع بجلود الميتة في شي وإن دبغت، لأنها كلحم الميتة. والاخبار بالانتفاع بعد الدباغ ترد قوله. واحتج بحديث عبد الله بن عكيم- رواه أبو داود- قال: قرئ علينا كتاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأرض جهينة وأنا غلام شاب:" ألا تستمتعوا من الميتة بإهاب ولا عصب". وفى رواية:" قبل موته بشهر «1»". رواه القاسم بن مخيمرة عن عبد الله بن عكيم، قال: حدثنا مشيخة لنا أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كتب إليهم .. قال داود بن على: سألت يحيى بن معين عن هذا الحديث، فضعفه وقال: ليس بشيء، إنما يقول حدثني الأشياخ، قال أبو عمر: ولو كان ثابتا لاحتمل أن يكون مخالفا للأحاديث المروية عن ابن عباس وعائشة وسلمة بن المحبق وغيرهم، لأنه جائز أن يكون معنى حديث ابن عكيم" ألا تنتفعوا من الميتة بإهاب" قبل الدباغ، وإذا احتمل ألا يكون مخالف أفليس لنا أن نجعله مخالفا، وعلينا أن نستعمل الخبرين ما أمكن، وحديث عبد الله بن عكيم وإن كان قبل موت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشهر كما جاء في الخبر فيمكن أن تكون قصة ميمونة وسماع ابن عباس منه" أيما إهاب دبغ فقد طهر" قبل موته بجمعة أو دون جمعة، والله أعلم.
__________
(1). لفظة" بشهر" ساقطة من سنن أبى داود.

الثامنة- المشهور عندنا أن جلد الخنزير لا يدخل في الحديث ولا يتناوله العموم، وكذلك الكلب عند الشافعي. وعند الأوزاعي وأبى ثور: لا يطهر بالدباغ إلا جلد ما يؤكل لحمه. وروى معن بن عيسى عن مالك أنه سئل عن جلد الخنزير إذا دبغ فكرهه. قال ابن وضاح: وسمعت سحنونا يقول لا بأس به، وكذلك قال محمد بن عبد الحكم وداود بن على وأصحابه، لقوله عليه السلام:" أيما مسك «1» دبغ فقد طهر". قال أبو عمر: يحتمل أن يكون أراد بهذا القول عموم الجلود المعهود الانتفاع بها، فأما الخنزير فلم يدخل في المعنى لأنه غير معهود الانتفاع بجلده، إذ لا تعمل فيه الذكاة. ودليل آخر وهو ما قاله النضر بن شميل: إن الإهاب جلد البقر والغنم والإبل، وما عداه فإنما يقال له: جلد لا إهاب. قلت: وجلد الكلب وما لا يؤكل لحمه أيضا غير معهود الانتفاع به فلا يطهر، وقد قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" أكل كل ذى ناب من السباع حرام" فليست الذكاة فيها ذكاة، كما أنها ليست في الخنزير ذكاة. وروى النسائي عن المقدام بن معد يكرب قال:" نهى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الحرير والذهب ومياثر النمور «2». التاسعة- اختلف الفقهاء في الدباغ التي تطهر به جلود الميتة ما هو؟ فقال أصحاب مالك وهو المشهور من مذهبه: كل شي دبغ الجلد من ملح أو قرظ أو شب أو غير ذلك فقد جاز الانتفاع به. وكذلك قال أبو حنيفة وأصحابه، وهو قول داود. وللشافعي في هذه المسألة قولان: أحدهما- هذا، والآخر أنه لا يطهر إلا الشب والقرظ، لأنه الدباغ المعهود على عهد النبي صلى اله عليه وسلم، وعليه خرج الخطابي- والله أعلم- ما رواه النسائي عن ميمونة زوج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه مر برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجال من قريش يجرون شاة لهم مثل الحصان، فقال لهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" لو أخذتم إهابها" قالوا. إنها ميتة، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" يطهرها الماء والقرظ".
__________
(1). المسك (بالفتح وسكون السين): الجلد. وخص بعضهم به جلد السخلة، ثم كثر صار كل جلد مسكا، والجمع مسك ومسوك.
(2). أي عن أن تقرش جلودها على السرج والرحال للجلوس عليها لما فيه من التكبر أو لأنه زي العجم، أو لان الشعر نجس لا يقبل الدباغ. (عن شرح سنن النسائي). المياثر: جلود محشوة تجعل على الرحل.

وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81)

العاشرة- قوله تعالى: أَثاثاً الأثاث متاع البيت، واحدها أثاثة، هذا قول أبى زيد الأنصاري. وقال الأموي: الأثاث متاع البيت، وجمعه آثة وأثث. وقال غيرهما: الأثاث جميع أنواع المال ولا واحد له من لفظه. وقال الخليل: أصله من الكثرة واجتماع بعض المتاع إلى بعض حتى يكثر، ومنه شعر أثيث أي كثير. وأث شعر فلان يأث أثا إذا كثر والتف، قال امرؤ القيس:
وفرع يزين المتن أسود فاحم ... أثيث كقنو النخلة المتعثكل

وقيل: الأثاث ما يلبس ويفترش. وقد تأثثت إذا اتخذت أثاثا. وعن ابن عباس رضى الله عنه" أَثاثاً"" مالا. وقد تقدم القول في الحين «1»، وهو هنا وقت غير معين بحسب كل إنسان، إما بموته وإما بفقد تلك الأشياء التي هي أثاث. ومن هذه اللفظة قول الشاعر:
أهاجتك الظعائن يوم بانوا ... بذي الزي الجميل من الأثاث

[سورة النحل (16): آية 81]
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81)
فيه ست مسائل: الاولى- قوله تعالى: (ظِلالًا) الظلال: كل ما يستظل به من البيوت والشجر. وقوله" مِمَّا خَلَقَ" يعم جميع الاشخاص المظلة. الثانية- قوله تعالى: (أَكْناناً) الأكنان: جمح كن، وهو الحافظ من المطر والريح وغير ذلك، وهى هنا الغيران في الجبال، جعلها الله عدة للخلق يأوون إليها ويتحصنون بها ويعتزلون عن الخلق فيها. وفى الصحيح أنه عليه السلام كان في أول أمره يتعبد بغار حراء ويمكث فيه الليالي .. الحديث، وفى صحيح البخاري قال: خرج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1). راجع ج 1 ص 321 وج 9 ص 360 فما بعد.

من مكة مهاجرا هاربا من قومه فارا بدينه مع صاحبه أبى بكر حتى لحقا بغار في جبل ثور، فمكنا «1» فيه ثلاث ليال يبيت عندهما فيه عبد الله بن أبى بكر وهو غلام شاب ثقف «2» لقن فيدلج من عندهما بسحر فيصبح مع قريش بمكة كبائت فيسمع أمرا يكادان «3» به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام، ويرعى عليهما عامر بن فهيرة مولى أبى بكر منحة «4» من غنم فيريحها عليهما حتى تذهب ساعة من العشاء فيبيتان في رسل، وهو لبن منحتهما ورضيفهما «5» حتى ينعق بهما عامر بن فهيرة بغلس، يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلاث ... وذكر الحديث. انفراد بإخراجه البخاري. الثالثة- قوله تعالى: (وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) يعنى القمص، واحدها سربال. (وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ) يعنى الدروع التي تقى الناس في الحرب، ومنه قول كعب بن زهير:
شم العرانين أبطال لبوسهم ... من نسج داود في الهيجا سرابيل
الرابعة- إن قال قائل: كيف قال" وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً" ولم يذكر السهل، وقال:" تَقِيكُمُ الْحَرَّ" ولم يذكر البرد؟ فالجواب أنهم كانوا أصحاب جبال ولم يكونوا أصحاب سهل، وكانوا أهل حر ولم يكونوا أهل برد، فذكر لهم نعمه التي تختص بهم كما خصهم بذكر الصوف وغيره، ولم يذكر القطن والكتان ولا الثلج- كما تقدم- فإنه لم يكن ببلادهم «6»، قال معناه عطاء الخراساني وغيره. وأيضا: فذكر أحدهما يدال على الآخر، ومنه قول الشاعر:
وما أدري إذا يممت أرضا ... أريد الخير أيهما يليني
أالخير الذي أنا أبتغيه ... أم الشر الذي هو يبتغينى
الخامسة- قال العلماء: في قوله تعالى: (وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ) دليل على اتخاذ العباد عدة الجهاد ليستعينوا بها على قتال الاعداء، وقد لبسها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تقاة
__________
(1). في ج وو: مكثا.
(2). أي حاذق سريع الفهم، لقن حسن التلقن لما يسمعه.
(3). من الكيد، أي يطلب بهما ما فيه المكروه.
(4). أي شاة تحلب أناء بالغداة وأثناء بالعشي.
(5). الرضيف: اللبن المرضوف، وهو الذي طرح فيه الحجارة المحماة ليذهب وخمة. وينعق: يصيح.
(6). يقول محققة: ذكر الله لهم تلك النعم وهى دالة على ما يقابلها على سبيل الاكتفاء. والقطنم مشهور باليمن ومنه الثياب السحولية وكذا صحار ومنه كفن عبية السلام فيثوبين صحاريين. وكذا الثلج في جبال ببلاد العرب.

فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (82)

الجراحة وإن كان يطلب الشهادة، وليس للعبد «1» أن يطلبها بأن يستسلم للحتوف وللطعن بالسنان وللضرب بالسيوف، ولكنه يلبس لامة «2» حرب لتكون له قوة على قتال عدوه، ويقاتل لتكون كلمة الله هي العليا، ويفعل الله بعد ما يشاء. السادسة- قوله تعالى: (كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ) قرأ ابن محيصن وحميد" تتم" بتاءين،" نعمته" رفعا على أنها الفاعل. الباقون" يُتِمُّ" بضم الياء على أن الله هو يتمها. و" تُسْلِمُونَ" قراءة ابن عباس وعكرمة" تسلمون" بفتح التاء واللام، أي تسلمون من الجراح، وإسناده ضعيف، رواه عباد بن العوام عن حنظلة عن شهر عن ابن عباس. الباقون بضم التاء، ومعناه تستسلمون وتنقادون إلى معرفة الله وطاعته شكرا على نعمه. قال أبو عبيد: والاختيار قراءة العامة، لان ما أنعم الله به علينا من الإسلام أفضل مما أنعم به من السلامة من الجراح.

[سورة النحل (16): آية 82]
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (82)
قوله تعالى: (فَإِنْ تَوَلَّوْا) أي أعرضوا عن النظر والاستدلال والايمان. (فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ) أي ليس عليك إلا التبليغ، وأما الهداية فإلينا.

[سورة النحل (16): آية 83]
يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ (83)
قوله تعالى: (يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ) قال السدى: يعنى محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أي يعرفون بوته" ثُمَّ يُنْكِرُونَها" ويكذبونه. وقال مجاهد: يريد ما عدد الله عليهم في هذه السورة من النعم، أي يعرفون أنها من عند الله وينكرونها بقولهم إنهم ورثوا ذلك عن آبائهم. وبمثله قال قتادة. وقال عون بن عبد الله: هو قول الرجل لولا فلان لكان كذا، ولولا فلان ما أصبت كذا، وهم يعرفون النفع والضر من عند الله. وقال الكلبي: هو أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما عرفهم بهذه النعم كلها عرفوها وقالوا: نعم، هي كلها نعم من الله، ولكنها (هامش)
__________
(1). في ى: على العبد.
(2). لامة الحرب: أداته، وقد تترك الهمزة تخفيفا. في ى: حربه. [.....]

وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84)

بشفاعة آلهتنا. وقيل: يعرفون نعمة الله بتقلبهم فيها، وينكرونها بترك الشكر عليها. ويحتمل سادسا- يعرفونها في الشدة وينكرونها في الرخاء. ويحتمل سابعا- يعرفونها بأقوالهم وينكرونها بأفعالهم. ويحتمل ثامنا- يعرفونها بقلوبهم ويجحدونها بألسنتهم، نظيرها" وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ «1»". (وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ) يعنى جميعهم. حسب ما تقدم.

[سورة النحل (16): آية 84]
وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84)
قوله تعالى: (وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً) نظيره:" فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ" وقد تقدم «2». (ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) أي في الاعتذار والكلام، كقوله: «ولا يؤذن لهم فيعتذرون» «3» وذلك حين تطبق عليهم جهنم، كما تقدم في أول" الحجر «4»" ويأتي. (وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) يعنى يسترضون، أي لا يكلفون أن يرضوا ربهم، لان الآخرة ليست بدار تكليف، ولا يتركون إلى رجوع الدنيا فيتوبون. واصل الكلمة من العتب وهى الموجدة، يقال: عتب عليه يعتب إذا وجد عليه، فإذا فاوضه ما عتب عليه فيه قيل عاتبه، فإذا رجع إلى مسرتك فقد أعتب، والاسم العتبى وهو رجوع المعتوب عليه إلى ما يرضى العاتب، قال الهروي. وقال النابغة:
فإن كنت مظلوما فعبدا ظلمته ... وإن كنت ذا عتبى فمثلك يعتب

[سورة النحل (16): آية 85]
وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (85)
قوله تعالى: (وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) أي أشركوا. (الْعَذابَ) أي عذاب جهنم بالدخول فيها. (فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) أي لا يمهلون، إذ لا توبة لهم ثم.
__________
(1). راجع ج 13 ص 156.
(2). راجع ج 5 ص 197.
(3). راجع ج 19 ص 164.
(4). راجع ج 30 ص فما بعد من هذا الجزء.

وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ (86)

[سورة النحل (16): الآيات 86 الى 87]
وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ (86) وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (87)
قوله تعالى: وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ (86) وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (87) قوله تعالى: (وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ) أي أصنامهم وأوثانهم التي عبدوها، وذلك أن الله يبعث معبوديهم فيتبعونهم حتى يوردوهم النار. وفى صحيح مسلم:" من كان يعبد شيئا فليتبعه فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس ويتبع من كان يعبد القمر القمر ويتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيت" الحديث، خرجه من حديث أنس «1»، والترمذي من حديث أبى هريرة، وفية:" فيمثل لصاحب الصليب صليبه ولصاحب التصاوير تصاويره ولصاحب النار ناره فيتبعون ما كانوا يعبدون" وذكر الحديث «2». (قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ) أي الذين جعلناهم لك شركاء. (فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ) أي ألقت إليهم الآلهة القول، أي نطقت بتكذيب من عبدها بأنها لم تكن آلهة، ولا أمرتهم بعبادتها، في، نطق الله الأصنام حتى تظهر عند ذلك فضيحة الكفار. وقيل: المراد بذلك الملائكة الذين عبدوهم. (وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ) يعنى المشركين، أي استسلموا لعذابه وخضعوا لعزه. وقيل: استسلم العابد والمعبود وانقادوا لحكمه فيهم. (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) أي زال عنهم ما زين لهم الشيطان وما كانوا يؤملون من شفاعة آلهتهم.

[سورة النحل (16): آية 88]
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ (88)
__________
(1). ورد هذا الحديث في صحيح مسلم عن أبى هريرة. راجع كتاب الايمان باب معرفة طريق الرؤية.
(2). راجع الحديث في سنن الترمذي في باب صفة الجنة.

وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)

قوله تعالى: (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ) قال ابن مسعود: عقارب أنيابها كالنخل الطوال، وحيات مثل أعناق الإبل، وأفاعي كأنها البخاتي «1» تضربهم، فتلك الزيادة. وقيل: المعنى يخرجون من النار إلى الزمهرير فيبادرون من شدة برده إلى النار. وقيل: المعنى زدنا القادة عذابا فوق السفلة، فأحد العذابين على كفرهم والعذاب الآخر على صدهم. (بِما كانُوا يُفْسِدُونَ) في الدنيا من الكفر والمعصية.

[سورة النحل (16): آية 89]
وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (89)
قوله تعالى: (وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) وهم الأنبياء شهداء على أممهم يوم القيامة بأنهم قد بلغوا الرسالة ودعوهم إلى الايمان، في كل زمان شهيد وإن لم يكن نبيا، وفيهم قولان: أحدهما- أنهم أئمة الهدى الذين هم خلفاء الأنبياء. الثاني- أنهم العلماء الذين حفظ الله بهم شرائع أنبيائه. قلت: فعلى هذا لم تكن فترة إلا وفيها من يوحد الله، كقس بن ساعدة، وزيد بن عمرو ابن نفيل الذي قال فيه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" يبعث أمة وحده"، وسطيح «2»، وورقة ابن نوفل الذي قال فيه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" رأيته ينغمس في أنهار الجنة". فهؤلاء ومن كان مثلهم حجة على أهل زمانهم وشهيد عليهم. والله أعلم. وقوله:" وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ" تقدم في البقرة والنساء «3». قوله تعالى: (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) نظيره:" ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ «4»" وقد تقدم، فلينظر هناك. وقال مجاهد: تبيانا للحلال والحرام.
__________
(1). البخاتي: جمال طوال الأعناق.
(2). هو كاهن بنى ذئب، كان يتكهن في الجاهلية، واسمه: ربيع بن ربيعة. (راجع سيرة ابن هشام ص 9 طبع أوربا).
(3). راجع ج 3 ص 154 وج 5 ص 197.
(4). راجع ج 6 ص 419.

إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)

[سورة النحل (16): آية 90]
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)
فيه ست مسائل: الاولى- قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ) روى عن عثمان بن مظعون أنه قال: لما نزلت هذه الآية قرأتها على علي بن أبى طالب رضى الله عنه فتعجب فقال: يا آل غالب، اتبعوه تفلحوا، فو الله إن الله أرسله ليأمركم بمكارم الأخلاق. وفى حديث- إن أبا طالب لما قيل له: إن ابن أخيك زعم أن الله أنزل عليه" إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ" الآية، قال: اتبعوا ابن أخى، فو الله إنه لا يأمر إلا بمحاسن الأخلاق. وقال عكرمة: قرأ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الوليد بن المغيرة" إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ" إلى آخرها، فقال: يا بن أخى أعد! فأعاد عليه فقال: والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أصله لمورق، وأعلاه لمثمر، وما هو بقول بشر!. وذكر الغزنوي أن عثمان بن مظعون هو القارئ. قال عثمان: ما أسلمت ابتداء إلا حياء من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى نزلت هذه الآية وأنا عنده فاستقر الايمان في قلبي، فقرأتها على الوليد بن المغيرة فقال: يا بن أخى أعد! فأعدت فقال: والله إن له لحلاوة، ... وذكر تمام الخبر. وقال ابن مسعود: هذه أجمع آية في القرآن لخير يمتثل، ولشر يجتنب. وحكى النقاش قال: يقال زكاة العدل الإحسان، وزكاة القدرة العفو، وزكاة الغنى المعروف، وزكاة الجاه كتب الرجل إلى إخوانه. الثانية- اختلف العلماء في تأويل العدل والإحسان، فقال ابن عباس: العدل لا إله إلا الله، والإحسان أداء الفرائض. وقيل: العدل الفرض، والإحسان النافلة. وقال سفيان بن عيينة: العدل ها هنا استواء السريرة، والإحسان أن تكون السريرة أفضل من العلانية. على بن أبى طالب: العدل الانصاف، والإحسان التفضل. قال ابن عطية:

العدل هو كل مفروض، من عقائد وشرائع في أداء الأمانات، وترك الظلم والانصاف، وإعطاء الحق. والإحسان هو فعل كل مندوب إليه، فمن الأشياء ما هو كله مندوب إليه، ومنها ما هو فرض، إلا أن حد الاجزاء منه داخل في العدل، والتكميل الزائد على الاجزاء داخل في الإحسان. وأما قول ابن عباس ففيه نظر، لان أداء الفرائض هي الإسلام حسبما فسره رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث سؤال جبريل، وذلك هو العدل، وإنما الإحسان التكميلات والمندوب إليه حسبما يقتضيه تفسير النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث سؤال جبريل بقوله:" أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك". فإن صح هذا عن ابن عباس فإنما أراد الفرائض مكملة. وقال ابن العربي: العدل بين العبد وبين ربه إيثار حقه تعالى على حظ نفسه، وتقديم رضاه على هواه، والاجتناب للزواجر والامتثال للأوامر. وأما العدل بينه وبين نفسه فمنعها مما فيه هلاكها، قال الله تعالى:" وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى «1»" وعزوب «2» الاطماع عن الاتباع، ولزوم القناعة في كل حال ومعنى. وأما العدل بينه وبين الخلق فبذل النصيحة، وترك الخيانة فيما قل وكثر، والانصاف من نفسك لهم بكل وجه، ولا يكون منك إساءة إلى أحد بقول ولا فعل لا في سر ولا في علن، والصبر على ما يصيبك منهم من البلوى، وأقل ذلك الانصاف وترك الأذى. قلت: هذا التفصيل في العدل حسن وعدل، وأما الإحسان فقد قال علماؤنا: الإحسان مصدر أحسن يحسن إحسانا. ويقال على معنيين: أحدهما متعد بنفسه، كقولك: أحسنت كذا، أي حسنته وكلمته، وهو منقول بالهمزة من حسن الشيء. وثانيهما متعد بحرف جر، كقولك: أحسنت إلى فلان، أي أوصلت إليه ما ينتفع به. قلت: وهو في هذه الآية مراد بالمعنيين معا، فإنه تعالى يحب من خلقه إحسان بعضهم إلى بعض، حتى أن الطائر في سجنك والسنور في دارك لا ينبغي أن تقصر تعهده بإحسانك، وهو تعالى غنى عن إحسانهم، ومنه الإحسان والنعم والفضل والمنن. وهو في حديث جبريل
__________
(1). راجع ج 19 ص 205.
(2). في ى: عزوف.

بالمعنى الأول لا بالثاني، فإن المعنى الأول راجع إلى إتقان العبادة ومراعاتها بأدائها المصححة والمكملة، ومراقبة الحق فيها واستحضار عظمته وجلاله حالة الشروع وحالة الاستمرار. وهو المراد بقوله" أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك". وأرباب القلوب في هذه المراقبة على حالين: أحدهما غالب عليه مشاهدة الحق فكأنه يراه. ولعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أشار إلى هذه الحالة بقوله:" وجعلت قرة عيني في الصلاة". وثانيهما- لا تنتهي إلى هذا، لكن يغلب عليه أن الحق سبحانه مطلع عليه ومشاهد له، وإليه الإشارة بقوله تعالى:" الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ. وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ
«1»وقوله:" إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ «2»" الثالثة- قوله تعالى: وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى أي القرابة، يقول: يعطيهم المال كما قال:" وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ «3»" يعنى صلته. وهذا من باب عطف المندوب على الواجب، وبه استدل الشافعي في إيجاب إيتاء المكاتب، على ما يأتي بيانه. وإنما خص ذا القربى لان حقوقهم أوكد وصلتهم أوجب، لتأكيد حق الرحم التي اشتق الله اسمها من اسمه، وجعل صلتها من صلته، فقال في الصحيح:" أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك «4»". ولا سيما إذا كانوا فقراء. الرابعة- قوله تعالى: (وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ) الفحشاء: الفحش، وهو كل قبيح من قول أو فعل. ابن عباس: هو الزنى. والمنكر: ما أنكره الشرع بالنهي عنه، وهو يعم جميع المعاصي والرذائل والدناءات على اختلاف أنواعها. وقيل هو الشرك. والبغي: هو الكبر والظلم والحقد والتعدي، وحقيقته تجاوز الحد، وهو داخل تحت المنكر، لكنه تعالى خصه بالذكر اهتماما به لشدة ضرره. وفى الحديث عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" لا ذنب أسرع عقوبة من بغي". وقال عليه السلام:" الباغي مصروع". وقد وعد الله من بغى عليه بالنصر. وفى بعض الكتب المنزلة: لو بغى جبل على جبل لجعل الباغي منهما دكا.
__________
(1). راجع ج 13 ص ...
(2). راجع ج 8 ص 355. [.....]
(3). راجع ص 247 من هذا الجزء
(4). راجع صحيح البخاري في كتاب التفسير في سورة محمد وكتاب الأدب والتوحيد. وصحيح مسلم في كتاب الأدب.

الخامسة- ترجم الامام أبو عبد الله بن إسماعيل البخاري في صحيحه فقال: (باب قوله الله تعالى:" إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ"، وقوله:" إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ «1»"،" ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ «2»"، وترك إثارة الشر على مسلم أو كافر) ثم ذكر حديث عائشة في سحر لبيد ابن الأعصم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال ابن بطال: فتأول رضى الله عنه من هذه الآيات ترك إثارة الشر على مسلم أو كافر، كما دل عليه حديث عائشة حيث قال عليه السلام:" أما الله فقد شفاني وأما أنا فأكره أن أثير على الناس شرا". ووجه ذلك- والله أعلم- أنه تأول في قول الله تعالى:" إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ" الندب بالإحسان إلى المسيء وترك معاقبته على إساءته. فإن قيل: كيف يصح هذا التأويل في آيات البغي. قيل: وجه ذلك- والله أعلم- أنه لما أعلم الله عباده بأن ضرر البغي ينصرف على الباغي بقوله:" إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ" وضمن تعالى نصرة من بغى عليه، كان الاولى بمن بغى عليه شكر الله على ما ضمن من نصره ومقابلة ذلك بالعفو عمن بغى عليه، وكذلك فعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ باليهودي الذي سحره، وقد كان له الانتقام منه بقوله:" وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ «3»". ولكن آثر الصفح أخذا بقوله:" وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ «4»". السادسة- تضمنت هذه الآية الامر بالمعروف والنهى عن المنكر. وقد تقدم القول فيهما «5». روى أن جماعة رفعت عاملها إلى أبى جعفر المنصور العباسي، فحاجها العامل وغلبها، بأنهم لم يثبتوا عليه كبير ظلم ولا جوره في شي، فقام فتى من القوم فقال: يا أمير المؤمنين، إن الله يأمر بالعدل والإحسان، وإنه عدل ولم يحسن. قال: فعجب أبو جعفر من إصابته وعزل العامل.
__________
(1). راجع ج 8 ص 324.
(2). راجع ج 12 ص 89.
(3). راجع ص 200 من هذا الجزء.
(4). راجع ج 16 ص 38.
(5). راجه ج 4 ص 37.

وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91)

[سورة النحل (16): آية 91]
وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (91)
فيه ثلاث مسائل: الاولى: قوله تعالى: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ) لفظ عام لجميع ما يعقد باللسان ويلتزمه الإنسان من بيع أو صلة أو مواثقة في أمر موافق للديانة. وهذه الآية مضمن قوله:" إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ" لان المعنى فيها: افعلوا كذا، وانتهوا عن كذا، فعطف على ذلك التقدير. وقد قيل: إنها نزلت في بيعة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الإسلام. وقيل: نزلت في التزام الحلف الذي كان في الجاهلية وجاء الإسلام بالوفاء، قاله قتادة ومجاهد وابن زيد. والعموم يتناول كل ذلك كما بيناه. روى الصحيح عن جبير بن مطعم قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" لا حلف في الإسلام وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة" يعنى في نصرة الحق والقيام به والمواساة. وهذا كنحو حلف الفضول الذي ذكره ابن إسحاق قال: اجتمعت قبائل من قريش في دار عبد الله بن جدعان لشرفه ونسبه «1»، فتعاقدوا وتعاهدوا على ألا يجدوا بمكة مظلوما من أهلها أو غيرهم إلا قاموا معه حتى ترد عليه مظلمته، فسمت قريش ذلك الحلف حلف الفضول، أي حلف الفضائل. والفضول هنا جمع فضل للكثرة كفلس وفلوس. روى ابن إسحاق عن ابن شهاب قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا ما أحب أن لي به حمر النعم لو أدعى به في الإسلام لا جبت". وقال ابن إسحاق: تحامل الوليد بن عتبة على حسين بن على في مال له، لسلطان الوليد فإنه كان أميرا على المدينة، فقال له حسين بن على: احلف بالله لتنصفني من حقي أو لآخذن سيفي ثم لأقومن في مسجد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم لأدعون بحلف الفضول. قال عبد الله بن الزبير: وأنا أحلف والله لئن دعانا «2» لآخذن سيفي ثم لأقومن معه حتى ينتصف من حقه أو نموت جميعا. وبلغت المسور بن مخرمة فقال مثل ذلك. وبلغت
__________
(1). في سيرة ابن هشام:" لشرفه وسنة".
(2). في سيرة ابن هشام:" لئن دعا به".

عبد الرحمن بن عثمان بن عبيد الله التيمي فقال مثل ذلك. فلما بلغ ذلك الوليد أنصفه. قال العلماء: فهذا الحلف الذي كان في الجاهلية هو الذي شده الإسلام وخصه النبي عليه الصلاة والسلام من عموم قوله:" لا حلف في الإسلام". والحكمة في ذلك أن الشرع جاء بالانتصار من الظالم واخذ الحق منه وإيصاله إلى المظلوم، وأوجب ذلك بأصل الشريعة إيجابا عاما على من قدر من المكلفين، وجعل لهم السبيل على الظالمين فقال تعالى:" إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ «1»". وفى الصحيح (من قوله «2»:" انصر أخاك ظالما أو مظلوما" قالوا: يا رسول الله، هذا ننصره مظلوما فكيف ننصره ظالما؟ قال:" تأخذ على يديه- في رواية: تمنعه من الظلم- فإن ذلك نصره". وقد تقدم قوله عليه السلام:" إن الناس إذا رأوا الظالم ولم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده". الثانية- قوله تعالى: (وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها) يقول بعد تشديدها وتغليظها، يقال: توكيد وتأكيد، ووكد وأكد، وهما لغتان. الثالثة- قوله تعالى: (وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا) يعنى شهيدا. ويقال: حافظا، ويقال: ضامنا. وإنما قال" بَعْدَ تَوْكِيدِها" فرقا بين اليمين المؤكدة بالعزم وبين لغو اليمين. وقال ابن وهب وابن القاسم عن مالك التوكيد هو حلف الإنسان في الشيء الواحد مرارا، يردد فيه الايمان ثلاثا أو أكثر من ذلك، كقوله: والله لا أنقصه من كذا، والله لا أنقصه من كذا، والله لا أنقصه من كذا. قال: فكفارة ذلك واحدة مثل كفارة اليمين. وقال يحيى بن سعيد: هي العهود، والعهد يمين، ولكن الفرق بينهما أن العهد لا يكفر. قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة عند استه بقدر غدرته يقال هذه غدرة فلان". وأما اليمين بالله فقد شرع الله سبحانه فيها الكفارة بخصلة واحدة، وحل ما انعقدت عليه اليمين. وقال ابن عمر: التوكيد هو أن يحلف مرتين، فإن حلف واحدة فلا كفارة فيه. وقد تقدم في المائدة «3».
__________
(1). راجع ج 16 ص 44.
(2). من و.
(3). راجع ج 6 ص 364.

وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92)

[سورة النحل (16): آية 92]
وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92)
قوله تعالى: (وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً) النقض والنكث واحد، والاسم النكث والنقض، والجمع الأنكاث فشبهت هذه الآية الذي يحلف ويعاهد ويبرم عهده ثم ينقضه بالمرأة تغزل غزلها وتفتله محكما ثم تحله. ويروى أن امرأة حمقاء كانت بمكة تسمى ريطة بنت عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة كانت تفعل ذلك، فبها وقع التشبيه، قال الفراء، وحكاه عبد الله بن كثير والسدي ولم يسميا المرأة، وقال مجاهد وقتادة: وذلك ضرب مثل، لا على امرأة معينة. وأَنْكاثاً نصب على الحال. والدخل: الدغل والخديعة والغش. قال أبو عبيدة: كل أمر لم يكن صحيحا فهو دخل. (أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ) قال المفسرون: نزلت هذه الآية في العرب الذين كانت القبيلة منهم إذ حالفت أخرى، ثم جاءت إحداهما قبيلة كثيرة «1» قوية فداخلتها غدرت الاولى ونقضت عهدها ورجعت إلى هذه الكبرى- قاله مجاهد- فقال الله تعالى: لا تنقضوا العهود من أجل أن طائفة أكثر من طائفة أخرى أو أكثر أموالا فتنقضون أيمانكم إذا رأيتم الكثرة والسعة في الدنيا لأعدائكم المشركين. والمقصود النهى عن العود إلى الكفر بسبب كثرة الكفار وكثرة أموالهم. وقال الفراء: المعنى لا تغدروا بقوم لقلتهم وكثرتكم أو لقلتكم وكثرتهم، وقد عززتموهم بالايمان. (أَرْبى ) أي أكثر، من ربى الشيء يربو إذا كثر. والضمير في" بِهِ" يحتمل أن يعود على الوفاء الذي أمر الله به. ويحتمل أن يعود على الرباء، أي أن الله تعالى ابتلى عباده بالتحاسد وطلب بعضهم الظهور على بعض، واختبرهم بذلك من يجاهد نفسه فيخالفها ممن يتبعها ويعمل بمقتضى هواها، وهو معنى قوله: (إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) من البعث وغيره.
__________
(1). في ى: كبيرة.

وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93)

[سورة النحل (16): آية 93]
وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93)
قوله تعالى: (وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) أي على ملة واحدة. (وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ) بخذلانه إياهم، عدلا منه فيهم. (وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) بتوفيقه إياهم، فضلا منه عليهم، ولا يسأل عما يفعل بل تسألون أنتم. والآية ترد على أهل القدر كما تقدم. واللام في" وَلَيُبَيِّنَنَّ ولَتُسْئَلُنَّ" مع النون المشددة يدلان على قسم مضمر، أي والله ليبينن لكم ولتسئلن.

[سورة النحل (16): آية 94]
وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (94)
قوله تعالى: (وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ) كرر ذلك تأكيدا. (فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها) مبالغة في النهى عنه لعظم موقعه في الدين وتردده في معاشرات الناس، أي لا تعقدوا الايمان بالانطواء على الخديعة والفساد فتزل قدم بعد ثبوتها، أي عن الايمان بعد المعرفة بالله. وهذه استعارة للمستقيم الحال يقع في شر عظيم ويسقط فيه، لان القدم إذا زلت نقلت الإنسان من حال خير إلى حال شر، ومن هذا المعنى قول كثير:
فلما توافينا ثبت وزلت

والعرب تقول لكل مبتلى بعد عافية أو ساقط في ورطة: زلت قدمه، كقول الشاعر:
سيمنع منك السبق إن كنت سابقا ... وتقتل إن زلت بك القدمان
ويقال لمن أخطأ في شي: زل فيه ثم توعد تعالى بعد، بعذاب في الدنيا وعذاب عظيم في الآخرة. وهذا الوعيد إنما هو فيمن نقض عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإن من عاهده ثم نقض عهده خرج من الايمان، ولهذا قال: (وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) أي بصدكم. وذوق السوء في الدنيا هو ما يحل بهم من المكروه.

وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95) مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (96)

[سورة النحل (16): الآيات 95 الى 96]
وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95) ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (96)
قوله تعالى: (وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا) نهى عن الرشا واخذ الأموال على نقض العهد، أي لا تنقضوا عهودكم لعرض قليل من الدنيا. وإنما كان قليلا وإن كثر لأنه مما يزول، فهو على التحقيق قليل، وهو المراد بقوله:" ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ" فبين الفرق بين حال الدنيا وحال الآخرة بأن هذه تنفد وتحول، وما عند الله من مواهب فضله ونعيم جنته ثابت لا يزول لمن وفى بالعهد وثبت على العقد. ولقد أحسن من قال:
المال ينفد حله وحرامه ... يوما وتبقى في غد آثامه
ليس التقي بمتق لإلهه «1» ... حتى يطيب شرابه وطعامه
آخر:
هب الدنيا تساق إليك عفوا ... أليس مصير ذاك إلى انتقال
وما دنياك إلا مثل في ... أظلك ثم آذن بالزوال
قوله تعالى: (وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا) أي على الإسلام والطاعات وعن المعاصي. أي من الطاعات، وجعلها أحسن لان ما عداها من الحسن مباح، والجزاء إنما يكون على الطاعات من حيث الوعد من الله. وقرا عاصم وابن كثير" وَلَنَجْزِيَنَّ" بالنون على التعظيم. الباقون بالياء. وقيل: إن هذه الآية" وَلا تَشْتَرُوا" أي هنا نزلت في امرئ القيس بم عابس الكندي وخصمه ابن أسوع «2»، اختصما في أرض فأراد امرؤ القيس أن يحلف فلما سمع هذه الآية نكل وأقر له بحقه، والله أعلم.
__________
(1). في نسخ الأصل:
ليس التقى بمن يمير بأهله

وفي ى: يميز، والتثويب عن أدب الدنيا والدين ص 212 طبع بولاق. [.....]
(2). الذي في كتب الصحابة في ترجمة امرى القيس بن عابس أنه ربيعة بن عيدان. وقال صاحب كتاب الإصابة في ترجمة عيدان بن أسوغ:" ذكر مقاتل في تفسيره أنه الذي حاصر امرأ القيس بن عابس الكندي في أرضه، وفية نزلت" إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ ..." الآية.

مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)

[سورة النحل (16): آية 97]
مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (97)
قوله تعالى: (مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً) شرط وجوابه. وفي الحياة الطيبة خمسة أقوال: الأول- أنه الرزق الحلال، قاله ابن عباس وسعيد بن جبير وعطاء والضحاك. الثاني- القناعة، قاله الحسن البصري وزيد بن وهب ووهب بن منبه، ورواه الحكم عن عكرمة عن ابن عباس، وهو قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه. الثالث- توفيقه إلى الطاعات فإنها تؤديه إلى رضوان الله، قال معناه الضحاك. وقال أيضا: من عمل صالحا وهو مؤمن في فاقة وميسرة فحياته طيبة، ومن أعرض عن ذكر الله ولم يؤمن بربه ولا عمل صالحا فمعيشته ضنك لا خير فيها. وقال مجاهد وقتادة وابن زيد: هي الجنة، وقاله الحسن، وقال: لا تطيب الحياة لاحد إلا في الجنة. وقيل: هي السعادة، روى عن ابن عباس أيضا. وقال أبو بكر الوراق: هي حلاوة الطاعة. وقال سهل بن عبد الله التستري: هي أن ينزع عن العبد تدبيره ويرد تدبيره إلى الحق. وقال جعفر الصادق: هي المعرفة بالله، وصدق المقام بين يدي الله. وقيل: الاستغناء عن الخلق والافتقار إلى الحق. وقيل: الرضا بالقضاء. (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ) أي في الآخرة. (بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ). وقال:" فَلَنُحْيِيَنَّهُ" ثم قال:" وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ" لان" مَنْ" يصلح للواحد والجمع، فأعاد مرة على اللفظ ومرة على المعنى. وقد تقدم. وقال أبو صالح: جلس ناس من أهل التوراة وناس من أهل الإنجيل وناس من أهل الأوثان، فقال هؤلاء: نحن أفضل، وقال هؤلاء: نحن أفضل، فنزلت.

[سورة النحل (16): آية 98]
فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (98)
فيه مسألة واحدة- وهى أن هذه الآية متصلة بقوله:" وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ" فإذا أخذت في قراءته فاستعذ بالله من أن يعرض لك الشيطان فيصدك عن

إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100)

تدبره والعمل بما فيه، وليس يريد استعذ بعد القراءة، بل هو كقولك إذا أكلت فقل بسم الله، أي إذا أردت أن تأكل. وقد روى جبير بن مطعم عن أبيه قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين افتتح الصلاة قال" اللهم إني أعوذ بك من الشيطان من همزه ونفخه ونفثه «1»". وروى أبو سعيد الخدري أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يتعوذ في صلاته قبل القراءة. قال الكيا الطبري: ونقل عن بعض السلف التعوذ بعد القراءة مطلقا، احتجاجا بقوله تعالى:" فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ" ولا شك أن ظاهر ذلك يقتضي أن تكون الاستعاذة بعد القراءة، كقوله تعالى:" فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً «2»". إلا أن غيره محتمل، مثل قوله تعالى:" وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا
«3» وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ «4»" وليس المراد به أن يسألها من وراء حجاب بعد سؤال متقدم. ومثله قول القائل: إذا قلت فاصدق، وإذا أحرمت فاغتسل، يعني قبل الإحرام. والمعنى في جميع ذلك: إذا أردت ذلك، فكذلك الاستعاذة. وقد تقدم هذا المعنى «5»، وتقدم القول في الاستعاذة مستوفى «6».

[سورة النحل (16): الآيات 99 الى 100]
إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100)
قوله تعالى: (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا) أي بالإغواء والكفر، أي ليس لك قدرة على أن تحملهم على ذنب لا يغفر، قاله سفيان. وقال مجاهد: لا حجة له على ما يدعوهم إليه من المعاصي. وقيل: إنه ليس عليهم سلطان بحال، لان الله تعالى صرف
__________
(1). الهمزة: النخس والغمز، وكل شي دفعته فقد همزته. والنفخ: الكبر، لان المتكبر يتعاظم ويجمع نفسه ونفسه فيحتاج أن ينفخ. والنفث: قال ابن الأثير: جاء تفسيره في الحديث أنه الشعر، لأنه ينفث من الفم.
(2). راجع ج 5 ص 373.
(3). راجع ج 7 ص 137.
(4). راجع ج 14 ص 227.
(5). راجع ج 6 ص 80.
(6). راجع ج 1 ص 86.

وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102)

سلطانه عليهم حين قال عدو الله إبليس لعنه الله:" وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ «1»" قال الله تعالى:" إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ". قلت: قد بينا أن هذا عام يدخله التخصيص، وقد أغوى آدم وحواء عليهما السلام بسلطانه، وقد شوش على الفضلاء أوقاتهم بقوله: من خلق ربك؟ حسبما تقدم في آخر الأعراف «2» بيانه. (إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ) أي يطيعونه. يقال: توليته أي أطعته، وتوليت عنه، أي أعرضت عنه. (وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ) أي بالله، قاله مجاهد والضحاك. وقيل: يرجع" بِهِ" إلى الشيطان، قاله الربيع بن أنس والقتبي. والمعنى: والذين هم من أجله مشركون. يقال: كفرت بهذه الكلمة، أي من أجلها. وصار فلان بك عالما، أي من أجلك. أي والذي تولى الشيطان مشركون بالله.

[سورة النحل (16): الآيات 101 الى 102]
وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (102)
قوله تعالى: (وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ) قيل: المعنى بدلنا شريعة متقدمة بشريعة مستأنفة، قاله ابن بحر. مجاهد: أي رفعنا آية وجعلنا موضعها غيرها. وقال الجمهور: نسخنا آية بآية أشد منها عليهم. والنسخ والتبديل رفع الشيء مع وضع غير مكانه. وقد تقدم الكلام في النسخ في البقرة مستوفى «3». (قالُوا) يريد كفار قريش. (إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ) أي كاذب مختلق، وذلك لما رأوا من تبديل الحكم. فقال الله: (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أن الله شرع الأحكام وتبديل البعض بالبعض. وقوله: (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ)
__________
(1). راجع ج 27 من هذا الجزء فما بعد.
(2). راجع ج 7 ص 348.
(3). راجع ج 2 ص 61 وما بعدها.

وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103)

يعني جبريل، نزل بالقرآن كله ناسخه ومنسوخه. وروى بإسناد صحيح عن عامر الشعبي قال: وكل إسرافيل بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثلاث سنين، فكان يأتيه بالكلمة والكلمة، ثم نزل عليه جبريل بالقرآن. وفي صحيح مسلم أيضا أنه نزل عليه بسورة" الحمد" ملك لم ينزل إلى الأرض قط. كما تقدم في الفاتحة بيانه «1». (مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ) أي من كلام ربك. (لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا) أي بما فيه من الحجج والآيات. (وَهُدىً) أي وهو هدى. (وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ).

[سورة النحل (16): آية 103]
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103)
قوله تعالى: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ) اختلف في اسم هذا الذي قالوا إنما يعلمه، فقيل: هو غلام الفاكه بن المغيرة واسمه جبر، كان نصرانيا فأسلم، وكانوا إذا سمعوا من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما مضى وما هو آت مع أنه أمي لم يقرأ قالوا: إنما يعلمه جبر وهو أعجمي، فقال الله تعالى: (لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) أي كيف يعلمه جبر وهو أعجمي هذا الكلام الذي لا يستطيع الانس والجن أن يعارضوا منه سورة واحدة فما فوقها. وذكر النقاش أن مولى جبر كان يضربه ويقول له: أنت تعلم محمدا، فيقول: لا والله، بل هو يعلمني ويهديني. وقال ابن إسحاق: كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيما بلغني- كثيرا ما يجلس عند المروة إلى غلام نصراني يقال له جبر، عبد بني الحضرمي، وكان يقرأ الكتب، فقال المشركون: والله ما يعلم محمدا ما يأتي به إلا جبر النصراني. وقال عكرمة: اسمه يعيش عبد لبني الحضرمي، كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يلقنه القرآن، ذكره المارودي. وذكر الثعلبي عن عكرمة وقتادة أنه غلام لبني المغيرة اسمه يعيش، وكان يقرأ الكتب الاعجمية، فقالت قريش: إنما يعلمه بشر، فنزلت. المهدوي عن عكرمة:
__________
(1). راجع ج 1 ص 116.

هو غلام لبني عامر بن لؤي، واسمه يعيش. وقال عبد الله بن مسلم الحضرمي: كان لنا غلامان نصرانيان من أهل عين التمر، اسم أحدهما يسار واسم الآخر جبر. كذا ذكر الماوردي والقشيري والثعلبي، إلا أن الثعلبي قال: يقال لأحدهما نبت ويكنى أبا فكيهة، والآخر جبر، وكانا صيقلين «1» يعملان السيوف، وكانا يقرأن كتابا لهم. الثعلبي: يقرأن التوراة والإنجيل. الماوردي والمهدوي: التوراة. فكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يمر بهما ويسمع قراءتهما، وكان المشركون يقولون: يتعلم منهما، فأنزل الله هذه الآية وأكذبهم. وقيل: عنوا سلمان الفارسي رضي الله عنه، قاله الضحاك. وقيل: نصرانيا بمكة اسمه بلعام، وكان غلاما يقرأ التوراة، قاله ابن عباس. وكان المشركون يرون رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين يدخل عليه ويخرج من عنده، فقالوا: إنما يعلمه بلعام. وقال القتبي: كان بمكة رجل نصراني يقال له أبو ميسرة يتكلم بالرومية، فربما قعد إليه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال الكفار: انما يتعلم محمد منه، فنزلت. وفي رواية أنه عداس غلام عتبة بن ربيعة. وقيل: عابس غلام حويطب بن عبد العزى ويسار أبو فكيهة مولى ابن الحضرمي، وكانا قد أسلما. والله أعلم. قلت: والكل محتمل، فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ربما جلس إليهم في أوقات مختلفة ليعلمهم مما علمه الله، وكان ذلك بمكة. وقال النحاس: وهذه الأقوال ليست بمتناقضة، لأنه يجوز أن يكونوا أومئوا إلى هؤلاء جميعا، وزعموا أنهم يعلمونه. قلت: وأما ما ذكره الضحاك من أنه سلمان ففيه بعد، لان سلمان إنما أتى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالمدينة، وهذه الآية مكية. (لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ) الإلحاد: الميل، يقال: لحد وألحد، أي مال عن القصد وقد تقدم في الأعراف «2». وقرا حمزة" يلحدون" بفتح الياء والحاء، أي لسان الذي يميلون إليه ويشيرون أعجمي. والعجمة: الإخفاء وضد البيان. ورجل أعجم وامرأة عجم، أي لا يفصح، ومنه عجم الذنب لاستتاره. والعجماء:
__________
(1). الصيقل: شحاذ السيوف وجلاؤها
(2). راجع ج 7 ص 328.

إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104)

البهيمة، لأنها لا توضح عن نفسها. وأعجمت الكتاب أي أزلت عجمته. والعرب تسمي كل من لا يعرف لغتهم ولا يتكلم بكلامهم أعجميا. وقال الفراء: الأعجم الذي في لسانه عجمة وإن كان من العرب، والأعجمي أو العجمي الذي أصله من العجم. وقال أبو علي: الأعجمي الذي لا يفصح، سواء كان من العرب أو من العجم، وكذلك الأعجم والأعجمي المنسوب إلى العجم وإن كان فصيحا. وأراد باللسان القرآن، لان العرب تقول للقصيدة والبيت لسانا، قال الشاعر:
لسان الشر تهديها إلينا ... وخنت وما حسبتك أن تخونا
يعني باللسان القصيدة. وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ أي أفصح ما يكون من العربية.

[سورة النحل (16): آية 104]
إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (104)
قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ) أي هؤلاء المشركون الذين لا يؤمنون بالقرآن (لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ.)

[سورة النحل (16): آية 105]
إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ (105)
قوله تعالى: (إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ) 105 (قوله تعالى:) إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ) هذا جواب وصفهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالافتراء. (وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ) هذا مبالغة في وصفهم بالكذب، أي كل كذب قليل بالنسبة إلى كذبهم. ويقال: كذب فلان ولا يقال إنه كاذب، لان الفعل قد يكون لازما وقد لا يكون لازما. فأما النعت فيكون لازم ولهذا يقال: عصى آدم ربه فغوى، ولا يقال: إنه عاص غاو. فإذا قيل: كذب فلان فهو كاذب، كان مبالغة في الوصف بالكذب، قاله القشيري.

مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106)

[سورة النحل (16): آية 106]
مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (106)
فيه إحدى وعشرون مسألة: الأولى قوله تعالى: (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ) هذا متصل بقوله تعالى:" وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها" فكان مبالغة في الوصف بالكذب، لان معناه لا ترتدوا عن بيعة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أي من كفر من بعد إيمانه وارتد فعليه غضب الله. قال الكلبي: نزلت في عبد الله بن أبي سرح ومقيس بن ضبابة وعبد الله بن خطل «1»، وقيس بن الوليد بن المغيرة، كفروا بعد إيمانهم. ثم قال: (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ). وقال الزجاج:" مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ" بدل ممن يفترى الكذب، أي إنما يفترى الكذب من كفر بالله من بعد إيمانه، لأنه رأى الكلام إلى آخر الاستثناء غير تام فعلقه بما قبله. وقال الأخفش:" مَنْ" ابتداء وخبره محذوف، اكتفي منه بخبر" من" الثانية، كقولك: من يأتنا من يحسن نكرمه. الثانية- قوله تعالى: (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ) هذه الآية نزلت في عمار بن ياسر، في قول أهل التفسير، لأنه قارب بعض ما ندبوه إليه. قال ابن عباس: أخذه المشركون وأخذوا أباه وأمه سمية وصهيبا وبلالا وخبابا وسالما فعذبوهم، وربطت سمية بين بعيرين ووجئ قبلها بحربة، وقيل لها إنك أسلمت من أجل الرجال، فقتلت وقتل زوجها ياسر، وهما أول قتيلين في الإسلام. وأما عمار فأعطاهم ما أرادوا بلسانه مكرها، فشكا ذلك إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" كيف تجد قلبك"؟ قال: مطمئن بالايمان. فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" فإن عادوا فعد". وروى منصور بن المعتمر عن مجاهد قال: أول شهيدة في الإسلام أم عمار، قتلها أبو جهل، وأول
__________
(1). في الأصول:" عبد الله بن أمس بن خطل" وهو تحريف. [.....]

شهيد من الرجال مهجع مولى عمر. وروى منصور أيضا عن مجاهد قال: أول من أظهر الإسلام سبعة: رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبو بكر، وبلال، وخباب، وصهيب، وعمار، وسميه أم عمار. فأما رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فمنعه أبو طالب، وأما أبو بكر فمنعه قومه، وأخذوا الآخرين فألبسوهم أدرع الحديد، ثم صهروهم في الشمس حتى بلغ منهم الجهد كل مبلغ من حر الحديد والشمس، فلما كان من العشي أتاهم أبو جهل ومعه حربة، فجعل يسبهم ويوبخهم، وأتى سمية فجعل يسبها ويرفث «1»، ثم طعن فرجها حتى خرجت الحربة من فمها فقتلها، رضي الله عنها. قال: وقال الآخرون ما سئلوا، إلا بلالا فإنه هانت عليه نفسه في الله، فجعلوا يعذبونه ويقولون له: ارجع عن دينك، وهو يقول أحد أحد، حتى ملوه، ثم كتفوه وجعلوا في عنقه حبلا من ليف، ودفعوه إلى صبيانهم يلعبون به بين أخشبي «2» مكة حتى ملوه وتركوه، قال فقال عمار: كلنا تكلم بالذي قالوا- لولا أن الله تداركنا- غير بلال فإنه هانت عليه نفسه في الله، فهان على قومه حتى ملوه وتركوه. والصحيح أن أبا بكر اشترى بلالا فأعتقه. وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد أن ناسا من أهل مكة آمنوا، فكتب إليهم بعض أصحاب محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالمدينة: أن هاجروا إلينا، فإنا لا نراكم منا حتى تهاجروا إلينا، فخرجوا يريدون المدينة حتى أدركتهم قريش بالطريق، ففتنوهم فكفروا مكرهين، ففيهم نزلت هذه الآية. ذكر الروايتين عن مجاهد إسماعيل بن إسحاق. وروى الترمذي عن عائشة قالت قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" ما خير عمار بين أمرين إلا اختار أرشدهما" هذا حديث حسن غريب. وروى عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" إن الجنة تشتاق إلى ثلاثة علي وعمار وسلمان بن ربيعة". قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث الحسن بن صالح. الثانية- لما سمح الله عز وجل بالكفر به وهو أصل الشريعة عند الإكراه ولم يؤاخذ به، حمل العلماء عليه فروع الشريعة كلها، فإذا وقع الإكراه عليها لم يؤاخذ به ولم يترتب
__________
(1). الرفث: الفحش من القول.
(2). الأخشبان: الجبلان المطيفان بمكة،. هما أبو قبيس والأحمر.

عليه حكم، وبه جاء الأثر المشهور عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" الحديث. والخبر وإن لم يصح سنده فإن معنا صحيح باتفاق من العلماء، قاله القاضي أبو بكر بن العربي. وذكر أبو محمد عبد الحق أن إسناده صحيح، قال: وقد ذكره أبو بكر الاصيلي في الفوائد وابن المنذر في كتاب الإقناع. الرابعة- أجمع أهل العلم على أن من أكره على الكفر حتى خشي على نفسه القتل، أنه لا إثم عليه إن كفر وقلبه مطمئن بالايمان، ولا تبين منه زوجته ولا يحكم عليه بحكم الكفر، هذا قول مالك والكوفيين والشافعي، غير محمد بن الحسن فإنه قال: إذا أظهر الشرك كان مرتدا في الظاهر، وفيما بينه وبين الله تعالى على الإسلام، وتبين منه امرأته ولا يصلى عليه إن مات، ولا يرث أباه إن مات مسلما. وهذا قول يرده الكتاب والسنة، قال الله تعالى:" إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ" الآية. وقال:" إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً «1»" وقال:" إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ «2»" الآية. وقال:" إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ «3»" الآية. فعذر الله المستضعفين الذين يمتنعون من ترك ما أمر الله به، والمكره لا يكون إلا مستضعفا غير ممتنع من فعل ما أمر به، قاله البخاري. الخامسة- ذهبت طائفة من العلماء إلى أن الرخصة إنما جاءت في القول، وأما في الفعل فلا رخصة فيه، مثل أن يكرهوا على السجود لغير الله أو الصلاة لغير القبلة، أو قتل مسلم أو ضربه أو أكل ماله، أو الزنى وشرب الخمر واكل الربا، يروى هذا عن الحسن البصري، رضي الله عنه. وهو قول الأوزاعي وسحنون من علمائنا. وقال محمد بن الحسن: إذا قيل للأسير: اسجد لهذا الصنم وإلا قتلتك. فقال: إن كان الصنم مقابل القبلة فليسجد ويكون نيته لله تعالى، وإن كان لغير القبلة فلا يسجد وإن قتلوه. والصحيح أنه يسجد وإن كان لغير القبلة، وما أحراه بالسجود حينئذ، ففي الصحيح عن ابن عمر قال: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي وهو مقبل من مكة إلى المدينة على راحلته حيث كان
__________
(1). راجع ج 4 ص 57.
(2). راجع ج 5 ص 345.
(3). راجع ج 5 ص 345.

وجهه، قال: وفية نزلت" فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ «1»" في رواية: ويوتر عليها، غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة. فإذا كان هذا مباحا في السفر في حالة الأمن لتعب النزول عن الدابة للتنفل فكيف بهذا. واحتج من قصر الرخصة على القول بقول ابن مسعود: ما من كلام يدرأ عني سوطين من ذى سلطان إلا كنت متكلما به. فقصر الرخصة على القول ولم يذكر الفعل، وهذا لا حجة فيه، لأنه يحتمل أن يجعل الكلام مثالا وهو يريد أن الفعل في حكمه. وقالت طائفة: الإكراه في الفعل والقول سواء إذا أسر الايمان. روى ذلك عن عمر بن الخطاب ومكحول، وهو قول مالك وطائفة من أهل العراق. روى ابن القاسم عن مالك أن من أكره على شرب الخمر وترك الصلاة أو الإفطار في رمضان، أن الإثم عنه مرفوع. السادسة- أجمع العلماء على أن من أكره على قتل غيره أنه لا يجوز له الاقدام على قتله ولا انتهاك حرمته بجلد أو غيره، ويصبر على البلاء الذي نزل به، ولا يحل له أن يفدى نفسه بغيره، ويسأل الله العافية في الدنيا والآخرة. واختلف في الزنى، فقال مطرف وأصبغ وابن عبد الحكم وابن الماجشون: لا يفعل أحد ذلك، وإن قتل لم يفعله، فإن فعله فهو آثم ويلزمه الحد، وبه قال أبو ثور والحسن. قال ابن العربي: الصحيح أنه يجوز الاقدام على الزنى ولا حد عليه، خلافا لمن ألزمه ذلك، لأنه رأى أنها شهوة خلقية لا يتصور الإكراه عليها، وغفل عن السبب في باعث الشهوة وهو الإلجاء إلى ذلك، وهو الذي أسقط حكمه، وإنما يجب الحد على شهوة بعث عليها سبب اختياري، فقاس الشيء على ضده، فلم يحل بصواب من عنده. وقال ابن خويز منداد في أحكامه: اختلف أصحابنا متى أكره الرجل على الزنى، فقال بعضهم: عليه الحد، لأنه إنما يفعل ذلك باختياره. وقال بعضهم: لا حد عليه. قال ابن خويز منداد: وهو الصحيح. وقال أبو حنيفة: إن أكرهه غير السلطان حد، وإن أكرهه السلطان فالقياس أن يحد، ولكن استحسن ألا يحد. وخالفه صاحباه فقالا: لا حد عليه في الوجهين، ولم يراعوا الانتشار،
__________
(1). راجع ج 2 ص 79.

وقالوا: متى علم أنه يتخلص من القتل بفعل الزنى جاز أن ينتشر. قال ابن المنذر لا حد عليه، ولا فرق بين السلطان في ذلك وغير السلطان. السابعة- اختلف العلماء في طلاق المكره وعتاقه، فقال الشافعي وأصحابه: لا يلزمه شي. وذكر ابن وهب عن عمر وعلي وابن عباس أنهم كانوا لا يرون طلاقه شيئا. وذكره ابن المنذر عن ابن الزبير وابن عمر وابن عباس وعطاء وطاوس والحسن وشريح والقاسم وسالم ومالك والأوزاعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور. وأجازت طائفة طلاقه، روى ذلك عن الشعبي والنخعي وأبي قلابة والزهري وقتادة، وهو قول الكوفيين. قال أبو حنيفة: طلاق المكره يلزم، لأنه لم يعدم فيه أكثر من الرضا، وليس وجوده بشرط في الطلاق كالهازل. وهذا قياس باطل، فإن الهازل قاصد إلى إيقاع الطلاق راض به، والمكره غير راض ولا نية له في الطلاق، وقد قال عليه السلام:" إنما الأعمال بالنيات". وفي البخاري: وقال ابن عباس فيمن يكرهه اللصوص فيطلق: ليس بشيء، وبه قال ابن عمر وابن الزبير والشعبي والحسن. وقال الشعبي: إن أكرهه اللصوص فليس بطلاق، وإن أكرهه السلطان فهو طلاق. وفسره ابن عيينة فقال: إن اللص يقدم على قتله والسلطان لا يقتله. الثامنة- وأما بيع المكره والمضغوط فله حالتان. الاولى- أن يبيع ماله في حق وجب عليه، فذلك ماض سائغ لا رجوع فيه عند الفقهاء، لأنه يلزمه أداء الحق إلى ربه من غير المبيع، فلما لم يفعل ذلك كان بيعه اختيارا منه فلزمه. وأما بيع المكره ظلما أو قهرا فذلك بيع لا يجوز عليه. وهو أولى بمتاعه يأخذه بلا ثمن، ويتبع المشترى بالثمن ذلك الظالم، فإن فات المتاع رجع بثمنه أو بقيمته بالأكثر من ذلك على الظالم إذا كان المشترى غير عالم بظلمه. قال مطرف: ومن كان من المشترين يعلم حال المكره فإنه ضامن لما ابتاع من رقيقه وعروضه كالغاصب، وكلما أحدث المبتاع في ذلك من عتق أو تدبير أو تحبيس فلا يلزم المكره، وله أخذ متاعه. قال سحنون: أجمع أصحابنا واهل العراق على أن بيع المكره على الظلم والجور لا يجوز. وقال الأبهري: إنه إجماع.

التاسعة- وأما نكاح المكره، فقال سحنون: أجمع أصحابنا على إبطال نكاح المكره والمكرهة، وقالوا: لا يجوز المقام عليه، لأنه لم ينعقد. قال محمد بن سحنون: وأجاز أهل العراق نكاح المكره، وقالوا: لو أكره على أن ينكح امرأة بعشرة آلاف درهم، وصداق مثلها ألف درهم، أن النكاح جائز وتلزمه الالف ويبطل الفضل. قال محمد: فكما أبطلوا الزائد على الالف فكذلك يلزمهم إبطال النكاح بالإكراه. وقولهم خلاف السنة الثابتة في حديث خنساء بنت حذام الأنصارية، ولأمره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالاستئمار في أبضاعهن، وقد تقدم، فلا معنى لقولهم. العاشرة- فان وطئها المكره على النكاح غير مكره على الوطي والرضا بالنكاح لزمه النكاح عندنا على المسمى من الصداق ودرئ عنه الحد. وإن قال: وطئتها على غير رضا مني بالنكاح فعليه الحد والصداق المسمى، لأنه مدع لإبطال الصداق المسمى، وتحد المرأة إن أقدمت وهي عالمة أنه مكره على النكاح. وأما المكرهة على النكاح وعلى الوطي فلا حد عليها ولها الصداق، ويحد الواطئ، فأعلمه. قاله سحنون. الحادية عشرة- إذا استكرهت المرأة على الزنى فلا حد عليها، لقوله" إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ" وقوله عليه السلام:" إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه"، ولقول الله تعالى:" فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ «1»" يريد الفتيات. وبهذا المعنى حكم عمر في الوليدة التي استكرهها العبد فلم يحدها. والعلماء متفقون على أنه لا حد على امرأة مستكرهة. وقال مالك: إذا وجدت المرأة حاملا وليس لها زوج فقالت استكرهت فلا يقبل ذلك منها وعليها الحد، إلا أن تكون لها بينة أو جاءت تدمي على أنها أوتيت»
، أو ما أشبه ذلك. واحتج بحديث عمر بن الخطاب أنه قال: الرجم في كتاب الله حق على من زنى من الرجال والنساء إذا أحصن إذا قامت البينة، أو كان الحبل أو الاعتراف. قال ابن المنذر: وبالقول الأول أقول.
__________
(1). راجع ج 12 ص 255.
(2). عبارة الموطأ:" أو جاءت تدمى إن كانت بكرا أو استغاثت حتى أوتيت وعلى ذلك ..." إلخ.

الثانية عشرة- واختلفوا في وجوب الصداق للمستكرهة، فقال عطاء والزهري: لها صداق مثلها، وهو قول مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور. وقال الثوري: إذا أقيم الحد على الذي زنى بها بطل الصداق. وروى ذلك عن الشعبي، وبه قال أصحاب مالك وأصحاب الرأى. قال ابن المنذر: القول الأول صحيح. الثالثة عشرة- إذا أكره الإنسان على إسلام أهله لما لم يحل أسلمها، ولم يقتل «1» نفسه دونها ولا أحتمل أذية في تخليصها. والأصل في ذلك ما خرجه البخاري عن أبي هريرة قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" هاجر إبراهيم عليه السلام بسارة ودخل بها قرية فيها ملك من الملوك أو جبار من الجبابرة فأرسل إليه أن أرسل بها إلي فأرسل بها فقام إليها فقامت تتوضأ وتصلي فقالت اللهم إن كنت آمنت بك وبرسولك فلا تسلط علي هذا الكافر فغط حتى ركض برجله «2»". ودل هذا الحديث أيضا على أن سارة لما لم يكن عليها ملامة، فكذلك لا يكون على المستكرهة ملامة، ولا حد فيما هو أكبر من الخلوة. والله أعلم. الرابعة عشرة- وأما يمين المكره فغير لازمة. عند مالك والشافعي وأبي ثور وأكثر العلماء. قال ابن الماجشون: وسواء حلف فيما هو طاعة لله أو فيما هو معصية إذ أكره على اليمين، وقاله أصبغ. وقال مطرف: إن أكره على اليمين فيما هو لله معصية أو ليس في فعله طاعة ولا معصية فاليمين فيه ساقطة، وإن أكره على اليمين فيما هو طاعة مثل أن يأخذ الوالي رجلا فاسقا فيكرهه أن يحلف بالطلاق لا يشرب خمرا، أو لا يفسق ولا يغش في عمله، أو الولد يحلف ولده تأديبا له فإن اليمين تلزم، وإن كان المكره قد أخطأ فيما يكلف من ذلك. وقال به ابن حبيب. وقال أبو حنيفة ومن اتبعه من الكوفيين: إنه إن حلف ألا يفعل ففعل حنث، قالوا: لان المكره له أن يورى في يمينه كلها، فلما لم يور ولا ذهبت نيته إلى خلاف ما أكره عليه فقد قصد إلى اليمين. احتج الأولون بأن قالوا: إذا أكره عليها فنيته مخالفة لقوله، لأنه كاره لما حلف عليه.
__________
(1). ينظر هذا على ما رواه أبو داود والترمذي والنسائي، وابن ماجة وفية" من قتل دون أهله شهيد". كشف الخفاج ص 269.
(2). ذكر المؤلف هذا الحديث مختصرا، في شرح القسطلاني، كتاب اليبوع ج 4 ص 122 طبعه بولاق. الغط هنا هو العصر الشديد والكبس، والركض الضرب بالرجل.

الخامسة عشرة- قال ابن العربي: ومن غريب الامر أن علماءنا اختلفوا في الإكراه على الحنث هل يقع به أم لا، وهذه مسألة عراقية سرت لنا منهم، لا كانت هذه المسألة ولا كانوا! وأى فرق يا معشر أصحابنا بين الإكراه على اليمين في أنها لا تلزم وبين الحنث في أنه لا يقع! فاتقوا الله وراجعوا بصائركم، ولا تغتروا بهذه الروية فإنها وصمة في الدراية. السادسة عشرة- إذا أكره الرجل على أن يحلف وإلا أخذ له مال كأصحاب المكس وظلمة السعاة واهل الاعتداء، فقال مالك: لا تقية له في ذلك، وإنما يدرأ المرء بيمينه عن بدنه لا ماله. وقال ابن الماجشون: لا يحنث وإن درأ عن ماله ولم يخف على بدنه. وقال ابن القاسم بقول مطرف، ورواه عن مالك، وقاله ابن عبد الحكم وأصبغ. قلت: قول ابن الماجشون صحيح، لان المدافعة عن المال كالمدافعة عن النفس، وهو قول الحسن وقتادة وسيأتي. وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام" وقال:" كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه". وروى أبو هريرة قال: جاء رجل إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله، أرأيت إن جاء رجلا يريد أخذ مالى؟ قال:" فلا تعطه مالك". قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال:" قاتله" قال: أرأيت إن قتلني؟ قال:" فأنت شهيد" قال: أرأيت إن قتلته؟ قال:" هو في النار" خرجه مسلم «1». وقد مضى الكلام فيه. وقال مطرف وابن الماجشون: وإن بدر الحالف بيمينه للوالي الظالم قبل أن يسألها ليذب بها عما خاف عليه من ماله وبدنه فحلف له فإنها تلزمه. وقاله ابن عبد الحكم وأصبغ. وقال أيضا ابن الماجشون فيمن أخذه ظالم فحلف له بالطلاق البتة من غير أن يحلفه وتركه وهو كاذب، وإنما حلف خوفا من ضربه وقتله واخذ ماله: فإن كان إنما تبرع باليمين غلبة خوف ورجاء النجاة من ظلمه فقد دخل في الإكراه ولا شي عليه، وإن لم يحلف على رجاء النجاة فهو حانث. السابعة عشرة- قال المحققون من العلماء: إذا تلفظ المكره بالكفر فلا يجوز له أن يجريه على لسانه إلا مجرى المعاريض، فإن في المعاريض «2» لمندوحة عن الكذب. ومتى لم يكن
__________
(1). ويؤيد هذا ما رواه أحمد والترمذي عن ابن عمر" من قتل دون كاله فهو شهيد" كشفا الخفا ج 2 ص 296.
(2). المعاريض: التورية بالشيء عن الشيء. وأعرض الكلام ومعارضة ومعاريضه: كلام يشبه بعضه بعضا في المعاني.

كذلك كان كافرا، لان المعاريض لا سلطان للإكراه عليها. مثاله- أن يقال له: اكفر بالله فيقول باللاهى، فيزيد الياء. وكذلك إذا قيل له: أكفر بالنبي فيقول هو كافر بالنبي، مشددا وهو المكان المرتفع من الأرض «1». ويطلق على ما يعمل من الخوص شبه المائدة، فيقصد أحدهما بقلبه ويبرأ من الكفر ويبرأ من إثمه. فإن قيل له: أكفر بالنبي (مهموزا) فيقول هو كافر بالنبي يريد بالمخبر، أي مخبر كان كطليحة «2» ومسلمة الكذاب. أو يريد به النبي الذي قال فيه الشاعر:
فأصبح رتما دقاق الحصى ... مكان النبي من الكاثب «3»
الثامنة عشرة- أجمع العلماء على أن من أكره على الكفر فاختار القتل أنه أعظم أجرا عند الله ممن اختار الرخصة. واختلفوا فيمن أكره على غير القتل من فعل ما لا يحل له، فقال أصحاب مالك: الأخذ بالشدة في ذلك واختيار القتل والضرب أفضل عند الله من الأخذ بالرخصة، ذكره ابن حبيب وسحنون. وذكر ابن سحنون عن أهل العراق أنه إذا تهدد بقتل أو قطع أو ضرب يخاف منه التلف فله أن يفعل ما أكره عليه من شرب خمر أو أكل خنزير، فان لم يفعل حتى قتل خفنا أن يكون آثما لأنه كالمضطر. وروى خباب بن الأرت قال: شكونا إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة فقلت: ألا تستنصر لنا ألا تدعو لنا؟ فقال:" قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه فما يصده ذلك عن دينه والله ليتمن هذا الامر «4» حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون". فوصفه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذا عن الأمم السالفة على جهة المدح لهم والصبر على المكروه في ذات الله، وأنهم لم يكفروا في الظاهر وتبطنوا الايمان ليدفعوا العذاب عن أنفسهم. وهذه حجة من آثر الضرب
__________
(1). ومنه الحديث:" لا تصلوا على النبي" أي على الأرض المرتفعة المحدودبة.
(2). هو طليحة ابن خويلد بن نوفل الأسدي، ارتد بعد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وادعى النبوة ثم أسلم. [.....]
(3). الرتم (بالتاء والثاء): الدق والكسر. ويريد بالنبي المكان المرتفع. والكائب: الرمل المجتمع.
(4). يريد الإسلام.

والقتل والهوان على الرخصة والمقام بدار الجنان. وسيأتي لهذا مزيد بيان في سورة" الأخدود «1»" إن شاء الله تعالى. وذكر أبو بكر محمد بن محمد بن الفرج البغدادي قال: حدثنا شريح بن يونس عن إسماعيل بن إبراهيم عن يونس بن عبيد عن الحسن أن عيونا لمسيلمة أخذوا رجلين من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فذهبوا بهما إلى مسيلمة، فقال لأحدهما: أتشهد أن محمدا رسول الله؟ قال نعم. قال.: أتشهد أنى رسول الله؟ قال نعم. فخلى عنه. وقال الآخر: أتشهد أن محمدا رسول الله؟ قال نعم. قال: وتشهد أنى رسول الله؟ قال: أنا أصم لا أسمع، فقدمه وضرب عنقه. فجاء هذا إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: هلكت! قال:" وما أهلكك"؟ فذكر الحديث، قال:" أما صاحبك فأخذ بالثقة «2» وأما أنت فأخذت بالرخصة على ما أنت عليه الساعة" قال: أشهد أنك رسول الله. قال" أنت على ما أنت عليه". الرخصة فيمن حلفه سلطان ظالم على نفسه أو على أن يدله على رجل أو مال رجل، فقال الحسن: إذا خاف عليه وعلى ماله فليحلف ولا يكفر يمينه، وهو قول قتادة إذا حلف على نفسه أو مال نفسه. وقد تقدم ما للعلماء في هذا. وذكر موسى بن معاوية أن أبا سعيد بن أشرس صاحب مالك استحلفه السلطان بتونس على رجل أراد السلطان قتله أنه ما آواه، ولا يعلم له موضعا، قال: فحلف له ابن أشرس، وابن أشرس يومئذ قد علم موضعه وآواه، فحلفه بالطلاق ثلاثا، فحلف له ابن أشرس، ثم قال لامرأته: اعتزلي فاعتزلته، ثم ركب ابن أشرس حتى قدم على البهلول بن راشد القيروان، فأخبره بالخبر، فقال له البهلول: قال مالك إنك حانث. فقال ابن أشرس: وأنا سمعت مالكا يقول ذلك، وإنما أردت الرخصة أو كلام هذا معناه، فقال له البهلول ابن راشد: قال الحسن البصري إنه لا حنث عليك. قال: فرجع ابن أشرس إلى زوجته واخذ بقول الحسن. وذكر عبد الملك بن حبيب قال: حدثني معبد عن المسيب بن شريك عن أبى شيبة قال: سألت أنس بن مالك عن الرجل يؤخذ بالرجل، هل ترى أن يحلف ليقيه بيمينه؟ فقال نعم، ولان أحلف سبعين يمينا
__________
(1). راجع ج 19 ص 284.
(2). عبارة الدر المنثور: (" أما صاحبك فمضى على إيمانه".)

وأحنث أحب إلى أن أدل على مسلم. وقال إدريس بن يحيى كان الوليد بن عبد الملك يأمر جواسيس يتجسسون الخلق يأتونه بالأخبار، قال: فجلس رجل منهم في حلقة رجاء بن حيوة فسمع بعضهم يقع في الوليد، فرفع ذلك إليه فقال: يا رجاء! اذكر بالسوء في مجلسك ولم تغير؟ فقال: ما كان ذلك يا أمير المؤمنين، فقال له الوليد: قل آلله الذي لا إله إلا هو، قال: آلله الذي لا إله إلا هو، فأمر الوليد بالجاسوس فضربه سبعين سوطا، فكان يلقى رجاء فيقول: يا رجاء، بك يستقى «1» المطر، وسبعون سوطا في ظهري! فيقول رجاء: سبعون سوطا في ظهرك خير لك من أن يقتل رجل مسلم. التاسعة عشرة- واختلف العلماء في حد الإكراه، فروى عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه أنه قال: ليس الرجل آمن على نفسه إذا أخفته أو أوثقته أو ضربته. وقال ابن مسعود ما كلام يدرأ عنى سوطين إلا كنت متكلما به. وقال الحسن: التقية جائزة للمؤمن إلى يوم القيامة، إلا أن الله تبارك وتعالى ليس يجعل في القتل تقية. وقال النخعي: القيد إكراه، والسجن إكراه. وهذا قول مالك، إلا أنه قال: والوعيد المخوف إكراه وإن لم يقع، إذا تحقق ظلم ذلك المعتدى وإنفاذه لما يتوعد به، وليس عند مالك وأصحابه في الضرب والسجن توقيت، إنما هو ما كان يؤلم من الضرب، وما كان من سجن يدخل منه الضيق على المكره. وإكراه السلطان وغيره عند مالك إكراه. وتناقض الكوفيون فلم يجعلوا السجن والقيد إكراها على شرب الخمر واكل الميتة، لأنه لا يخاف منهما التلف. وجعلوها إكراها في إقراره لفلان عندي ألف درهم. قال ابن سحنون: وفى إجماعهم على أن الألم والوجع الشديد إكراه ما يدل على أن الإكراه يكون من غير تلف نفس. وذهب مالك إلى أن من أكره على يمين بوعيد أو سجن أو ضرب أنه يحلف، ولا حنث عليه، وهو قول الشافعي وأحمد وأبى ثور وأكثر العلماء. الموفية عشرين- ومن هذا الباب ما ثبت إن من المعاريض لمندوحة عن الكذب. وروى الأعمش عن إبراهيم النخعي أنه قال: لا بأس إذا بلغ الرجل عنك شي أن تقول:
__________
(1). في ج وى: يستسقى.

ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107) أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (108) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (109)

والله، إن الله يعلم ما قلت فيك من ذلك من شي. قال عبد الملك بن حبيب: معناه أن الله يعلم أن الذي قلت، وهو في ظاهره انتفاء من القول، ولا حنث على من قال ذلك في يمينه ولا كذب عليه في كلامه. وقال النخعي: كان لهم كلام من الغاز الايمان يدرءون به عن أنفسهم، لا يرون ذلك من الكذب ولا يخشون فيه الحنث «1». قال عبد الملك: وكانوا يسمون ذلك المعاريض من الكلام، إذا كان ذلك في غير مكر ولا خديعة في حق. وقال الأعمش: كان إبراهيم النخعي إذا أتاه أحد يكره الخروج إليه جلس في مسجد بيته وقال لجاريته: قولي له هو والله في المسجد. وروى مغيرة عن إبراهيم أنه كان يجيز للرجل من البعث «2» إذا عرضوا على أميرهم أن يقول: والله ما أهتدى إلا ما سدد لي غيرى، ولا أركب إلا ما حملني غيرى، ونحو هذا من الكلام. قال عبد الملك: يعنى بقوله:" غيرى" الله تعالى، هو مسدده وهو يحمله، فلم يكونوا يرون على الرجل في هذا حنثا في يمينه، ولا كذبا في كلامه، وكانوا يكرهون أن يقال هذا في خديعة وظلم وجحد ان «3» حق فمن اجترأ وفعل أثم في خديعته ولم تجب عليه كفارة في يمينه. الحادية والعشرون- قوله تعالى: (وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ) أي وسعه لقبول الكفر، ولا يقدر أحد على ذلك إلا الله، فهو يرد على القدرية. و" صَدْراً" نصب على المفعول. (فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) وهو عذاب جهنم.

[سورة النحل (16): الآيات 107 الى 109]
ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (107) أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (108) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ (109)
__________
(1). وذلك كما في كتاب الملاحن لابن دريد.
(2). البعث: الجيش.
(3). هذا المصدر لم تورده كتب اللغة في هذه المادة.

ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110)

قوله تعالى: (ذلِكَ) أي ذلك الغضب. (بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا) أي اختاروها على الآخرة. (وَأَنَّ اللَّهَ)" أَنَّ" في موضع خفض عطفا على" بِأَنَّهُمُ". (لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) ثم وصفهم فقال: (أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) أي عن فهم المواعظ. (وَسَمْعِهِمْ) عن كلام الله تعالى. (وَأَبْصارِهِمْ) عن النظر في الآيات. (وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) عما يراد بهم. (لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ) تقدم «1».

[سورة النحل (16): آية 110]
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110)
قوله تعالى: (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا) هذا كله في عمار. على الجهاد، ذكره النحاس. وقال قتادة: نزلت في قوم خرجوا مهاجرين إلى المدينة بعد أن فتنهم المشركون وعذبوهم، وقد تقدم ذكرهم في هذه السورة «2». وقيل: نزلت في ابن أبى سرح، وكان قد ارتد ولحق بالمشركين فأمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقتله يوم فتح مكة، فاستجار بعثمان فأجاره النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ذكره النسائي عن عكرمة عن ابن عباس قال: في سورة النحل." مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ- إلى قوله- وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ" فنسخ، واستثنى من ذلك فقال:" ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ" وهو عبد الله بن سعد بن أبى سرح الذي كان على مصر،. كان يكتب لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأزله الشيطان فلحق بالكفار فأمر به أن يقتل يوم الفتح، فاستجار له عثمان بن عفان فأجاره رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

[سورة النحل (16): آية 111]
يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (111)
__________
(1). راجع ج 9 ص 20.
(2). راجع ص 180 من هذا الجزء.

وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112)

قوله تعالى: (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها) أي إن الله غفور رحيم في ذلك. أو ذكرهم." يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها" أي تخاصم وتحاج عن نفسها، جاء في الخبر أن كل أحد يقول يوم القيامة: نفسي نفسي! من شدة هول يوم القيمة سوى محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنه يسأل في أمته. وفى حديث عمر أنه قال لكعب الأحبار: يا كعب، خوفنا هيجنا حدثنا نبهنا. فقال له كعب: يا أمير المؤمنين، والذي نفسي بيده لو وافيت يوم القيامة بمثل عمل سبعين نبيا لاتت عليك تارات لا يهمك إلا نفسك، وإن لجهنم زفرة لا يبقى ملك مقرب ولا نبى منتخب إلا وقع جاثيا على ركبتيه، حتى إن إبراهيم الخليل ليدلى بالخلة فيقول: يا رب، أنا خليلك إبراهيم، لا أسألك اليوم إلا نفسي! قال: يا كعب، أين تجد ذلك في كتاب الله؟ قال: قوله تعالى:" يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ". وقال ابن عباس في هذه الآية: ما تزال الخصومة بالناس يوم القيامة حتى تخاصم الروح الجسد، فتقول الروح: رب، الروح منك أنت خلقته، لم تكن لي يد أبطش بها، ولا رجل أمشى بها، ولا عين أبصر بها، ولا أذن أسمع بها ولا عقل أعقل به، حتى جئت فدخلت في هذا الجسد، فضعف عليه أنواع العذاب ونجني، فيقول الجسد: رب، أنت خلقتني بيدك فكنت كالخشبة، ليس لي يد أبطش بها، ولا قدم أسعى به، ولا بصر أبصر به، ولا سمع أسمع به، فجاء هذا كشعاع النور، فبه نطق لساني، وبه أبصرت عيني، وبه مشت رجلي، وبه سمعت أذنى، فضعف عليه أنواع العذاب ونجني منه. قال: فيضرب الله لهما مثلا أعمى ومقعدا دخلا بستانا فيه ثمار، فالاعمى لا يبصر الثمرة والمقعد لا ينالها، فنادى المقعد الأعمى ايتني فاحملني آكل وأطعمك، فدنا منه فحمله، فأصابوا من الثمرة، فعلى من يكون العذاب؟ (قالا «1»: عليهما) قال: عليكما جميعا العذاب، ذكره الثعلبي.

[سورة النحل (16): آية 112]
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (112)
__________
(1). من ج وى، وفى و: قال.

وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (113)

قوله تعالى: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً) هذا متصل بذكر المشركين. وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دعا على مشركي قريش وقال:" اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسنى يوسف". فابتلوا بالقحط حتى أكلوا العظام، ووجه إليهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طعاما ففرق فيهم. (كانَتْ آمِنَةً) لا يهاج أهلها. (يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ) من البر والبحر، نظيره" يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ «1»" الآية. (فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ) الانعم: جمع النعمة، كالاشد جمع الشدة. وقيل: جمع نعمى، مثل بؤسى وأبؤس. وهذا الكفران تكذيب بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (فَأَذاقَهَا اللَّهُ) أي أذاق أهلها. (لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ) سماه لباسا لأنه يظهر عليهم من الهزال وشحوبة اللون وسوء الحال ما هو كاللباس. (بِما كانُوا يَصْنَعُونَ) أي من الكفر والمعاصي. وقرا حفص بن غياث ونصر بن عاصم وابن أبى إسحاق والحسن وأبو عمرو فيما روى عنه عبد الوارث وعبيد وعباس" والخوف" نصبا بإيقاع أذاقها عليه، عطفا على." لِباسَ الْجُوعِ" [أي أذاقها الله لباس الجوع «2»]" وأذاقها الخوف. وهو بعث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سراياه التي كانت تطيف بهم. واصل الذوق بالفم ثم يستعار فيوضع موضع الابتلاء. وضرب مكة مثلا لغيرها من البلاد، أي إنها مع جوار بيت الله وعمارة مسجده لما كفر أهلها أصابهم القحط فكيف بغيرها من القرى. وقد قيل: إنها المدينة، آمنت برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم كفرت بأنعم الله لقتل عثمان ابن عفان، وما حدث بها بعد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الفتن. وهذا قول عائشة وحفصة زوجي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قيل: إنه مثل مضروب بأى قرية كانت على هذه الصفة من سائر القرى.

[سورة النحل (16): آية 113]
وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ (113)
__________
(1). راجع ج 13 ص 299.
(2). من ج وى.

فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115) وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117)

قوله تعالى: (وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ) هذا بدل على أنها مكة. وهو قول ابن عباس ومجاهد وقتادة. (فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ) وهو الجوع الذي وقع بمكة. وقيل: الشدائد والجوع منها.

[سورة النحل (16): آية 114]
فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114)
قوله تعالى: (فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ) أي كلوا يا معشر المسلمين من الغنائم. وقيل: الخطاب للمشركين، لان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث إليهم بطعام رقة عليهم، وذلك أنهم لما ابتلوا بالجوع سبع سنين، وقطع العرب عنهم الميرة بأمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أكلوا العظام المحرقة والجيفة والكلاب الميتة والجلود والعلهز، وهو الوبر يعالج بالدم. ثم إن رؤساء مكة كلموا «1» رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين جهدوا وقالوا: هذا عذاب الرجال فما بال النساء والصبيان. وقال له أبو سفيان: يا محمد، إنك جئت تأمر بصلة الرحم والعفو، وإن قومك قد هلكوا، فادع الله لهم. فدعا لهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأذن للناس «2» بحمل الطعام إليهم وهم بعد مشركون.

[سورة النحل (16): آية 115]
إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115)
تقدم في" البقرة" القول فيها مستوفى «3».

[سورة النحل (16): الآيات 116 الى 117]
وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (116) مَتاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (117)
__________
(1). في ج: كاتبوا. [.....]
(2). في ى: أمر الناس.
(3). راجع ج 2 ص 216 وما بعدها.

فيه مسألتان: الاولى- قوله تعالى: (لِما تَصِفُ) ما هاهنا مصدرية، أي لوصف. وقيل: اللام لام سبب وأجل، أي لا تقولوا لأجل وصفكم" الْكَذِبَ" بنزع الخافض، أي لما تصف ألسنتكم من الكذب. وقرى." الكذب" بضم الكاف والذال والياء، نعتا للألسنة، وقد تقدم «1». وقرأ الحسن هنا خاصة «الْكَذِبَ» بفتح الكاف وخفض الذال والباء، نعتا" لما"، التقدير: ولا تقولوا للكذب الذي تصفه ألسنتكم، (هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ). الآية خطاب للكفار الذين حرموا البحائر والسوائب وأحلوا ما في بطون الانعام وإن كان ميتة. فقوله:" هذا حَلالٌ" اشارة إلى ميتة بطون الانعام، وكل ما أحلوه. وقوله:" وَهذا حَرامٌ" إشارة إلى البحائر والسوائب وكل ما حرموه. (إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ. مَتاعٌ قَلِيلٌ) أي ما هم فيه من نعيم الدنيا يزول عن قريب. وقال الزجاج: أي متاعهم متاع قليل. وقيل: لهم متاع قليل ثم يردون إلى عذاب أليم. الثانية- أسند الدرامى أبو محمد في مسنده: أخبارنا هارون عن حفص عن الأعمش قال: ما سمعت إبراهيم قط يقول حلال ولا حرام، ولكن كان يقول: كانوا يكرهون وكانوا يستحبون. قال ابن وهب قال مالك: لم يكن من فتيا الناس ان يقولوا هذا حلال وهذا حرام، ولكن يقولون إياكم كذا وكذا، ولم أكن لأصنع هذا. ومعنى هذا: ان التحليل وتحريم انما هو لله عز وجل، وليس لاحد ان يقول أو يصرح بهذا في عين من الأعيان، الا ان يكون الباري تعالى يخبر بذلك عنه. وما يؤدى إليه الاجتهاد في انه حرام يقول: انى اكره [كذا]. وكذلك كان مالك يفعل اقتداء بمن تقدم من اهل التقوى. فان قيل: فقد قال فيمن قال لزوجته أنت على حرام انها حرام ويكون ثلاثا. فالجواب أن مالكا لما سمع على بن ابى طالب يقول انها اقتدى به. وقد يقوى الدليل على التحريم
__________
(1). راجع ص 120 من هذا الجزء.

وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118)

عن المجتهد فلا بأس عنه ذلك ان يقول ذلك، كما يقول ان الربا حرام في غير الأعيان السته «1»، وكثيرا ما يطلق مالك رحمه الله، فذلك حرام لا يصلح في الأموال الربوية وفيما خالف المصالح وخرج عن طريق المقاصد لقوة الادلة في ذلك.

[سورة النحل (16): آية 118]
وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118)
قوله تعالى:" وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا" بين ان الانعام والحرث حلال لهذه الامة، فأما اليهود فحرمت عليهم منها أشياء. (حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ" أي في سورة الانعام «2». (وَما ظَلَمْناهُمْ) أي بتحريم ما حرمنا عليهم، ولكن ظلموا أنفسهم فحرمنا عليهم تلك الأشياء عقوبة لهم، كما تقدم في النساء «3».

[سورة النحل (16): آية 119]
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119)
قوله تعالى: (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ) أي الشرك، قاله ابن عباس. وقد تقدم في النساء «4».

[سورة النحل (16): آية 120]
إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120)
قوله تعالى: (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً) دعا عليه السلام مشركي العرب إلى ملة إبراهيم، إذ كان أباهم وباني البيت الذي به عزهم، والامة: الرجل الجامع للخير، وقد تقدم محامله «5». وقال ابن وهب وابن القاسم عن مالك قال: بلغني أن عبد الله بن مسعود
__________
(1). هي الذهب والفضة والبر والشعير والتمر والملح.
(2). راجع ج 7 ص 124.
(3). راجع ج 6 ص 12.
(4). راجع ج 5 ص 92.
(5). راجع ج 2 ص 127.

شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121)

قال: يرحم الله معاذا! كان أمة قانتا. فقيل له: يا أبا عبد الرحمن، إنما ذكر الله عز وجل بهذا إبراهيم عليه السلام. فقال ابن مسعود: إن الامة الذي يعلم الناس الخير، وإن القانت هو المطيع. وقد تقدم القنوت في البقرة «1» و" حَنِيفاً" في الانعام «2».

[سورة النحل (16): الآيات 121 الى 122]
شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122)
قوله تعالى: شاكِراً أي كان شاكرا. (لِأَنْعُمِهِ) الانعم جمع نعمة. وقد تقدم. و(اجْتَباهُ) أي اختاره. (وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً) قيل: الولد الطيب. وقيل الثناء الحسن. وقيل: النبوة. وقيل: الصلاة مقرونة بالصلاة على محمد عليه السلام في التشهد. وقيل: إنه ليس أهل دين إلا وهم يتولونه. وقيل: بقاء ضيافته وزيارة قبره. وكل ذلك أعطاه الله وزاده صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ)." من" بمعنى مع، أي مع الصالحين، لأنه كان في الدنيا أيضا مع الصالحين. وقد تقدم هذا في البقرة «3»

[سورة النحل (16): آية 123]
ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123)
قال ابن عمر: أمر باتباعه في مناسك الحج كما علم إبراهيم جبريل عليهما السلام. وقال الطبري: أمر باتباعه في التبرؤ من الأوثان والتزين بالإسلام. وقيل: أمر باتباعه في جميع ملته إلا ما أمر بتركه، قاله بعض أصحاب الشافعي على ما حكاه الماوردي. والصحيح الاتباع في عقائد الشرع دون الفروع، لقوله تعالى:" لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً»
".
__________
(1). ج 2 ص 86 وج 3 ص 213.
(2). ذكر في الانعام في موضعين، (ج 7 ص 28، 152) ولم يذكر المؤلف اشتقاقه فيهما، وإنما تكلم عليه في سورة البقرة ج 2 ص 139 فراجعه.
(3). راجع ج 2 ص 133.
(4). راجع ج 6 ص 211.

إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124)

مسألة- في هذه الآية دليل على جواز اتباع الأفضل للمفضول- لما تقدم «1» [إلى الصواب «2»]- والعمل به، ولا درك «3» على الفاضل في ذلك، لان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أفضل الأنبياء عليهم السلام، وقد أمر بالاقتداء بهم فقال:" فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ «4»". وقال هنا:" ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ".

[سورة النحل (16): آية 124]
إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124)
قوله تعالى: إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ أي لم يكن في شرع إبراهيم ولا في دينه، بل كان سمحا لا تغليظ فيه، وكان السبت تغليظا على اليهود في رفض الأعمال وترك التبسيط في المعاش بسبب اختلافهم فيه، ثم جاء عيسى عليه السلام بيوم الجمعة فقال: تفرغوا للعبادة في كل سبعة أيام يوما واحدا. فقالوا: لا نريد أن يكون عيدهم بعد عيدنا، فاختاروا الأحد. وقد اختلف العلماء في كيفية ما وقع لهم من الاختلاف، فقالت طائفة: إن موسى عليه السلام أمرهم بيوم الجمعة وعينه لهم، وأخبرهم بفضيلته على غيره، فناظروه أن السبت أفضل، فقال الله له:" دعهم وما اختاروا لأنفسهم". وقيل: إن الله تعالى لم يعينه لهم، وإنما أمرهم بتعظيم يوم في الجمعة فاختلف اجتهادهم في تعيينه، فعينت اليهود السبت، لان الله تعالى فرغ فيه من الخلق. وعينت النصارى يوم الأحد، لان الله تعالى بدأ فيه بالخلق. فألزم كل منهم ما أداه إليه اجتهاده. وعين الله لهذه الامة يوم الجمعة من غير أن يكلهم إلى اجتهادهم فضلا منه ونعمة، فكانت خير الأمم أمة. روى الصحيح عن أبى هريرة قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" نحن الآخرون الأولون يوم القيامة ونحن أول من يدخل الجنة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم فاختلفوا فيه فهدانا الله لما اختلفوا فيه من الحق فهذا يومهم الذي
__________
(1). كذا في ى. وفى أوج وو: في الأصول.
(2). كذا في ى. وفى أوج وو: في الأصول. [.....]
(3). الدرك: التبعة.
(4). راجع ج 7 ص 35.

ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125)

اختلفوا فيه فهدانا الله له- قال يوم الجمعة- فاليوم لنا وغدا لليهود وبعد غد للنصارى" فقوله:" فهذا يومهم الذي اختلفوا فيه" يقوى قول من قال: إنه لم يعين لهم، فإنه لو عين لهم وعاندوا لما قيل" اخْتَلَفُوا". وإنما كان ينبغي أن يقال فخالفوا فيه وعاندوا. ومما يقويه أيضا قوله عليه السلام:" أضل الله عن الجمعة من كان قبلنا". وهذا نص في المعنى. وقد جاء في بعض طرقه" فهذا يومهم الذي فرض الله عليهم اختلفوا فيه". وهو حجة للقول الأول. وقد روى:" إن الله كتب الجمعة على من كان قبلنا فاختلفوا فيه وهدانا الله له فالناس لنا تبع". قوله تعالى: (عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ) يريد في يوم الجمعة كما بيناه، اختلفوا على نبيهم موسى وعيسى. ووجه الاتصال بما قبله أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر باتباع الحق، وحذر الله الامة من الاختلاف عليه فيشدد عليهم كما شدد على اليهود.

[سورة النحل (16): آية 125]
ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125)
فيه مسألة واحدة- هذه الآية نزلت بمكة في وقت الامر بمهادنة قريش، وأمره أن يدعو إلى دين الله وشرعه بتلطف ولين دون مخاشنة وتعنيف، وهكذا ينبغي أن يوعظ المسلمون إلى يوم القيامة. فهي محكمة في جهة العصاة من الموحدين، ومنسوخة بالقتال في حق الكافرين. وقد قيل: إن من أمكنت معه هذه الأحوال من الكفار ورجى إيمانه بها دون قتال فهي فيه محكمة. والله أعلم.

[سورة النحل (16): آية 126]
وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126)

فيه أربع مسائل: الاولى- أطبق جمهور أهل التفسير أن هذه الآية مدنية، نزلت في شأن التمثيل بحمزة في يوم احد، ووقع ذلك في صحيح البخاري وفى كتاب السير. وذهب النحاس إلى أنها مكية، والمعنى متصل بما قبلها من المكي اتصالا حسنا، لأنها تتدرج الرتب من الذي يدعى ويوعظ، إلى الذي يجادل، إلى الذي يجازى على فعله. ولكن ما روى الجمهور أثبت، روى الدارقطني عن ابن عباس قال: لما انصرف المشركون عن قتلى أحد انصرف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرأى منظرا ساءه، رأى حمزة قد شق بطنه، واصطلم أنفه، وجدعت أذناه، فقال:" لولا أن يحزن النساء أو تكون سنة بعدي لتركته حتى يبعثه الله من بطون السباع والطير لأمثلن مكانه بسبعين رجلا" ثم دعا ببردة وغطى بها وجهه، فخرجت رجلاه فغطى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجهه وجعل على رجليه من الإذخر، ثم قدمه فكبر عليه عشرا، ثم جعل يجاء بالرجل فيوضع وحمزة مكانه، حتى صلى عليه سبعين صلاة، وكان القتلى سبعين، فلما دفنوا وفرغ منهم نزلت هذه الآية:" ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ- إلى قوله- وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ" فصبر. رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يمثل بأحد. خرجه إسماعيل بن إسحاق من حديث أبى هريرة، وحديث ابن عباس أكمل. وحكى الطبري عن فرقة أنها قالت: إنما نزلت هذه الآية فيمن أصيب بظلامة ألا ينال من ظالمه إذا تمكن إلا مثل ظلامته لا يتعداه إلى غيره. وحكاه الماوردي عن ابن سيرين ومجاهد. الثانية- واختلف أهل العلم فيمن ظلمه رجل في أخذ مال ثم ائتمن الظالم المظلوم على مال، هل يجوز له خيانته في القدر الذي ظلمه، فقالت فرقة: له ذلك، منهم ابن سيرين وإبراهيم النخعي وسفيان ومجاهد، واحتجت بهذه الآية وعموم لفظها. وقال مالك وفرقة معه: لا يجوز له ذلك، واحتجوا بقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك". رواه الدارقطني. وقد تقدم هذا في" البقرة" مستوفى «1»
__________
(1). راجع ج 2 ص 355.

وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)

ووقع في مسند ابن إسحاق أن هذا الحديث إنما ورد في رجل زنى بامرأة آخر، ثم تمكن الآخر من زوجة الثاني بأن تركها عنده وسافر، فاستشار ذلك الرجل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الامر فقال له:" أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك". وعلى هذا يتقوى قول مالك في أمر المال، لان الخيانة لاحقة في ذلك، وهى رذيلة لا انفكاك عنها، فينبغي أن يتجنبها لنفسه، فإن تمكن من الانتصاف من مال لم يأتمنه عليه فيشبه أن ذلك جائز وكان الله حكم له، كما لو تمكن الأخذ بالحكم من الحاكم. وقد قيل: إن هذه الآية منسوخة، نسختها" وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ". الثالثة- في هذه الآية دليل على جواز التماثل في القصاص، فمن قتل بحديدة قتل بها. ومن قتل بحجر قتل به، ولا يتعدى قدر الواجب، وقد تقدم هذا المعنى في" البقرة" مستوفى «1»، والحمد لله. الرابعة- سمى الله تعالى الاذايات في هذه الآية عقوبة، والعقوبة حقيقة إنما هي الثانية، وإنما فعل ذلك ليستوي اللفظان وتتناسب دباجة القول، وهذا بعكس قوله:" وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ «2»" وقوله:" اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ «3»" فإن الثاني هنا هو المجاز والأول هو الحقيقة، قاله ابن عطية.

[سورة النحل (16): الآيات 127 الى 128]
وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)
فيه مسألة واحدة- قال ابن زيد: هي منسوخة بالقتال. وجمهور الناس على أنها محكمة. أي اصبر بالعفو عن المعاقبة بمثل ما عاقبوا في المثلة. (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) أي على قتلى أحد فإنهم صاروا إلى رحمة الله. (وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ) ضيق جمع ضيقة، قال الشاعر:
كشف الضيقة عنا وفسح «4»
__________
(1). راجع ج 3 ص 355.
(2). راجع ج 4 ص 98.
(3). راجع ج 1 ص 207.
(4). هذا عجز بيت للأعشى. وصدره في اللسان وديوانه:
فلئن ربك من رحمته

وقراءة الجمهور بفتح الضاد. وقرا ابن كثير بكسر الضاد، ورويت عن نافع، وهو غلط ممن رواه. قال بعض اللغويين: الكسر والفتح في الضاد لغتان في المصدر. قال الأخفش: الضيق والضيق مصدر ضاق يضيق. والمعنى: لا يضيق صدرك من كفرهم. وقال الفراء: الضيق ما ضاف عنه صدرك، والضيق ما يكون في الذي يتسع ويضيق، مثل الدار والثوب. وقال ابن السكيت: هما سواء، يقال: في صدره ضيق وضيق. القتبي: ضيق مخفف ضيق، أي لا تكن في أمر ضيق فخفف، مثل هين وهين. وقال ابن عرفة: يقال ضاق الرجل إذا بخل، وأضاق إذا افتقر. وقوله: (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) أي اتقوا الفواحش والكبائر بالنصر والمعونة والفضل والبر والتأييد. وتقدم معنى الإحسان. وقيل لهرم بن حبان «1» عند موته: أوصنا، فقال: أوصيكم بآيات الله وآخر سورة" ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ" إلى آخرها. تمت سورة النحل، والحمد لله رب العالمين

تفسير سورة الإسراء
هذه السورة مكية، إلا ثلاث آيات: قوله عز وجل" وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ «2»" نزلت حين جاء رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفد ثقيف، وحين قالت اليهود: ليست هذه بأرض الأنبياء. وقوله عز وجل:" وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ". وقوله تعالى" إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ" الآية. وقال مقاتل: وقوله عز وجل" إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ" الآية. وقال ابن مسعود رضى الله عنه في بنى إسرائيل والكهف [ومريم ]: إنهن من العتاق الأول، وهن من تلادي، يريد من قديم كسبه.
__________
(1). في أسد الغابة: حيان. بالياء. وكذا في ج. وفى التاج وى: حبان. بالموحدة.
(2). راجع ص 301، وص 321، وص 281 فما بعد، وص 340 من هذا الجزء.

سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الإسراء (17): آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)
فيه ثمان «1» مسائل: الاولى- قوله تعالى: (سُبْحانَ)" سُبْحانَ" اسم موضوع موضع المصدر، وهو غير متمكن، لأنه لا يجرى بوجوه الاعراب، ولا تدخل عليه الالف واللام، ولم يجر منه فعل، ولم ينصرف لان في آخره زائدتين، تقول: سبحت تسبيحا وسبحانا، مثل كفرت اليمين تكفيرا وكفرانا. ومعناه التنزيه والبراءة لله عز وجل من كل نقص. فهو ذكر عظيم لله تعالى لا يصلح لغيره، فأما قول الشاعر:
أقول لما جاءني فخره ... سبحان من علقمة الفاخر «2»
فإنما ذكره على طريق النادر. وقد روى طلحة بن عبيد الله الفياض أحد العشرة أنه قال للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما معنى سبحان الله؟ فقال:" تنزيه الله من كل سوء". والعامل فيه على مذهب سيبويه الفعل الذي من معناه لا من لفظه، إذ لم يجر من لفظه فعل، وذلك مثل قعد القرفصاء، واشتمل الصماء «3»، فالتقدير عنده: أنزه الله تنزيها، فوقع" سبحان الله" مكان قولك تنزيها.
__________
(1). كذا في جميع الأصول، ويلاحظ أن المسائل ست.
(2). البيت للأعشى. يقول هذا لعلمه بن علاثة الجعفري في منافرته لعامر بن الطفيل، وكان الاعمشى قد فضل عامرا وتبرأ من علقمة وفخره على عامر (هن الشنتمرى).
(3). القرفصاء: جلسة المحتبي بيديه. والصماء، ضرب من الاشتمال الصماء: أن تجلل جسدك بثوبك نحو شملة الاعراب بأكسيتهم، وهو أن يرد من قبل يمينه على يده اليسرى وعاتقه الأيسر ثم يرده ثانية من خلقه على يده اليمنى وعاتقه الأيمن فيغطيهما جميعا.

الثانية- قوله تعالى: (أَسْرى بِعَبْدِهِ)" أَسْرى " فيه لغتان: سرى وأسرى، كسقي وأسقى، كما تقدم «1». قال:
أسرت عليه من الجوزاء سارية ... تزجي الشمال عليه جامد البرد «2»
وقال آخر:
حي النضيرة ربة الخدر ... أسرت إلي ولم تكن تسرى «3»
فجمع بين اللغتين في البيتين. والاسراء: سير الليل، يقال: سريت مسري وسرى، وأسريت إسراء، قال الشاعر:
وليلة ذات ندى سريت ... ولم يلتنى من سراها ليت
وقيل: أسرى سار من أول الليل، وسرى سار من آخره، والأول أعرف. الثالثة- قوله تعالى: (بِعَبْدِهِ) قال العلماء: لو كان للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسم أشرف منه لسماه به في تلك الحالة العلية. وفي معناه أنشدوا:
يا قوم قلبي عند زهراء ... يعرفه السامع والرائي

لا تدعني إلا بيا عبدها ... فإنه أشرف أسمائي
وقد تقدم «4». قال القشيري: لما رفعه الله تعالى إلى حضرته السنية، وأرقاه فوق الكواكب العلوية «5»، ألزمه اسم العبودية تواضعا للامة. الرابعة- ثبت الاسراء في جميع مصنفات الحديث، ورى عن الصحابة في كل أقطار الإسلام فهو من المتواتر بهذا الوجه. وذكر النقاش: ممن رواه عشرين صحابيا. روى الصحيح عن أنس بن مالك أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:" أتيت بالبراق وهو دابة أبيض [طويل ] فوق الحمار ودون البغل يضع حافره عند منتهى طرفه- قال- فركبته حتى أتيت بيت المقدس- قال- فربطته بالحلقة التي تربط بها الأنبياء- قال- ثم دخلت المسجد
__________
(1). راجع ج 1 ص 417.
(2). البيت للنابغة الذبياني، من قصيدته التي مطلعها:
يا دار مية بالعلياء

. [.....]
(3). البيت لحسان بن ثابت.
(4). راجع ج 1 ص 232.
(5). في و: اسمه عبد الله

فصليت فيه ركعتين ثم خرجت فجاءني جبريل عليه السلام بإناء من خمر وإناء من لبن فاخترت اللبن فقال جبريل اخترت الفطرة- قال- ثم عرج بنا إلى السماء ..." وذكر الحديث. ومما ليس في الصحيحين ما خرجه الآجري والسمرقندي، قال الآجري عن أبى سعيد الخدري في قوله تعالى" سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ" قال أبو سعيد: حدثنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ليلة أسرى به، قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" أتيت بدابة هي أشبه الدواب بالبغل له أذنان يضطربان «1» وهو البراق الذي كانت الأنبياء تركبه قبل فركبته فانطلق تقع يداه عند منتهى بصره فسمعت نداء عن يميني يا محمد على رسلك حتى أسألك فمضيت ولم أعرج عليه ثم سمعت نداء عن يساري يا محمد على رسلك فمضيت ولم أعرج عليه ثم استقبلتني امرأة عليها من كل زينة الدنيا رافعة يديها تقول على رسلك حتى أسألك فمضيت ولم أعرج ثم أتيت بيت المقدس الأقصى فنزلت عن الدابة فأوثقته في الحلقة التي كانت الأنبياء توثق بها ثم دخلت المسجد وصليت فيه فقال لي جبريل عليه السلام ما سمعت يا محمد فقلت نداء عن يميني يا محمد على رسلك حتى أسألك فمضيت ولم أعرج فقال ذلك داعي اليهود ولو وقفت لتهودت أمتك- قال- ثم سمعت نداء عن يساري على رسلك حتى أسألك فمضيت ولم أعرج عليه فقال ذلك داعي النصارى أما إنك لو وقفت لتنصرت أمتك- قال- ثم استقبلتني امرأة عليها من كل زينة الدنيا رافعة يديها تقول على رسلك فمضيت ولم أعرج عليها فقال تلك الدنيا لو وقفت لاخترت الدنيا على الآخرة- قال- ثم أتيت بإناءين أحدهما فيه لبن والآخر فيه خمر فقيل لي خذ فاشرب أيهما شئت فأخذت اللبن فشربته فقال لي جبريل أصبت الفطرة ولو أنك أخذت الخمر غوت أمتك ثم جاء بالمعراج الذي تعرج فيه أرواح بنى آدم فإذا هو أحسن ما رأيت أو لم تروا إلى الميت كيف يحد بصره إليه فعرج بنا حتى أتينا «2» باب السماء الدنيا فاستفتح جبريل فقيل من هذا؟ قال: جبريل قالوا: ومن معك؟ قال: محمد قالوا: وقد أرسل إليه؟
__________
(1). في الأصول:" يخطر فان" والتصويب عن الدر المنثور.
(2). في ج ووو ى: انتهينا.

قال نعم ففتحوا لي وسلموا على وإذا ملك يحرس السماء يقال له إسماعيل معه سبعون ألف ملك مع كل ملك مائة ألف- قال وما يعلم جنود ربك إلا هو ..." وذكر الحديث إلى أن قال:" ثم مضينا إلى السماء الخامسة وإذا أنا بهارون بن عمران المحب في قومه وحوله تبع كثير من أمته فوصفه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال طويل اللحية تكاد لحيته تضرب في سرته ثم مضينا إلى السماء السادسة فإذا أنا بموسى فسلم على ورحب بى- فوصفه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال- رجل كثير الشعر ولو كان عليه قميصان خرج شعره منهما ..." الحديث. وروى البزار أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أتى بفرس فحمل عليه، كل خطوة منه أقصى بصره ... وذكر الحديث. وقد جاء في صفة البراق من حديث ابن عباس قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" بينا أنا نائم في الحجر إذ أتانى آت فحركني برجله فاتبعت الشخص فإذا هو جبريل عليه السلام قائم على باب المسجد معه دابة دون البغل وفوق الحمار وجهها وجه إنسان وخفها خف حافر وذنبها ذنب ثور وعرفها عرف الفرس فلما أدناها منى جبريل عليه السلام نفرت ونفشت عرفها فمسحها جبريل عليه السلام وقال يا برقة لا تنفري من محمد فوالله ما ركبك ملك مقرب ولا نبى مرسل أفضل من محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا أكرم على الله منه قالت قد علمت أنه كذلك وأنه صاحب الشفاعة وإني أحب أن أكون في شفاعته فقلت أنت في شفاعتي إن شاء الله تعالى ..." الحديث. وذكر أبو سعيد عبد الملك بن محمد النيسابوري عن أبى سعيد الخدري قال: لما مر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإدريس عليه السلام في السماء الرابعة قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح الذي وعدنا أن نراه فلم نره إلا الليلة قال فإذا فيها مريم بنت عمران لها سبعون قصرا من لؤلؤ ولام موسى بن عمران سبعون قصرا من مرجانة حمراء مكللة باللؤلؤ أبوابها وأسرتها من عرق واحد فلما عرج المعراج إلى السماء الخامسة وتسبيح أهلها سبحان من جمع بين الثلج والنار من قالها مرة واحدة كان له مثل ثوابهم استفتح الباب جبريل عليه السلام ففتح له فإذا هو بكهل لم ير قط كهل أجمل منه عظيم العينين تضرب لحيته

قريبا من سرته قد كان أن تكون شمطة «1» وحوله قوم جلوس يقص عليهم فقلت يا جبريل من هذا قال هارون المحب في قومه .." وذكر الحديث. فهذه نبذة مختصرة من أحاديث الاسراء خارجة عن الصحيحين، ذكرها أبو الربيع سليمان ابن سبع بكمالها في كتاب (شفاء الصدور) له. ولا خلاف بين أهل العلم وجماعة أهل السير أن الصلاة إنما فرضت على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمكة في حين الاسراء حين عرج به إلى السماء. واختلفوا في تاريخ الاسراء وهيئة الصلاة، وهل كان إسراء بروحه أو جسده، فهذه ثلاث مسائل تتعلق بالآية، وهى مما ينبغي الوقوف عليها والبحث عنها، وهى أهم من سرد تلك الأحاديث، وأنا أذكر ما وقفت عليه فيها من أقاويل العلماء واختلاف الفقهاء بعون الله تعالى. فأما المسألة الاولى- وهى هل كان إسراء بروحه أو جسده، اختلف في ذلك السلف والخلف، فذهبت طائفة إلى أنه إسراء بالروح، ولم يفارق شخصه مضجعه، وأنها كانت رؤيا رأى فيها الحقائق، ورؤيا الأنبياء حق. ذهب إلى هذا معاوية وعائشة، وحكى عن الحسن وابن إسحاق. وقالت طائفة: كان الاسراء بالجسد يقظة إلى بيت المقدس، وإلى السماء بالروح، واحتجوا بقوله تعالى:" سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى" فجعل المسجد الأقصى غاية الاسراء. قالوا: ولو كان الاسراء بجسده إلى زائد على المسجد الأقصى لذكره، فإنه كان يكون أبلغ في المدح. وذهب معظم السلف والمسلمين إلى أنه كان إسراء بالجسد وفى اليقظة، وأنه ركب البراق بمكة، ووصل إلى بيت المقدس وصلي فيه ثم أسرى بجسده. وعلى هذا تدل الاخبار التي أشرنا إليها والآية. وليس في الاسراء بجسده وحال يقظته استحالة، ولا يعدل عن الظاهر والحقيقة إلى التأويل إلا عند الاستحالة، ولو كان مناما لقال بروح عبده ولم يقل بعبده. وقوله" ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى «2»" يدل على ذلك. ولو كان مناما لما كانت فيه آية ولا معجزة، ولما
قالت له أم هانئ: لا تحدث الناس
__________
(1). الشمط في الشعر: اختلافه بلونين من سواد وبياض.
(2). راجع ج 17 ص 92.

فيكذبوك، والأفضل أبو بكر بالتصديق، ولما أمكن قريشا التشنيع والتكذيب، وقد كذبه قريش فيما أخبر به حتى ارتد أقوام كانوا آمنوا، فلو كان بالرؤيا لم يستنكر، وقد قال له المشركون: إن كنت صادقا فخبرنا عن عيرنا ابن لقيتها؟ قال:" بمكان كذا وكذا مررت عليها ففزع فلان" فقيل له: ما رأيت يا فلان، قال: ما رأيت شيئا! غير أن الإبل قد نفرت. قالوا: فأخبرنا متى تأتينا العير؟ قال:" تأتيكم يوم كذا وكذا". قالوا: أية ساعة؟ قال:" ما أدرى، طلوع الشمس من ها هنا أسرع أم طلوع العير من ها هنا". فقال رجل: ذلك اليوم؟ هذه الشمس قد طلعت. وقال رجل: هذه عيركم قد طلعت، واستخبروا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن صفة بيت المقدس فوصفه لهم ولم يكن رآه قبل ذلك. روى الصحيح عن أبى هريرة قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" لقد رأيتني في الحجر وقريش تسألني عن مسراى فسألتني عن أشياء من بيت المقدس لم أثبتها «1» فكربت كربا ما كربت مثله قط- قال- فرفعه الله لي أنظر إليه فما سألوني عن شي إلا أنبأتهم به" الحديث. وقد اعترض قول عائشة ومعاوية" إنما أسرى بنفس رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" بأنها كانت صغيرة لم تشاهد، ولا حدثت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وأما معاوية فكان كافرا في ذلك الوقت غير مستشهد للحال، ولم يحدث عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ومن أراد الزيادة على ما ذكرنا فليقف على" كتاب الشفاء" للقاضي عياض يجد من ذلك الشفاء. وقد احتج لعائشة بقوله تعالى:" وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ «2»" فسماها رؤيا. وهذا يرده قوله تعالى:" سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا" ولا يقال في النوم أسرى. وأيضا فقد يقال لرؤية العين: رؤيا، على ما يأتي بيانه في هذه السورة. وفى نصوص الاخبار الثابتة دلالة واضحة على أن الاسراء كان بالبدن، وإذا ورد الخبر بشيء هو مجوز في العقل في قدرة الله تعالى فلا طريق إلى الإنكار، لا سيما في زمن خرق العوائد، وقد كان للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معارج، فلا يبعد أن يكون البعض بالرؤيا، وعليه يحمل قوله عليه السلام في الصحيح:" بينا أنا عند البيت بين النائم واليقظان" الحديث. ويحتمل أن يرد من الاسراء إلى نوم. والله أعلم.
__________
(1). أي لم أعرفها حق، يقال: أثبت الشيء وثابته إذا عرفه حق المعرفة.
(2). راجع ص 282 من هذا الجزء.

المسألة الثانية «1»- في تاريخ الاسراء، وقد اختلف العلماء في ذلك أيضا، واختلف في ذلك على ابن شهاب، فروى عنه موسى بن عقبة أنه أسرى به إلى بيت المقدس قبل خروجه إلى المدينة بسنة. وروى عنه يونس عن عروة عن عائشة قالت: توفيت خديجة قبل أن تفرض الصلاة. قال ابن شهاب: وذلك بعد مبعث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بسبعة أعوام. وروى عن الوقاصي قال: أسرى به بعد مبعثه بخمس سنين. قال ابن شهاب: وفرض الصيام بالمدينة قبل بدر، وفرضت الزكاة والحج بالمدينة، وحرمت الخمر بعد أحد. وقال ابن إسحاق: أسرى به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى وهو بيت المقدس، وقد فشا الإسلام بمكة في القبائل. وروى عنه يونس بن بكير قال: صلت خديجة مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وسيأتي. قال أبو عمر: وهذا يدلك على أن الاسراء كان قبل الهجرة بأعوام، لان خديجة قد توفيت قبل الهجرة بخمس سنين وقيل بثلاث وقيل بأربع. وقول ابن إسحاق مخالف لقول ابن شهاب، على أن ابن شهاب قد اختلف عنه كما تقدم. وقال الحربي: أسرى به ليلة سبع وعشرين من شهر ربيع الآخر قبل الهجرة بسنة. وقال أبو بكر محمد بن على ابن القاسم الذهبي في تاريخه: أسرى به من مكة إلى بيت المقدس، وعرج به إلى السماء بعد مبعثه بثمانية عشر شهرا. قال أبو عمر: لا أعلم أحدا من أهل السير قال ما حكاه الذهبي، ولم يسند قول إلى أحد ممن يضاف إليه هذا العلم منهم، ولا رفعه إلى من يحتج به عليهم. المسألة الثالثة «2»- وأما فرض الصلاة وهيئتها حين فرضت، فلا خلاف بين أهل العلم وجماعة أهل السير أن الصلاة إنما فرضت بمكة ليلة الاسراء حين عرج به إلى السماء، وذلك منصوص في الصحيح وغيره. وإنما اختلفوا في هيئتها حين فرضت، فروى عن عائشة رضى الله عنها أنها فرضت ركعتين ركعتين، ثم زيد في صلاة الحضر فأكملت أربعا، وأقرت صلاة السفر على ركعتين. وبذلك قال الشعبي وميمون بن مهران ومحمد بن إسحاق. قال الشعبي: إلا المغرب. قال يونس بن بكير: وقال ابن إسحاق ثم إن جبريل عليه السلام أتى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين فرضت عليه الصلاة يعنى في الاسراء فهمز له بعقبه في ناحية
__________
(1). في ج: المسألة الخامسة، والمسألة السادسة بدل المسألة الثانية والثالثة. فيكون الترقيم على ما قال المصنف أولا: ثمان مسائل.
(2). في ج: المسألة الخامسة، والمسألة السادسة بدل المسألة الثانية والثالثة. فيكون الترقيم على ما قال المصنف أولا: ثمان مسائل.

الوادي فانفجرت عين ماء فتوضأ جبريل ومحمد ينظر عليهما السلام فوضأ وجهه واستنشق وتمضمض ومسح برأسه وأذنيه ورجليه إلى الكعبين ونضح فرجه، ثم قام يصلى ركعتين بأربع سجدات، فرجع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد أقر الله عينه وطابت نفسه وجاءه ما يحب من أمر الله تعالى، فأخذ بيد خديجة ثم أتى بها العين فتوضأ كما توضأ جبريل ثم ركع ركعتين وأربع سجدات هو وخديجة، ثم كان هو وخديجة يصليان سواء. وروى عن ابن عباس أنها فرضت في الحضر أربعا وفى السفر ركعتين. وكذلك قال نافع بن جبير والحسن بن أبى الحسن البصري، وهو قول ابن جريج، وروى عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما يوافق ذلك. ولم يختلفوا في أن جبريل عليه السلام هبط صبيحة ليلة الاسراء عند الزوال، فعلم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصلاة ومواقيتها. وروى يونس بن بكير عن سالم مولى أبى المهاجر قال سمعت ميمون بن مهران يقول: كان أول الصلاة مثنى، ثم صلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أربعا فصارت سنه، وأقرت الصلاة للمسافر وهى تمام. قال أبو عمر: وهذا إسناد لا يحتج بمثله، وقوله:" فصارت سنة" قول منكر، وكذلك استثناء الشعبي المغرب وحدها ولم يذكر الصبح قول لا معنى له. وقد أجمع المسلمون أن فرض الصلاة في الحضر أربع إلا المغرب والصبح ولا يعرفون غير ذلك عملا ونقلا مستفيضا، ولا يضرهم الاختلاف فيما كان أصل فرضها. الخامسة «1»- قد مضى الكلام في الأذان" المائدة" «2» والحمد لله. ومضى في" آل عمران" «3»" أن أول مسجد وضع في الأرض المسجد الحرام، ثم المسجد الأقصى. وأن بينهما أربعين عاما من حديث أبى ذر، وبناء سليمان عليه السلام المسجد الأقصى ودعاؤه له من حديث عبد الله بن عمرو ووجه الجمع في ذلك، فتأمله هناك فلا معنى للإعادة. ونذكر هنا قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد إلى المسجد الحرام وإلى مسجدي هذا وإلى مسجد إيلياء أو بيت المقدس". خرجه مالك من حديث أبى هريرة. وفية ما يدل على فضل هذه المساجد الثلاثة على سائر المساجد، لهذا قال العلماء: من نذر صلاة في مسجد
__________
(1). في ج هذه المسألة السابعة.
(2). راجع ج 6 ص 224.
(3). ج 4 ص 137. [.....]

وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا (2)

لا يصل إليه إلا برحلة وراحلة فلا يفعل، ويصلى في مسجده، إلا في الثلاثة المساجد المذكورة فإنه من نذر صلاة فيها خرج إليها. وقد قال مالك وجماعة من أهل العلم فيمن نذر رباطا في ثغر يسده: فإنه يلزمه الوفاء حيث كان الرباط لأنه طاعة الله عز وجل. وقد زاد أبو البختري في هذا الحديث مسجد الجند، ولا يصح وهو موضوع، وقد تقدم في مقدمة الكتاب. السادسة- «1» قوله تعالى: (إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى) سمى الأقصى لبعد ما بينه وبين المسجد الحرام، وكان أبعد مسجد عن أهل مكة في الأرض يعظم بالزيارة ثم قال: (الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ) قيل: بالثمار وبمجاري الأنهار. وقيل: بمن دفن حوله من الأنبياء والصالحين، وبهذا جعله مقدسا. وروى معاذ بن جبل عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال:" يقول الله تعالى يا شام أنت صفوتي من بلادي وأنا سائق إليك صفوتي من عبادي" (أصله سام «2» فعرب) (لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا) هذا من باب تلوين الخطاب والآيات التي أراه الله من العجائب التي أخبر بها الناس، وإسراؤه من مكة إلى المسجد الأقصى في ليلة وهو مسيرة شهر، وعروجه إلى السماء ووصفه الأنبياء واحدا واحدا، حسبما ثبت في صحيح مسلم وغيره. (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) تقدم «3».

[سورة الإسراء (17): آية 2]
وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً (2)
أي كرمنا محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالمعراج، وأكرمنا موسى بالكتاب وهو التوراة." وَجَعَلْناهُ" أي ذلك الكتاب. وقيل موسى. وقيل معنى الكلام: سبحان الذي أسرى بعبده ليلا وأتى موسى الكتاب، فخرج من الغيبة إلى الاخبار عن نفسه عز وجل. وقيل: إن معنى سبحان الذي أسرى بعبده ليلا، معناه أسرينا، يدل عليه ما بعده من قوله:" لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا" فحمل" وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ" على المعنى. (أَلَّا تَتَّخِذُوا) قرأ أبو عمرو" يتخذوا"
__________
(1). في ج: المسألة الثامنة.
(2). من ى.
(3). راجع ج 5 ص 258.

ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3)

بالياء. الباقون بالتاء. فيكون من باب تلوين الخطاب." وَكِيلًا" أي شريكا، عن مجاهد. وقيل: كفيلا بأمورهم، حكاه الفراء. وقيل: ربا يتوكلون عليه في أمورهم، قاله الكلبي. وقال الفراء: كافيا، والتقدير: عهدنا إليه في الكتاب ألا تتخذوا من دوني وكيلا. وقيل: التقدير لئلا تتخذوا. والوكيل: من يوكل إليه الامر.

[سورة الإسراء (17): آية 3]
ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً (3)
أي يا ذرية من حملنا، على النداء، قال مجاهد ورواه عنه ابن أبى نجيح. والمراد بالذرية كل من احتج عليه بالقرآن، وهم جميع من على الأرض، ذكره المهدوي. وقال الماوردي: يعنى موسى وقومه من بنى إسرائيل، والمعنى يا ذرية من حملنا مع نوح لا تشركوا. وذكر نوحا ليذكرهم نعمة الإنجاء من الغرق على آبائهم. وروى سفيان عن حميد عن مجاهد أنه قرأ" ذُرِّيَّةَ" بفتح الذال وتشديد الراء والياء. وروى هذه القراءة عامر بن الواجد «1» عن زيد ابن ثابت. وروى عن زيد بن ثابت أيضا" ذرية «2»" بكسر الذال وشد الراء. والياء «3» ثم بين أن نوحا كان عبدا شكورا يشكر الله على نعمه ولا يرى الخير إلا من عنده. قال قتادة: كان إذا لبس ثوبا قال: بسم الله، فإذا نزعه قال: الحمد لله. كذا روى عنه معمر. وروى معمر عن منصور عن إبراهيم قال: شكره إذا أكل قال: بسم الله، فإذا فرغ من الأكل قال: الحمد لله. قال سلمان الفارسي: لأنه كان يحمد الله على طعامه. وقال عمران بن سليم: إنما سمى نوحا عبدا شكورا لأنه كان إذا أكل قال: الحمد لله الذي أطعمني ولو شاء لاجاعنى، وإذا شرب قال: الحمد لله الذي سقاني ولو شاء لأظمأني، وإذا اكتسى قال: الحمد لله الذي كساني ولو شاء لاعرانى، و. إذا احتذى قال: الحمد لله الذي حذانى ولو شاء لاحفانى، وإذا قضى حاجته قال: الحمد لله الذي أخرج عنى الأذى ولو شاء لحبسه في. ومقصود الآية: إنكم من ذرية نوح وقد كان عبدا شكورا فأنتم أحق بالاقتداء به دون آبائكم الجهال. وقيل: المعنى أن موسى كان عبدا شكورا إذ جعله الله من ذرية نوح. وقيل: يجوز أن يكون
__________
(1). كذا في نسخ الأصل، ولم نعثر عليه في المظان. وفى الشواذ: ذرية بالكسر الأصل.
(2). كذا في نسخ الأصل، ولم نعثر عليه في المظان. وفى الشواذ: ذرية بالكسر الأصل.
(3). من ج.

وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4)

" ذُرِّيَّةَ" مفعولا ثانيا ل" تَتَّخِذُوا"، ويكون قوله:" وَكِيلًا" يراد به الجمع فيسوغ ذلك في القراءتين جميعا أعنى الياء والتاء في" تَتَّخِذُوا". ويجوز أيضا في القراءتين جميعا أن يكون" ذُرِّيَّةَ" بدلا من قوله" وَكِيلًا" لأنه بمعنى الجمع، فكأنه قال: لا تتخذوا ذرية من حملنا مع نوح. ويجوز نصبها بإضمار أعنى وأمدح، والعرب قد تنصب على المدح والذم. ويجوز رفعها على البدل من المضمر في" تَتَّخِذُوا" في قراءة من قرأ بالياء، ولا يحسن ذلك لمن قرأ بالتاء لان المخاطب لا يبدل منه الغائب. ويجوز جرها على البدل من بنى إسرائيل في الوجهين فأما" أن" من قوله:" أَلَّا تَتَّخِذُوا" فهي على قراءة من قرأ بالياء في موضع نصب بحذف الجار، التقدير: هديناهم لئلا يتخذوا. ويصلح على قراءة التاء أن تكون زائدة والقول مضمر كما تقدم. ويصلح أن تكون مفسرة بمعنى أي، لا موضع لها من الاعراب، وتكون" لا" للنهي فيكون خروجا من الخبر إلى النهى.

[سورة الإسراء (17): آية 4]
وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً (4)
قوله تعالى: (وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ) وقرا سعيد بن جبير وأبو العالية" في الكتب" على لفظ الجمع. وقد يرد لفظ الواحد ويكون معناه الجمع، فتكون القراءتان بمعنى واحد. ومعنى" قَضَيْنا" أعلمنا وأخبرنا، قاله ابن عباس: وقال قتادة: حكمنا، واصل القضاء الأحكام للشيء والفراغ منه، وقيل: قضينا أوحينا، ولذلك قال:" إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ". وعلى قول قتادة يكون" إِلى " بمعنى على، أي قضينا عليهم وحكمنا. وقاله ابن عباس أيضا. والمعنى بالكتاب اللوح المحفوظ. (لَتُفْسِدُنَّ) وقرا ابن عباس" لَتُفْسِدُنَّ". عيسى الثقفي" لَتُفْسِدُنَّ". والمعنى في القراءتين قريب، لأنهم إذا أفسدوا فسدوا، والمراد بالفساد مخالفة أحكام التوراة. (فِي الْأَرْضِ) يريد أرض الشام وبئت المقدس وما والاها. (مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ) اللام في" لَتُفْسِدُنَّ ولَتَعْلُنَّ" لام قسم مضمر كما تقدم. (عُلُوًّا كَبِيراً) أراد التكبر والبغي والطغيان والاستطالة والغلبة والعدوان.

فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5)

[سورة الإسراء (17): آية 5]
فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً (5)
قوله تعالى: (فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما) أي أولى المرتين من فسادهم. (بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) هم أهل بابل، وكان عليهم بخت نصر في المرة الاولى حين كذبوا إرميا وجرحوه وحبسوه، قاله ابن عباس وغيره. وقال قتادة: أرسل عليهم جالوت فقتلهم، فهو وقومه أولو بأس شديد. وقال مجاهد: جاءهم جند من فارس يتجسسون أخبارهم ومعهم بخت نصر فوعى حديثهم من بين أصحابه، ثم رجعوا إلى فارس ولم يكن قتال، وهذا في المرة الاولى، فكان منهم جوس خلال الديار لا قتل، ذكره القشيري أبو نصر. وذكر المهدوي عن مجاهد أنه جاءهم بخت نصر فهزمه بنو إسرائيل، ثم جاءهم ثانية فقتلهم ودمرهم تدميرا. ورواه ابن أبى نجيح عن مجاهد، ذكره النحاس. وقال محمد بن إسحاق في خبر فيه طول «1»: إن المهزوم سنحاريب ملك بابل، جاء ومعه ستمائة ألف راية تحت كل راية مائة ألف فارس فنزل حول بيت المقدس فهزمه الله تعالى وأمات جميعهم إلا سنحاريب وخمسة نفر من كتابه، وبعث ملك بنى إسرائيل واسمه صديقة في طلب سنحاريب فأخذ مع الخمسة، أحدهم بخت نصر، فطرح في رقابهم الجوامع «2» وطاف بهم سبعين يوما حول بيت المقدس وإيلياء ويرزقهم كل يوم خبزتين من شعير لكل رجل منهم، ثم أطلقهم فرجعوا إلى بابل، ثم مات سنحاريب بعد سبع سنين، واستخلف بخت نصر وعظمت الأحداث في بنى إسرائيل، واستحلوا المحارم وقتلوا نبيهم شعيا، فجاءهم بخت نصر ودخل هو وجنوده بيت المقدس وقتل بنى إسرائيل حتى أفناهم. وقال ابن عباس وابن مسعود: أول الفساد قتل زكريا. وقال ابن إسحاق: فسادهم في المرة الاولى قتل شعيا نبي الله في الشجرة، وذلك أنه لما مات صديقة ملكهم مرج «3» أمرهم
__________
(1). راجع كتاب قصص الأنبياء، المسمى بالعرائس ص 259 طبع بولاق وتاريخ الطبري ج 2 قسم أول ص 638 وما بعدها طبع أوربا.
(2). الجوامع: الاغلال، والواحد جامعة.
(3). مرج الامر: فسد واختلط والتبس المخرج فيه.

ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6)

وتنافسوا على الملك وقتل بعضهم بعضا وهم لا يسمعون من نبيهم، فقال الله تعالى له قم في قومك أوح على لسانك، فلما فرغ مما أوحى الله إليه عدوا عليه ليقتلوه فهرب فانفلقت له شجرة فدخل فيها، وأدركه الشيطان فأخذ هدبة من ثوبه فأراهم إياها، فوضعوا المنشار في وسطها فنشروها حتى قطعوها وقطعوه في وسطها. وذكر ابن إسحاق أن بعض العلماء أخبره أن زكريا مات موتا ولم يقتل وإنما المقتول شعيا. وقال سعيد بن جبير في قوله تعالى:" بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ" هو سنحاريب من أهل نينوى بالموصل ملك بابل. وهذا خلاف ما قال ابن إسحاق، فالله أعلم. وقيل: إنهم العمالقة وكانوا كفارا، قاله الحسن. ومعنى جاسوا: عاثوا وقتلوا، وكذلك جاسوا وهاسوا وداسوا، قاله ابن عزيز، وهو قول القتبي. وقرا ابن عباس:" حاسوا" بالحاء المهملة. قال أبو زيد: الحوس والجوس والعوس والهوس: لطواف بالليل. وقال الجوهري: الجوس مصدر قولك جاسوا خلال الديار، أي تخللوها فطلبوا ما فيها كما يجوس الرجل الاخبار أي يطلبها، وكذلك الاجتياس. والجوسان (بالتحريك) الطوفان بالليل، وهو قول أبى عبيدة. وقال الطبري: طافوا بين الديار يطلبونهم ويقتلونهم ذاهبين وجائين، فجمع بين قول أهل اللغة. قال ابن عباس: مشوا وترددوا بين الدور والمساكن. وقال الفراء: قتلوكم بين بيوتكم، وأنشد لحسان:
ومنا الذي لاقى بسيف محمد ... فجاس به الاعداء عرض العساكر
وقال قطرب: نزلوا، قال:
فجسنا ديارهم عنوة ... وأبنا بسادتهم موثقينا
(وَكانَ وَعْداً مَفْعُولًا) أي قضاء كائنا لا خلف فيه.

[سورة الإسراء (17): آية 6]
ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً (6)

إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7)

قوله تعالى: (ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ) أي الدولة والرجعة، وذلك لما تبتم وأطعتم. ثم قيل: ذلك بقتل داود جالوت أو بقتل غيره، على الخلاف في من قتلهم. (وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ) حتى عاد أمركم كما كان. (وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً) أي أكثر عددا ورجالا من عدوكم. والنفير من نفر مع الرجل من عشيرته، يقال: نفير ونافر مثل قدير وقادر ويجوز أن يكون النفير جمع نفر كالكليب والمعيز والعبيد، قال الشاعر:
فأكرم بقحطان من والد ... وحمير أكرم بقوم نفيرا
والمعنى: أنهم صاروا بعد هذه الوقعة الاولى أكثر انضماما وأصلح أحوالا، جزاء من الله تعالى لهم على عودهم إلى الطاعة.

[سورة الإسراء (17): آية 7]
إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً (7)
قوله تعالى: (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ) أي نفع إحسانكم عائد عليكم. (وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها) أي فعليها، نحو سلام لك، أي سلام عليك. قال:
فخر صريعا لليدين وللفم «1»

أي على اليدين وعلى الفم. وقال الطبري: اللام بمعنى إلى، يعنى وإن أسأتم فإليها، أي فإليها ترجع الإساءة، كقوله تعالى:" بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها «2»" أي إليها. وقيل: فلها الجزاء والعقاب. وقال الحسين بن الفضل: فلها رب يغفر الإساءة. ثم يحتمل أن يكون هذا
__________
(1). هذا عجز بيت لربيعة بن مكدم. وصدره:
وهتمت بالرمح الطويل إهانة

وقبل هذا البيت:
فصرفت راحلة الظعينة نحوه ... عمدا ليعلم بعض ما لم يعلم
وبعده:
ومنحت آخر بعده جياشة ... نجلاء فاغرة كشدق الاضجم
وهذه الآيات قبلت يوم الظعينة. راجع أمالى القالي ج 2 ص 270 طبع دار الكتب.
(2). راجع ج 20 ص 149.

خطابا لبنى إسرائيل في أول الامر، أي أسأتم فحل بكم القتل والسبي والتخريب ثم أحسنتم فعاد إليكم الملك والعلو وانتظام الحال. ويحتمل أنه خوطب بهذا بنو إسرائيل في زمن محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أي عرفتم استحقاق أسلافكم للعقوبة على العصيان فارتقبوا مثله. أو يكون خطابا لمشركي قريش على هذا الوجه. (فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ) من إفسادكم، وذلك أنهم قتلوا في المرة الثانية يحيى بن زكريا عليهما السلام، قتله ملك من بنى إسرائيل يقال له لأخت، قاله القتبي. وقال الطبري: اسمه هردوس، ذكره في التاريخ، حمله على قتله امرأة اسمها أزبيل. وقال السدى: كان ملك بنى إسرائيل يكرم يحيى بن زكريا ويستشيره في الامر، فاستشاره الملك أن يتزوج بنت امرأة له فنهاه عنها وقال: إنها لا تحل لك، فحقدت أمها على يحيى عليه السلام، ثم ألبست ابنتها ثيابا حمرا رقاقا وطيبتها وأرسلتها إلى الملك وهو على شرابه، وأمرتها أن تتعرض له، وإن أرادها أبت حتى يعطيها ما تسأله، فإذا أجاب سألت أن يؤتى برأس يحيى بن زكريا في طست من ذهب، ففعلت ذلك حتى أتى برأس يحيى بن زكريا والرأس تتكلم حتى وضع بين يديه وهو يقول: لا تحل لك، لا تحل لك، فلما أصبح إذا دمه يغلى، فألقى عليه التراب فغلى فوقه، فلم يزل يلقى عليه التراب حتى بلغ سور المدينة وهو في ذلك يغلى، ذكره الثعلبي وغيره. وذكر ابن عساكر الحافظ في تاريخه عن الحسين بن على قال: كان ملك من هذه الملوك مات وترك امرأته وابنته فورث ملكه أخوه، فأراد أن يتزوج امرأة أخيه، فاستشار يحيى بن زكريا في ذلك، وكانت الملوك في ذلك الزمان يعملون بأمر الأنبياء، فقال له: لا تتزوجها فإنها بغى، فعرفت ذلك المرأة أنه قد ذكرها وصرفه عنها، فقالت: من أين هذا! حتى بلغها أنه من قبل يحيى، فقالت: ليقتلن يحيى أو ليخرجن من ملكه، فعمدت إلى ابنتها وصنعتها، ثم قالت: اذهبي إلى عمك عند الملا فإنه إذا رآك سيدعوك ويجلسك في حجره، ويقول سليني ما شئت، فإنك لن تسأليني شيئا إلا أعطيتك، فإذا قال لك ذلك فقولي: لا أسأل إلا رأس يحيى. قال: وكانت الملوك إذا تكلم أحدهم بشيء على رءوس الملا ثم لم يمض له نزع من ملكه، ففعلت ذلك. قال: فجعل يأتيه الموت من قتله يحيى،

وجعل يأتيه الموت من خروجه من ملكه، فاختار ملكه فقتله. قال: فساخت بأمها الأرض. قال ابن جدعان: فحدثت بهذا الحديث ابن المسيب فقال أفما أخبرك كيف كان قتل زكريا؟ قلت لا، إن زكريا حيث قتل ابنه انطلق هاربا منهم واتبعوه حتى أتى على شجرة ذات ساق فدعته إليها فانطوت عليه وبقيت من ثوبه هدبة تكفتها الرياح، فانطلقوا إلى الشجرة فلم يجدوا أثره بعدها، ونظروا بتلك الهدبة فدعوا بالمنشار فقطعوا الشجرة فقطعوه معها. قلت: وقع في التاريخ الكبير للطبري «1» فحدثني أبو السائب قال حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن المنهال عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: بعث عيسى بن مريم يحيى بن زكريا في اثنى عشر من الحواريين يعلمون الناس، قال: كان فيما نهوهم عنه نكاح ابنة الأخ، قال: وكان لملكهم ابنة أخ تعجبه ... وذكر الخبر بمعناه. وعن ابن عباس قال: بعث يحيى بن زكريا في اثنى عشر من الحواريين يعلمون الناس، وكان فيما يعلمونهم ينهونهم عن نكاح بنت الأخت، وكان لملكهم بنت أخت تعجبه، وكان يريد أن يتزوجها، وكان لها كل يوم حاجة يقضيها، فلما بلغ ذلك أمها أنهم نهوا عن نكاح بنت الأخت قالت لها: إذا دخلت على الملك وقال ألك حاجة فقولي: حاجتي أن تذبح يحيى بن زكريا، فقال: سليني سوى هذا! قالت: ما أسألك إلا هذا. فلما أبت عليه دعا بطست ودعا به فذبحه، فندرت قطرة من دمه على وجه الأرض فلم تزل تغلى حتى بعث الله عليهم بخت نصر فألقى في نفسه أن يقتل على ذلك الدم منهم حتى يسكن ذلك الدم، فقتل عليه منهم سبعين ألفا، في رواية خمسة وسبعين ألفا. قال سعيد بن المسيب: هي دية كل نبى. وعن ابن عباس قال: أوحى الله إلى محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنى قتلت بيحيى بن زكريا سبعين ألفا، وإني قاتل بابن ابنتك سبعين ألفا وسبعين ألفا. وعن سمير بن عطية قال: قتل على الصخرة التي في بيت المقدس سبعون نبيا منهم يحيى بن زكريا. وعن زيد بن واقد قال: رأيت رأس يحيى عليه السلام
حيث أرادوا بناء مسجد دمشق أخرج من تحت ركن من أركان القبة التي تلى المحراب
__________ (1). راجع ج 3 قسم أول ص 713 طبع أوربا.

مما يلي الشرق، فكانت البشرة والشعر على حاله لم يتغير. وعن قرة بن خالد قال: ما بكت السماء على أحد إلا على يحيى بن زكريا والحسين بن على، وحمرتها بكاؤها. وعن سفيان بن عيينة قال: أوحش ما يكون ابن آدم في ثلاثة مواطن: يوم ولد فيخرج إلى دار هم، وليلة يبيت مع الموتى فيجاور جيرانا لم ير مثلهم، ويوم يبعث فيشهد مشهدا لم ير مثله، قال الله تعالى ليحيى في هذه الثلاثة مواطن:" وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا
«1» كله من التاريخ المذكور. واختلف فيمن كان المبعوث عليهم في المرة الآخرة، فقيل: بخت نصر. وقاله القشيري أبو نصر، لم يذكر غيره. قال السهيلي: وهذا لا يصح، لان قتل يحيى كان بعد رفع عيسى، وبخت نصر كان قبل عيسى ابن مريم عليهما السلام بزمان طويل.، وقبل الإسكندر، وبين الإسكندر وعيسى نحو من ثلاثمائة سنة، ولكنه أريد بالمرة الأخرى حين قتلوا شعيا، فقد كان بخت نصر إذ ذاك حيا، فهو الذي قتلهم وخرب بيت المقدس واتبعهم إلى مصر. وأخرجهم منها. وقال الثعلبي: ومن روى أن بخت نصر هو الذي غزا بنى إسرائيل عند قتلهم يحيى بن زكريا فغلط عند أهل السير والاخبار، لأنهم مجمعون على أن بخت نصر إنما غزا بنى إسرائيل عند قتلهم شعيا وفى عهد إرميا. قالوا: ومن عهد إرميا وتخريب بخت نصر بيت المقدس إلى مولد يحيى بن زكريا عليهما السلام أربعمائة سنة واحدي وستون سنة، وذلك أنهم يعدون من عهد تخريب بيت المقدس إلى عمارته في عهد كوسك «2» سبعين سنة، ثم من بعد عمارته إلى ظهور الإسكندر على بت المقدس ثمانية وثمانين سنة، ثم من بعد مملكة الإسكندر إلى مولد يحيى ثلاثمائة وثلاثا وستين «3» سنة. قلت: ذكر جميعه الطبري في التاريخ رحمه الله. قال الثعلبي: والصحيح من ذلك ما ذكره محمد بن إسحاق قال: لما رفع الله عيسى من بين أظهرهم وقتلوا يحيى- وبعض
__________
(1). راجع ج 11 ص 88 فما بعد.
(2). الذي في تاريخ الطبري:" كيرش" ولم نوفق لتصويبه. [.....]
(3). في الطبري:" ثلاثمائة وثلاث سنين". راجع ص 718 من القسم الأول.

الناس يقول: لما قتلوا زكريا- بعث الله إليهم ملكا من ملوك بابل يقال له: خردوس «1»، فسار إليهم بأهل بابل وظهر عليهم بالشام، ثم قال لرئيس جنوده: كنت حلفت بإلهي لئن أظهرني الله على بيت المقدس لأقتلنهم حتى تسيل دماؤهم في وسط عسكري، وأمر أن يقتلهم حتى يبلغ ذلك منهم، فدخل الرئيس بيت المقدس فوجد فيها دماء تغلى، فسألهم فقالوا: دم قربان قربناه فلم يتقبل منا منذ ثمانين «2» سنة. قال ما صدقتموني، فذبح على ذلك الدم سبعمائة وسبعين رجلا من رؤسائهم فلم يهدأ، فأتى بسبعمائة غلام من غلمانهم فذبحوا على الدم فلم يهدأ «3»، فأمر بسبعة آلاف من سبيهم وأزواجهم فذبحهم على الدم فلم يبرد، فقال: يا بنى إسرائيل، اصدقوني قبل ألا أترك منكم نافخ نار من أنثى ولا من ذكر إلا قتلته. فلما رأوا الجهد قالوا: إن هذا دم نبى منا كان ينهانا عن أمور كثيرة من سخط الله فقتلناه، فهذا دمه، كان اسمه يحيى بن زكريا، ما عصى الله قط طرفة عين ولا هم بمعصية. فقال: الآن صدقتموني، وخر ساجدا ثم قال: لمثل هذا ينتقم منكم، وأمر بغلق الأبواب وقال: أخرجوا من كان هاهنا من جيش خردوس «4»، وخلا في بنى إسرائيل وقال: يا نبى الله يا يحيى بن زكريا قد علم ربى وربك ما قد أصاب قومك من أجلك، فاهدأ بإذن الله قبل ألا أبقى منهم أحدا. فهدأ دم يحيى بن زكريا بإذن الله عز وجل، ورفع عنهم القتل وقال: رب إنى آمنت بما آمن به بنو إسرائيل وصدقت به، فأوحى الله تعالى إلى رأس من رءوس الأنبياء: إن هذا الرئيس مؤمن صدوق. ثم قال: إن عدو الله خردوس أمرني أن أقتل منكم حتى تسيل دماؤكم وسط عسكره، وإني لا أعصيه، فأمرهم فحفروا خندقا وأمر بأموالهم من الإبل والخيل والبغال والحمير والبقر والغنم فذبحوها حتى سال الدم إلى العسكر، وأمر بالقتلى الذين كانوا قتلوا قبل ذلك فطرحوا على ما قتل من مواشيهم، ثم انصرف عنهم إلى بابل، وقد كاد أن يفنى بنى إسرائيل.
__________
(1). في ج: جردوش. ولعله تحريف من الناسخ.
(2). في تاريخ الطبري ص 721:" منذ ثمانمائة سنة".
(3). زيادة عن تاريخ الطبري.
(4). في ج: جردوش. ولعله تحريف من الناسخ.

قلت: قد ورد في هذا الباب حديث مرفوع فيه طول من حديث حذيفة، وقد كتبناه في (كتاب التذكرة) مقطعا في أبواب في أخبار المهدى، نذكر منها هنا ما يبين معنى الآية ويفسرها حتى لا يحتاج معه إلى بيان، قال حذيفة: قلت يا رسول الله، لقد كان بيت المقدس عند الله عظيما جسيم الخطر عظيم القدر. فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" هو من أجل البيوت ابتناه الله لسليمان بن داود عليهما السلام من ذهب وفضة ودر وياقوت وزمرد": وذلك أن سليمان بن داود لما بناه سخر الله له الجن فأتوه بالذهب والفضة من المعادن، وأتوه بالجواهر والياقوت والزمرد، وسخر الله تعالى له الجن حتى بنوه من هذه الأصناف. قال حذيفة: فقلت يا رسول الله، وكيف أخذت هذه الأشياء من بيت المقدس. فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" إن بنى إسرائيل لما عصوا الله وقتلوا الأنبياء سلط الله عليهم بخت نصر وهو من المجوس وكان ملكه سبعمائة سنة، وهو قوله:" فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولًا" فدخلوا بيت المقدس وقتلوا الرجال وسبوا النساء والأطفال وأخذوا الأموال وجميع ما كان في بيت المقدس من هذه الأصناف فاحتملوها على سبعين ألفا ومائة ألف عجلة حتى أودعوها أرض بابل، فأقاموا يستخدمون بنى إسرائيل ويستملكونهم بالخزي والعقاب والنكال مائة عام، ثم إن الله عز وجل رحمهم فأوحى إلى ملك من ملوك فارس أن يسير إلى المجوس في أرض بابل، وأن يستنقذ من في أيديهم من بنى إسرائيل، فسار إليهم ذلك الملك حتى دخل أرض بابل فاستنقذ من بقي من بنى إسرائيل من أيدي المجوس واستنقذ ذلك الحلي الذي كان في بيت المقدس ورده الله إليه كما كان أول مرة وقال لهم: يا بنى إسرائيل إن عدتم إلى المعاصي عدنا عليكم بالسبي والقتل، وهو قوله:" عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا" فلما رجعت بنو إسرائيل إلى بيت المقدس عادوا إلى المعاصي فسلط الله عليهم ملك الروم قيصر، وهو قوله:" فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً" فغزاهم في البر والبحر فسباهم وقتلهم واخذ أموالهم ونساءهم، واخذ حلى جميع بيت المقدس واحتمله على سبعين ألفا ومائة ألف عجلة حتى أودعه

عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8)

في كنيسة الذهب، فهو فيها الآن حتى يأخذه المهدى فيرده إلى بيت المقدس، وهو ألف سفينة وسبعمائة سفينة يرسى بها على يافا «1» حتى تنقل إلى بيت المقدس وبها يجمع الله الأولين والآخرين ..." وذكر الحديث. قوله تعالى: (فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ) أي من المرتين، وجواب" إذا" محذوف، تقديره بعثناهم، دل عليه" بَعَثْنا" الأول. (لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ) أي بالسبي والقتل فيظهر أثر الحزن في وجوهكم، ف" لِيَسُوؤُا" متعلق بمحذوف، أي بعثنا عبادا ليفعلوا بكم ما يسوء وجوهكم. قيل: المراد بالوجوه السادة، أي ليذلوهم. وقرا الكسائي" لنسوء" بنون وفتح الهمزة، فعل مخبر عن نفسه معظم، اعتبارا بقوله: وقضينا وبعثنا ورددنا". ونحوه عن على. وتصديقها قراءة أبى" لنسوأن" بالنون وحرف التوكيد. وقرا أبو بكر والأعمش وابن وثاب وحمزة وابن عامر" ليسوء" بالياء على التوحيد وفتح الهمزة، ولها وجهان: أحدهما- ليسوء الله وجوهكم. والثاني- ليسوء الوعد وجوهكم. وقرا الباقون" لِيَسُوؤُا" بالياء وضم الهمزة على الجمع، أي ليسوء العباد الذين هم أولو بأس شديد وجوهكم. (وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا) أي ليدمروا ويهلكوا. وقال قطرب: يهدموا، قال الشاعر:
فما الناس إلا عاملان فعامل ... يتبر ما يبنى وآخر رافع
(ما عَلَوْا) أي غلبوا عليه من بلادكم (تَتْبِيراً).

[سورة الإسراء (17): آية 8]
عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً (8)
قوله تعالى: (عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ) وهذا مما أخبروا به في كتابهم. و" عَسى " وعد من الله أن يكشف عنهم. و" عَسى " من الله واجبة. (أَنْ يَرْحَمَكُمْ) بعد انتقامه منكم، وكذلك كان، فكثر عددهم وجعل منهم الملوك. (وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا) قال قتادة:
__________
(1). كذا في الطبري والدر المنثور. وفى أو ج ووو ى: يا في. وهذا خصا لنساخ.

إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (10)

فعادوا فبعث الله عليهم محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهم يعطون الجزية بالصغار، وروى عن ابن عباس. وهذا خلاف ما تقدم في الحديث وغيره. وقال القشيري: وقد حل العقاب ببني إسرائيل مرتين على أيدي الكفار، ومرة على أيدي المسلمين. وهذا حين عادوا فعاد الله عليهم. وعلى هذا يصح قول قتادة. (وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً) أي محبسا وسجنا، من الحصر وهو الحبس. قال الجوهري: يقال حصره يحصره حصرا ضيق عليه وأحاط به. والحصير: الضيق البخيل. والحصير: البارية. والحصير: الجنب، قال الأصمعي: هو ما بين العرق الذي يظهر في جنب البعير والفرس معترضا فما فوقه إلى منقطع الجنب. والحصير: الملك، لأنه محجوب. قال لبيد:
وقماقم غلب الرقاب كأنهم ... جن لدى باب الحصير قيام
ويروى «1»:
ومقامة غلب الرقاب ...

على أن يكون" غلب" بدلا من" مقامة" كأنه قال: ورب غلب الرقاب. وروى عن أبى عبيدة:
لدى طرف الحصير قيام

أي عند طرف البساط للنعمان بن المنذر. والحصير: المحبس، قال الله تعالى:" وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً". قال القشيري: ويقال للذي يفرش حصير، لحصر بعضه على بعض بالنسج. وقال الحسن: أي فراشا ومهادا، ذهب إلى الحصير الذي يفرش، لان العرب تسمى البساط الصغير حصيرا. قال الثعلبي: وهو وجه حسن.

[سورة الإسراء (17): الآيات 9 الى 10]
إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (10)
قوله تعالى: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (10)
قوله تعالى: (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) لما ذكر المعراج ذكر ما قضى إلى بنى إسرائيل، وكان ذلك دلالة على نبوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم بين أن الكتاب الذي
__________
(1). في هامش ج: قال الشيخ المصنف: ويروى: وعصابة.

وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا (11)

أنزله الله عليه سبب اهتداء. ومعنى (لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) أي الطريقة التي هي أسد وأعدل وأصوب، ف" التي" نعت لموصوف محذوف، أي الطريقة إلى نص أقوم. وقال الزجاج: للحال التي هي أقوم الحالات، وهى توحيد الله والايمان برسله. وقاله الكلبي والفراء. قوله تعالى: (وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ) تقدم «1». (أَنَّ لَهُمْ) أي بأن لهم. (أَجْراً كَبِيراً) أي الجنة. (وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) أي ويبشرهم بأن لأعدائهم العقاب. والقرآن معظمة وعد ووعيد. وقرا حمزة والكسائي" وَيُبَشِّرُ" مخففا بفتح الياء وضم الشين، وقد ذكر «2».

[سورة الإسراء (17): آية 11]
وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً (11)
قوله تعالى: (وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ) قال ابن عباس وغيره: هو دعاء الرجل على نفسه وولده عند الضجر بما لا يحب أن يستجاب له: اللهم أهلكه، ونحوه. (دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ) أي كدعائه ربه أن يهب له العافية، فلو استجاب الله دعاءه على نفسه بالشر هلك لكن بفضله لا يستجيب له في ذلك. نظيره:" وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ" وقد تقدم «3». وقيل: نزلت في النضر بن الحارث، كان يدعو ويقول:" اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ «4»". وقيل: هو أن يدعو في طلب المحظور كما يدعو في طلب المباح، قال الشاعر وهو ابن جامع:
أطوف بالبيت فيمن يطوف ... وارفع من مئزري المسبل
وأسجد بالليل حتى الصباح ... وأتلو من المحكم المنزل
عسى فارج الهم عن يوسف ... يسخر لي ربة المحمل
__________
(1). راجع ج 1 ص 338.
(2). راجع ج 4 ص 75.
(3). راجع ج 8 ص 314.
(4). راجع ج 7 ص 398 وج 8 ص 315.

قال الجوهري: يقال ما على فلان محمل مثال مجلس أي معتمد. والمحمل أيضا: واحد محامل الحاج. والمحمل مثال المرجل: علاقة السيف. وحذفت الواو من" وَيَدْعُ الْإِنْسانُ" في اللفظ والحظ ولم تحذف في المعنى لان موضعها رفع فحذفت لاستقبالها اللام الساكنة، كقوله تعالى:" سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ «1»"" وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ «2»"" وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ «3»"" يُنادِ الْمُنادِ «4»"" فَما تُغْنِ النُّذُرُ «5»". (وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا)" أي طبعه العجلة، فيعجل بسؤال الشر كما يعجل بسؤال الخير. وقيل: أشار به إلى آدم عليه السلام حين نهض قبل أن يركب فيه الروح على الكمال. قال سلمان: أول ما خلق الله تعالى من آدم رأسه فجعل ينظر وهو يخلق جسده، فلما كان عند العصر بقيت رجلاه لم ينفخ فيهما الروح فقال: يا رب عجل قبل الليل، فذلك قوله:" وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا". وقال ابن عباس: لما انتهت النفخة إلى سرته نظر إلى جسده فذهب لينهض فلم يقدر، فذلك قوله:" وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا". وقال ابن مسعود: لما دخل الروح في عينيه نظر إلى ثمار الجنة، فذلك حين يقول:" خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ «6»" ذكره البيهقي. وفى صحيح مسلم عن أنس بن مالك أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:" لما صور الله تعالى آدم في الجنة تركه ما شاء الله أن يتركه فجعل إبليس يطيف به ينظر ما هو فلما رآه أجوف عرف أنه خلق خلقا لا يتمالك" وقد تقدم «7». وقيل: سلم عليه السلام أسيرا إلى سودة فبات يئن فسألته فقال: أنيني لشدة القد والأسر، فأرخت من كتافه فلما نامت هرب، فأخبرت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال:" قطع الله يديك" فلما أصبحت كانت تتوقع الآفة، فقال عليه السلام:" إنى سألت الله تعالى أن يجعل دعائي على من لا يستحق من أهلي لأني بشر أغضب كما يغضب البشر" ونزلت الآية، ذكره القشيري أبو نصر رحمه الله. وفى صحيح مسلم عن أبى هريرة قال سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول:"
__________
(1). راجع ج 20 ص 126.
(2). راجع ج 16 ص 24.
(3). راجع ج 5 ص 425. [.....]
(4). راجع ج 17 ص 27 وص 128.
(5). راجع ج 11 ص 288.
(6). راجع ج 11 ص 288.
(7). راجع ج 1 ص 281.

وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا (12)

" اللهم إنما محمد بشر يغضب كما يغضب البشر وإني قد اتخذت عندك عهدا لن تخلفينه فأيما مؤمن آذيته أو سببته أو جلدته فاجعلها له كفارة وقربة تقربه بها إليك يوم القيامة". وفى الباب عن عائشة وجابر. وقيل: معنى" وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا" أي يؤثر العاجل وإن قل، على الآجل وإن جل.

[سورة الإسراء (17): آية 12]
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً (12)
قوله تعالى: (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ) أي علامتين على وحدانيتنا ووجودنا وكمال علمنا وقدرتنا. والآية فيهما: إقبال كل منهما من حيث لا يعلم، وإدباره إلى حيث لا يعلم. ونقصان أحدهما بزيادة الآخر وبالعكس آية أيضا. وكذلك ضوء النهار وظلمة الليل. وقد مضى هذا «1» .. (فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ) ولم يقل: فمحونا الليل، فلما أضاف الآية إلى الليل والنهار دل على أن الآيتين المذكورتين لهما لا هما. و" فَمَحَوْنا" معناه طمسنا. وفى الخبر أن الله تعالى أمر جبريل عليه السلام فأمر جناحه على وجه القمر فطمس عنه الضوء وكان كالشمس في النور، والسواد الذي يرى في القمر من أثر المحو. قال ابن عباس: جعل الله الشمس سبعين جزءا والقمر سبعين جزءا، فمحا من نور القمر تسعة وستين جزءا فجعله مع نور الشمس، فالشمس على مائة وتسع وثلاثين جزءا والقمر على جزء واحد. وعنه أيضا: خلق الله شمسين من نور عرشه، وجعل ما سبق في علمه أن يكون شمسا مثل الدنيا على قدرها ما بين مشارقها إلى مغاربها، وجعل القمر دون الشمس، فأرسل جبريل عليه السلام فأمر جناحه على وجهه ثلاث مرات وهو يومئذ شمس فطمس ضوءه وبقي نوره، فالسواد الذي ترونه في القمر أثر المحو، ولو تركه شمسا لم يعرف الليل من النهار ذكر
__________
(1). راجع ج 2 ص 192.

عنه الأول الثعلبي، والثاني المهدوي، وسيأتي مرفوعا. وقال على رضى الله عنه وقتادة: يريد بالمحو اللطخة السوداء التي في القمر، ليكون ضوء القمر أقل من ضوء الشمس فيتميز به الليل من النهار. (وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً) أي جعلنا شمسه مضيئة للابصار. قال أبو عمرو بن العلاء: أي يبصر بها. قال الكسائي: وهو من قول العرب أبصر النهار إذا أضاء، وصار بحالة يبصر بها. وقيل: هو كقولهم خبيث مخبث إذا كان أصحابه خبثاء. ورجل مضعف إذا كانت دوابه ضعافا، فكذلك النهار مبصرا إذا كان أهله بصراء. (لتبتغوا فضلا من ربكم) يريد التصرف في المعاش. ولم يذكر السكون في الليل اكتفاء بما ذكر في النهار. وقد قال في موضع آخر:" هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً «1»" (وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ) أي لو لم يفعل ذلك لما عرف الليل من النهار، ولا كان يعرف الحساب والعدد. (وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلًا) أي من أحكام التكليف، وهو كقوله:" تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ «2»"" ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ «3»". وعن ابن عباس أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:" لما أبرم الله خلقه فلم يبق من خلقه غير آدم خلق شمسا من نور عرشه وقمرا فكانا جميعا شمسين فأما ما كان في سابق علم الله أن يدعها شمسا فخلقها مثل الدنيا ما بين مشارقها ومغاربها وأما ما كان في علم الله أن يخلقها قمرا فخلقها دون الشمس في العظم ولكن إنما يرى صغرهما من شدة ارتفاع السماء وبعدها من الأرض فلو ترك الله الشمس والقمر كما خلقهما لم يعرف الليل من النهار ولا كان الأجير يدرى إلى متى يعمل ولا الصائم إلى متى يصوم ولا المرأة كيف تعتد ولا تدرى أوقات الصلوات والحج ولا تحل «4» الديون ولا حين يبذرون ويزرعون ولا متى يسكنون للراحة لأبدانهم وكان الله نظر إلى عباده وهو أرحم بهم من أنفسهم فأرسل جبريل فأمر جناحه على وجه القمر ثلاث مرات وهو يومئذ شمس فطمس عنه الضوء وبقي فيه النور فذلك قوله: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ الآية.
__________
(1). راجع ج 8 ص 360.
(2). راجع ص 164 من هذا الجزء.
(3). راجع ج 6 ص 420.
(4). في ج وى: محل.

وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14)

[سورة الإسراء (17): الآيات 13 الى 14]
وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً (13) اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (14)
قوله تعالى: (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) قال الزجاج: ذكر العنق عبارة عن اللزوم كلزوم القلادة للعنق. وقال ابن عباس:" طائِرَهُ" عمله وما قدر عليه من خير وشر، وهو ملازمه أينما كان. وقال مقاتل والكلبي: خيره وشره معه لا يفارقه حتى يحاسب به. وقال مجاهد: عمله ورزقه، وعنه: ما من مولود يولد إلا وفى عنقه ورقة فيها مكتوب شقي أو سعيد. وقال الحسن:" أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ" أي شقاوته وسعادته وما كتب له من خير وشر وما طار له من التقدير، أي صار له عند القسمة في الأزل. وقيل: أراد به التكليف، أي قدرناه التزام «1» الشرع، وهو بحيث لو أراد أن يفعل ما أمر به وينزجر عما زجر به أمكنه ذلك. (وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً) يعنى كتاب طائره الذي في عنقه. وقرا الحسن وأبو رجاء ومجاهد:" طيره" بغير ألف، ومنه ما روى في الخبر اللهم لا خير إلا خيرك ولا طير إلا طيرك ولا رب غيرك". وقرا ابن عباس والحسن ومجاهد وابن محيصن وأبو جعفر ويعقوب" ويخرج" بفتح الياء وضم الراء، على معنى ويخرج له الطائر كتابا، ف" كِتاباً" منصوب على الحال. ويحتمل أن يكون المعنى: ويخرج الطائر فيصير كتابا. وقرا يحيى بن وثاب" ويخرج" بضم الياء وكسر الراء، وروى عن مجاهد، أي يخرج الله. وقرا شيبة ومحمد بن السميقع، وروى أيضا عن أبى جعفر:" ويخرج" بضم الياء وفتح الراء على الفعل المجهول، ومعناه: ويخرج له الطائر كتابا. الباقون" وَنُخْرِجُ" بنون مضمومة وكسر الراء، أي ونحن نخرج. احتج أبو عمرو في هذه القراءة بقوله" أَلْزَمْناهُ". وقرا أبو جعفر والحسن وابن عامر" يَلْقاهُ" بضم الياء وفتح اللام وتشديد القاف، بمعنى يؤتاه. الباقون بفتح الياء خفيفة، أي يراه منشورا. وقال" مَنْشُوراً" تعجيلا للبشرى بالحسنة والتوبيخ بالسيئة. قال
__________
(1). من ى، وفى أوح: قدرناه إلزام، وفى ج: قلدناه إلزام.

مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)

أبو السوار العدوى وقرأ هده الآية." وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ" قال: هما نشرتان وزيه، أما ما حييت يا ابن آدم فصحيفتك المنشورة فأمل فيها ما شئت، فإذا مت طويت حتى إذا بعثت نشرت. (اقْرَأْ كِتابَكَ) قال الحسن: يقرأ الإنسان كتابه أميا كان أو غير أمي. (كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) أي محاسبا. وقال بعض الصلحاء: هذا كتاب، لسانك قلمه، وريقك مداده، وأعضاؤك قرطاسه.، أنت كنت المملى على حفظتك، ما زيد فيه ولا نقص منه، ومتى أنكرت منه شيئا يكون فيه الشاهد منك عليك.

[سورة الإسراء (17): آية 15]
مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (15)
قوله تعالى: (مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها) أي إنما كل أحد يحاسب عن نفسه لا عن غيره، فمن اهتدى فثواب اهتدائه له، ومن ضل فعقاب كفره عليه. (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ) تقدم في الانعام «1». وقا ابن عباس: نزلت في الوليد بن المغيرة، قال لأهل مكة: اتبعون واكفروا بمحمد وعلى أو زاركم، فنزلت هذه الآية، أي إن الوليد لا يحمل آثامكم وإنما إثم كل واحد عليه. يقال: وزر يزر وزرا، ووزره، أي أثم. والوزر: الثقل المثقل والجمع أوزار، ومنه" يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ «2»" أي أثقال ذنوبهم. وقد وزر إذا حمل فهو وازر، ومنه وزير السلطان الذي يحمل ثقل دولته. والهاء في قوله «3» كناية عن النفس، أي لا تؤخذ نفس آثمة بإثم أخرى، حتى أن الوالدة تلقى ولدها يوم القيامة فتقول: يا بنى ألم يكن حجري لك وطاء، ألم يكن ثديي لك سقاء، ألم يكن بطني لك وعاء،! فيقول: بلى يا! أمه فتقول يا بنى! فإن ذنوبي أثقلتني فاحمل عنى منها ذنبا واحدا! فيقول: إليك عنى يا أمه! فإنى بذنبي عنك اليوم مشغول.
__________
(1). راجع ج 7 ص 155.
(2). راجع ج 6 ص 413.
(3). يبدو هنا سقط لفظ وازرة بدليل ما بعدها.

مسألة: نزعت عائشة رضى الله عنها بهذه الآية في الرد على ابن عمر حيث قال:" إن الميت ليعذب ببكاء أهله". قال علماؤنا: وإنما حملها على ذلك أنها لم تسمعه، وأنه معارض للآية. ولا وجه لإنكارها، فإن الرواة لهذا المعنى كثير، كعمر وابنه والمغيرة بن شعبة وقيلة بنت مخرمة، وهم جازمون بالرواية، فلا وجه لتخطئتهم. ولا معارضة بين الآية والحديث، فإن الحديث محمله على ما إذا كان النوح من وصية الميت وسنته، كما كانت الجاهلية تفعله، حتى قال طرفة:
إذا مت فانعينى بما أنا أهله ... وشقي على الجيب يا بنت معبد
وقال:
إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ... ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر
وإلى هذا نحا البخاري. وقد ذهب جماعة من أهل العلم منهم داود إلى اعتقاد ظاهر الحديث، وأنه إنما يعذب بنوحهم، لأنه أهمل نهيهم عنه قبل موته وتأديبهم بذلك، فيعذب بتفريطه في ذلك، وبترك ما أمره الله به من قوله:" قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً «1»" لا بذنب غيره، والله أعلم. قوله تعالى: (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا)
أي لم نترك الخلق سدى، بل أرسلنا الرسل. وفى هذا دليل على أن الأحكام لا تثبت إلا بالشرع، خلافا للمعتزلة القائلين بأن العقل يقبح ويحسن ويبيح ويحظر. وقد تقدم في البقرة القول «2» فيه. والجمهور على أن هذا في حكم الدنيا، أي أن الله لا يهلك أمة بعذاب إلا بعد الرسالة إليهم والإنذار. وقالت فرقة: هذا عام في الدنيا والآخرة، لقوله تعالى:" كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قالُوا بَلى قَدْ «3» جاءَنا". قال ابن عطية: والذي يعطيه النظر أن بعثه آدم عليه السلام بالتوحيد وبث المعتقدات في بنيه مع نصب الادلة الدالة على الصانع مع سلامة الفطر توجب على كل أحد من العالم الايمان واتباع شريعة الله، ثم تجدد ذلك في زمن نوح عليه السلام بعد
__________
(1). راجع ج 18 ص 194 وص 212. [.....]
(2). راجع ج 1 ص 251.
(3). راجع ج 18 ص 194 وص 212.

وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16)

غرق الكفار. وهذه الآية أيضا يعطى احتمال ألفاظها نحو هذا في الذين لم تصلهم رسالة، وهم أهل الفترات الذين قد قدر وجودهم بعض أهل العلم. وأما ما روى من أن الله تعالى يبعث إليهم يوم القيامة وإلى المجانين والأطفال فحديث لم يصح، ولا يقتضى ما تعطيه الشريعة من أن الآخرة ليست دار تكليف. قال المهدوي: وروى عن أبى هريرة أن الله عز وجل يبعث يوم القيامة رسولا إلى أهل الفطرة والأبكم والأخرس والأصم، فيطيعه منهم من كان يريد أن يطيعه في الدنيا، وتلا الآية، رواه معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن أبى هريرة، ذكره النحاس. قلت: هذا موقوف، وسيأتي مرفوعا في آخر سورة طه إن شاء الله تعالى، ولا يصح. وقد استدل قوم في أن أهل الجزائر إذا سمعوا بالإسلام وآمنوا فلا تكليف عليهم فيما مضى، وهذا صحيح، ومن لم تبلغه الدعوة فهو غير مستحق للعذاب من جهة العقل، والله أعلم.

[سورة الإسراء (17): آية 16]
وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً (16)
فيه ثلاث مسائل: الاولى- أخبر الله تعالى في الآية التي قبل أنه لم يهلك القرى قبل ابتعاث الرسل، لا لأنه يقبح منه ذلك إن فعل، ولكنه وعد منه، وخلف في وعده. فإذا أراد إهلاك قرية مع تحقيق وعده على ما قاله تعالى أمر مترفيها بالفسق «1» والظلم فيها فحق عليها القول بالتدمير. يعلمك أن من هلك (فإنما) «2» هلك بإرادته، فهو الذي يسبب الأسباب ويسوقها إلى غاياتها ليحق القول السابق من الله تعالى. الثانية- قوله تعالى: (أَمَرْنا)
قرأ أبو عثمان النهدي وأبو رجاء وأبو العالية، والربيع ومجاهد والحسن" أمرنا" بالتشديد، وهى قراءة على رضى الله عنه، أي سلطنا شرارها فعصوا فيها، فإذا فعلوا ذلك أهلكناهم. وقال أبو عثمان النهدي" أمرنا" بتشديد الميم، جعلناهم
__________
(1). المحققون على ما قال ابن عباس كما في البحر: أمرناهم فعصوا وفسقوا وسيأتي. وهذا هو المطابق كقوله تعالى إن الله لا يأمر بالفحشاء. أما ما ذكره القرطبي كالزمخشري فيحتاج إلى تأويل. محققة.
(2). من ج وى.

أمراء مسلطين، وقاله ابن عزيز. وتأمر عليهم تسلط عليهم. وقرا الحسن أيضا وقتادة وأبو حيوة الشامي ويعقوب وخارجة عن نافع وحماد بن سلمة عن ابن كثير وعلى وابن عباس باختلاف عنهما" آمرنا" بالمد والتخفيف، أي أكثرنا جبابرتها وأمراءها، قاله الكسائي. وقال أبو عبيدة: آمرته بالمد وآمرته، لغتان بمعنى كثرته، ومنه الحديث" خير المال مهرة مأمورة أو سكة مأبورة «1»" أي كثيرة النتاج والنسل. وكذلك قال ابن عزيز: آمرنا وأمرنا بمعنى واحد، أي أكثرنا. وعن الحسن أيضا ويحيى بن يعمر" أمرنا" بالقصر وكسر الميم على فعلنا، ورويت عن ابن عباس. قال قتادة والحسن: المعنى أكثرنا، وحكى نحوه أبو زيد وأبو عبيد، وأنكره الكسائي وقال: لا يقال من الكثرة إلا آمرنا بالمد، قال واصلها" أأمرنا" فخفف، حكاه المهدوي. وفى الصحاح: وقال أبو الحسن أمر ماله (بالكسر) أي أكثره وأمر القوم أي كثروا، قال الشاعر:
أمرون لا يرثون سهم القعدد «2»

وآمر الله ماله: (بالمد): الثعلبي: ويقال للشيء الكثير أمر، والفعل منه: أمر القوم يأمرون أمرا إذا كثروا. قال ابن مسعود: كنا نقول في الجاهلية للحي إذا كثروا: أمر أمر بنى فلان، قال لبيد:
كل بنى حرة مصيرهم ... قل وإن أكثرت من العدد
إن يغبطوا يهبطوا وإن أمروا ... يوما يصيروا للهلك والنكد «3»
__________
(1). السكة: الطريقة المصطفة من النخل. والمأبورة: الملقحة، يقال: أبرت النخلة وأبرتها، فهي مأبورة ومؤبرة. السكة سكة الحرث، والمأبورة المصلحة له. المراد: خير المال نتاج وزرع. (ابن الأثير).
(2). هذا عجز بيت للأعشى وصدره:
طرفون ولادون كل مبارك

الزرف والزريف: الكثير الإباء إلى الجد الأكبر. والقعدد: القليل الإباء إلى الجد الأكبر.
(3). يقول: إن غبطوا يوما فأنهم يموتون. و" يهبزوا" هاهنا يموتوا. ويروى:" إن غبطوا يعبطوا" يموتوا عبطة، كأنهم يموتون من غير مرض. (راجع الديوان). في ج وى: والفند.

قلت: وفى حديث هرقل الحديث الصحيح:" لقد أمر أمر، ابن أبى كبشة «1»، ليخافه ملك بنى الأصفر" أي كثر. وكله غير متعد ولذلك أنكره الكسائي، والله اعلم. قال المهدوي: ومن قرأ" أمر" فهي لغة، ووجه تعدية" أمر" أنه شبهه بعمر من حيث كانت الكثرة أقرب شي إلى العمارة، فعدى كما عدى عمر «2». الباقون" أَمَرْنا
" من الامر، أي أمرناهم بالطاعة إعذارا وإنذارا وتخويفا ووعيدا. فَفَسَقُوا
أي فأخرجوا عن الطاعة عاصين لنا. فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ
فوجب عليها الوعيد، عن ابن عباس. وقيل:" أَمَرْنا
" جعلناهم أمراء، لان العرب تقول: أمير غير مأمور، أي غير مؤمر. وقيل: معناه بعثنا مستكبريها. قال هارون: وهى قراءة أ، بي" بعثنا أكابر مجرميها ففسقوا" ذكره الماوردي. وحكى النحاس: وقال هارون في قراءة أبى:" وإذا أردنا أن نهلك قرية بعثنا فيها أكابر مجرميها فمكروا فيها فحق عليها القول". ويجوز أن يكون" أَمَرْنا
" بمعنى أكثرنا، ومنه" خير المال مهرة مأمورة" على ما تقدم. وقال قوم: مأمورة اتباع لمأبورة، كالغدايا والعشايا. وكقوله:" ارجعن مأزورات غير مأجورات". وعلى هذا لا يقال: أمرهم الله، بمعنى كثرهم، بل يقال: آمره وأمره. واختار أبو عبيد وأبو حاتم قراءة العامة. قال أبو عبيد: وإنما اخترنا" أَمَرْنا
" لان المعاني الثلاثة تجتمع فيها من الامر والامارة والكثرة. والمترف: المنعم، وخصوا بالأمر لان غيرهم تبع لهم. الثالثة- قوله تعالى: (فَدَمَّرْناها)
أي استأصلناها بالهلاك. (تَدْمِيراً)
ذكر المصدر للمبالغة في العذاب الواقع بهم. وفى الصحيح «3» من حديث بنت جحش زوج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالت: خرج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوما فزعا محمرا وجهه يقول:" لا إله إلا الله ويل للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه" وحلق بإصبعه الإبهام والتي تليها. قالت: فقلت يا رسول الله، انهلك وفينا
__________
(1). يريد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان المشركون يقولون للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" ابن أبى كبشة" شبوة بأبى كبشة، رجل من خزاعة خالف قريشا من عبادة الأوثان. أو هي كنية وهب بن عبد مناف جده صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من قبل أمه، لأنه كان نزع إليه في الشبه. أو كنية زوج حليمة السعدية
(2). عمر كفرح.
(3). في هامش ج: الصحيحين. خ.

وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17) مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19)

الصالحون؟ قال:" نعم إذا كثر الخبث". وقد تقدم الكلام في هذا الباب، وأن المعاصي إذا ظهرت ولم تغير كانت سببا لهلاك «1» الجميع، والله اعلم.

[سورة الإسراء (17): آية 17]
وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (17)
أي كم من قوم كفروا حل بهم البوار. يخوف كفار مكة. وقد تقدم القول في القرن في أول سورة الانعام «2»، والحمد لله. (وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً)" خَبِيراً" عليما بهم." بَصِيراً" يبصر أعمالهم، وقد تقدم «3».

[سورة الإسراء (17): الآيات 18 الى 19]
مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً (18) وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً (19)
قوله تعالى: (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ) يعنى الدنيا، والمراد الدار العاجلة، فعبر بالنعت «4» عن المنعوت. (عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ) أي لم نعطه منها إلا ما نشاء ثم نؤاخذه بعمله، وعاقبته دخول النار. (مَذْمُوماً مَدْحُوراً) أي مطردا مبعدا من رحمة الله. وهذه صفة المنافقين الفاسقين، والمرائين المداجين، يلبسون الإسلام والطاعة لينالوا عاجل الدنيا من الغنائم وغيرها، فلا يقبل ذلك العمل منهم في الآخرة ولا يعطون في الدنيا إلا ما قسم لهم. وقد تقدم في" هود «5» (أن هذه الآية تقيد الآيات المطلقة، فتأمله.) وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ أي الدار الآخرة. (وَسَعى لَها سَعْيَها) أي عمل لها عملها من الطاعات. (وَهُوَ مُؤْمِنٌ) لان الطاعات لا تقبل إلا من مؤمن. (فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً) أي مقبولا غير
__________
(1). راجع ج 7 ص 791.
(2). راجع ج 6 ص 391.
(3). راجع ج 2 ص 35.
(4). في هـ ج: خ: عن المنعوت بالنعت. [.....]
(5). راجع ج 9 ص 13.

كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21) لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (22) وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24)

مردود. وقيل: مضاعفا، أي تضاعف لهم الحسنات إلى عشر، وإلى سبعين وإلى سبعمائة ضعف، وإلى أضعاف كثيرة، كما روى عن أبى هريرة وقد قيل له: أسمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول:" إن الله ليجزي على الحسنة الواحدة ألف ألف حسنة"؟ فقال سمعته يقول:" إن الله ليجزي على الحسنة الواحدة ألفى ألف حسنة".

[سورة الإسراء (17): الآيات 20 الى 22]
كُلاًّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً (20) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً (21) لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً (22)
قوله تعالى: (كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ) اعلم أنه يرزق المؤمنين والكافرين. (وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً) أي محبوسا ممنوعا، من حظر يحظر حظرا وحظارا. ثم قال تعالى: انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ في الرزق والعمل، فمن مقل ومكثر. (وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا) أي للمؤمنين، فالكافر وإن وسع عليه في الدنيا مرة، وقتر على المؤمن مرة فالآخرة لا تقسم إلا مرة واحدة بأعمالهم، فمن فاته شي منها لم يستدركه فيها. وقوله: (لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ) الخطاب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمراد أمته. وقيل: الخطاب للإنسان. (فَتَقْعُدَ) أي تبقى. (مَذْمُوماً مَخْذُولًا) لا ناصر لك ولا وليا.

[سورة الإسراء (17): الآيات 23 الى 24]
وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً (23) وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً (24)

فيه ست عشرة مسألة: الاولى- (قَضى ) أي أمر وألزم وأوجب. قال ابن عباس والحسن وقتادة: ليس هذا قضاء حكم بل هو قضاء أمر. وفى مصحف ابن مسعود" ووصى" وهى قراءة أصحابه وقراءة ابن عباس أيضا وعلى وغيرهما، وكذلك عند أبى بن كعب. قال ابن عباس: إنما هو" ووصى ربك" فالتصقت إحدى الواوين فقرئت" وَقَضى رَبُّكَ" إذ لو كان على القضاء ما عصى الله أحد. وقال الضحاك: تصحفت على قوم" وصى بقضى" حين اختلطت الواو بالصاد وقت كتب المصحف. وذكر أبو حاتم عن ابن عباس مثل قول الضحاك. وقال عن ميمون بن مهران أنه قال: إن على قول ابن عباس لنورا، قال الله تعالى:" شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ «1»" ثم أبى أبو حاتم أن يكون ابن عباس قال ذلك. وقال: لو قلنا هذا لطعن الزنادقة في مصحفنا، ثم قال علماؤنا المتكلمون وغيرهم: القضاء يستعمل في اللغة على وجوه: فالقضاء بمعنى الامر، كقوله تعالى:" وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ" معناه أمر. والقضاء بمعنى الخلق، كقوله:" فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ «2»" يعنى خلقهن. والقضاء بمعنى الحكم، كقوله تعالى:" فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ «3»" يعنى احكم ما أنت تحكم. والقضاء بمعنى الفراغ، كقوله:" قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ «4»". أي فرغ منه، ومنه قوله تعالى" فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ «5»". وقوله تعالى:" فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ «6»". والقضاء بمعنى الإرادة، كقوله تعالى:" إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ «7»". والقضاء بمعنى العهد، كقوله تعالى:" وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ «8»". فإذا كان القضاء يحتمل هذه المعاني فلا يجوز إطلاق القول بأن المعاصي بقضاء الله، لأنه إن أريد به الامر فلا خلاف أنه لا يجوز ذلك، لان الله تعالى لم يأمر بها،
__________
(1). راجع ج 16 ص 9.
(2). راجع ج 15 ص 342.
(3). راجع ج 11 ص 225.
(4). راجع ج 9 ص 193.
(5). راجع ج 2 ص 431.
(6). راجع ج 18 ص 108.
(7). راجع ج 4 ص، 92.
(8). راجع ج 13 ص 291.

فإنه لا يأمر بالفحشاء. وقال زكريا بن سلام: جاء رجل إلى الحسن فقال إنه طلق امرأته ثلاثا. فقال: إنك قد عصيت ربك وبانت منك. فقال الرجل: قضى الله ذلك على! فقال الحسن وكان فصيحا: ما قضى الله ذلك أي ما أمر الله به، وقرا هذه الآية:" وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ". الثانية- أمر الله سبحانه بعبادته وتوحيده، وجعل بر الوالدين مقرونا بذلك، كما قرن شكرهما بشكره فقال:" وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً". وقال:" أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ «1»". وفى صحيح البخاري عن عبد الله قال: سألت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أي العمل أحب إلى الله عز وجل؟ قال:" الصلاة على وقتها" قال: ثم أي؟ قال:" ثم بر الوالدين" قال ثم أي؟ قال:" الجهاد في سبيل الله" فأخبر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن بر الوالدين أفضل الأعمال بعد الصلاة التي هي أعظم دعائم الإسلام. ورتب ذلك" بثم" التي تعطى الترتيب والمهلة. الثالثة- من البر بهما والإحسان إليهما ألا يتعرض لسبهما ولا يعقهما، فإن ذلك من الكبائر بلا خلاف، وبذلك وردت السنة الثابتة، ففي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:" إن من الكبائر شتم الرجل والديه" قالوا: يا رسول الله، وهل يشتم الرجل والديه؟ قال" نعم. يسب الرجل أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه". الرابعة- عقوق الوالدين مخالفتهما في أغراضهما الجائزة لهما، كما أن برهما موافقتهما على أغراضهما. وعلى هذا إذا أمرا أو أحدهما ولدهما بأمر وجبت طاعتهما فيه، إذا لم يكن ذلك الامر معصية، وإن كان ذلك المأمور به من قبيل المباح في أصله، وكذلك إذا كان من قبيل المندوب. وقد ذهب بعض الناس إلى أن أمرهما بالمباح يصيره في حق الولد مندوبا إليه وأمرهما بالمندوب يزيده تأكيدا في ندبيته.
__________
(1). راجع ج 14 ص 65.

الخامسة- روى الترمذي عن عمر قال: كانت تحتي امرأة أحبها، وكان أبى يكرهها فأمرني أن أطلقها فأبيت، فذكرت ذلك للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال:" يا عبد الله بن عمر طلق امرأتك". قال هذا حديث حسن صحيح. السادسة- روى الصحيح عن أبى هريرة قال: جاء رجل إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال:" أمك" قال: ثم من؟ قال:" ثم أمك" قال: ثم من؟ قال:" ثم أمك" قال: ثم من؟ قال:" ثم أبوك". فهذا الحديث يدل على أن محبة الام والشفقة عليها ينبغي أن تكون ثلاثة أمثال محبة الأب، لذكر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الام ثلاث مرات وذكر الأب في الرابعة فقط. وإذا توصل «1» هذا المعنى شهد له العيان. وذلك أن صعوبة الحمل وصعوبة الوضع وصعوبة الرضاع والتربية تنفرد بها الام دون الأب، فهذه ثلاث منازل يخلو منها الأب. وروى عن مالك أن رجلا قال له: إن أبى في بلد السودان، وقد كتب إلى أن أقدم عليه، وأمي تمنعني من ذلك، فقال: أطع أباك، ولا تعص أمك. فدل قول مالك هذا أن برهما متساو عنده. وقد سئل الليث عن هذه المسألة فأمره بطاعة الام، وزعم أن لها ثلثي البر. وحديث أبى هريرة يدل على أن لها ثلاثة أرباع البر، وهو الحجة على من خالف. وقد زعم المحاسبي في (كتاب الرعاية) له أنه لا خلاف بين العلماء أن للأم ثلاثة أرباع البر وللأب الربع، على مقتضى حديث أبى هريرة رضى الله عنه. والله اعلم. السابعة- لا يختص بر الوالدين بأن يكونا مسلمين، بل إن كانا كافرين يبرهما ويحسن إليهما إذا كان لهما عهد، قال الله تعالى:" لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ «2»". وفى صحيح البخاري عن أسماء قالت: قدمت أمي وهى مشركة في عهد قريش ومدتهم إذ عاهدوا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع أبيها، فاستفتيت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقلت: إن أمي قدمت وهى راغبة «3» أفأصلها؟ قال:" نعم صلى أمك".
__________
(1). كذا في الأصول.
(2). راجع ج 18 ص 58 وج 14 ص 63.
(3). قوله راغبة: أي راغبة في برى وصلتي، أو راغبة عن الإسلام كارهة له.

وروى أيضا عن أسماء قالت: أتتني أمي راغبة في عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسألت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أأصلها؟ قال:" نعم". قال ابن عينية: فأنزل الله عز وجل فيها:" لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ" الأول معلق والثاني مسند. الثامنة- من الإحسان إليهما والبر بهما إذا لم يتعين الجهاد ألا يجاهد إلا بإذنهما. روى الصحيح عن عبد الله بن عمرو قال: جاء رجل إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستأذنه في الجهاد فقال:" أحي والداك"؟ قال نعم. قال:" ففيهما فجاهد". لفظ مسلم. في غير الصحيح قال: نعم، وتركتهما يبكيان. قال:" اذهب فأضحكهما كما أبكيتهما". وفى خبر آخر أنه قال:" نومك مع أبويك على فراشهما يضاحكانك ويلاعبانك أفضل لك من الجهاد معى". ذكره ابن خويز منداد. ولفظ البخاري في كتاب بر الوالدين: أخبرنا أبو نعيم أخبرنا سفيان عن عطاء بن السائب عن أبيه عن عبد الله بن عمرو قال: جاء رجل إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يبايعه على الهجرة، وترك أبويه يبكيان فقال:" ارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما". قال ابن المنذر: في هذا الحديث النهى عن الخروج بغير إذن الأبوين ما لم يقع النفير، فإذا وقع وجب الخروج على الجميع. وذلك بين في حديث أبى قتادة أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث جيش الأمراء ...، فذكر قصة زيد بن حارثة وجعفر بن أبى طالب وابن رواحة وأن منادى وسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نادى بعد ذلك: أن الصلاة جامعة، فاجتمع الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:" أيها الناس، اخرجوا فأمدوا «1» إخوانكم ولا يتخلفن أحد" فخرج الناس مشاة وركبانا في حر شديد. فدل قوله:" اخرجوا فأمدوا إخوانكم" أن العذر في التخلف عن الجهاد إنما هما لم يقع النفير، مع قوله عليه السلام:" فإذا استنفرتم فانفروا". قلت: وفى هذه الأحاديث دليل على أن المفروض أو المندوبات متى اجتمعت قدم الأهم منها. وقد استوفى هذا المعنى المحاسبي في كتاب الرعاية. التاسعة- واختلفوا في الوالدين المشركين هل يخرج بإذنهما إذا كان الجهاد من فروض الكفاية، فكان الثوري يقول: لا يغزو إلا بإذنهما. وقال الشافعي: له أن يغزو
__________
(1). في ج: فأيدرا. [.....]

بغير إذنهما. قال ابن المنذر: والأجداد آباء، والجدات أمهات فلا يغزو المرء إلا بإذنهم، ولا اعلم دلالة توجب ذلك لغيرهم من الاخوة وسائر القرابات. وكان طاوس يرى السعي على الأخوات أفضل من الجهاد في سبيل الله عز وجل. العاشرة- من تمام برهما صلة أهل ودهما، ففي الصحيح عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول:" إن من أبر صلة الرجل أهل ود أبيه بعد أن يولى". وروى أبو أسيد وكان بدريا قال: كنت مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جالسا فجاءه رجل من الأنصار فقال: يا رسول الله، هل بقي من بر والدي من بعد موتهما شي أبرهما به؟ قال:" نعم. الصلاة عليهما والاستغفار لهما وإنفاذ عهدهما بعدهما وإكرام صديقهما وصلة الرحم التي لا رحم لك إلا من قبلهما فهذا الذي بقي عليك". وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يهدى لصدائق خديجة برا بها ووفاء لها وهى زوجته، فما ظنك بالوالدين. الحادية عشرة- قوله تعالى: (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما) خص حالة الكبر لأنها الحالة التي يحتاجان فيها إلى بره لتغير الحال عليهما بالضعف والكبر، فألزم في هذه الحالة من مراعاة أحوالهما أكثر مما ألزمه من قبل، لأنهما في هذه الحالة قد صارا كلا عليه، فيحتاجان أن يلي منهما في الكبر ما كان يحتاج في صغره أن يليا منه، فلذلك خص هذه الحالة بالذكر. وأيضا فطول المكث للمرء يوجب الاستثقال للمرء عادة ويحصل الملل ويكثر الضجر فيظهر غضبه على أبويه وتنتفخ لهما أوداجه، ويستطيل عليهما بدالة البنوة وقلة الديانة، وأقل المكروه ما يظهره بتنفسه المتردد من الضجر. وقد أمر أن يقابلهما بالقول الموصوف بالكرامة، وهو السالم عن كل عيب فقال:" فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً". روى مسلم عن أبى هريرة قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" رغم أنفه رغم أنفه رغم أنفه" قيل: من يا رسول الله؟ قال:" من أدرك والديه عند الكبر أحدهما أو كليهما ثم لم يدخل الجنة". وقال البخاري في كتاب الوالدين: حدثنا مسدد حدثنا بشر بن المفضل حدثنا عبد الرحمن بن إسحاق عن أبى سعيد المقبري عن أبى هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:

" رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل على. رغم أنف رجل أدرك أبويه عند الكبر أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة. ورغم أنف رجل دخل عليه رمضان ثم انسلخ قبل أن يغفر له". حدثنا ابن أبى أويس حدثنا أخى عن سليمان بن بلال عن محمد بى هلال عن سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة السالمى عن أبيه رضى الله عنه قال: إن كعب بن عجرة رضى الله عنه قال قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" أحضروا المنبر" فلما خرج رقى (إلى) المنبر، فرقى في أول درجة منه قال آمين ثم رقى في الثانية فقال آمين ثم لما رقى في الثالثة قال آمين، فلما فرغ ونزل من المنبر قلنا: يا رسول الله، لقد سمعنا منك اليوم شيئا ما كنا نسمعه منك؟ قال:" وسمعتموه"؟ قلنا نعم. قال:" إن جبريل عليه السلام اعترض قال: بعد من أدرك رمضان فلم يغفر له فقلت آمين فلما رقيت في الثانية قال بعد من ذكرت عنده فلم يصل عليك فقلت آمين فلما رقيت في الثالثة قال بعد من أدرك عنده أبواه الكبر أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة قلت آمين". حدثنا أبو نعيم حدثنا سلمة بن وردان سمعت أنسا رضى الله عنه يقول: ارتقى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على المنبر درجة فقال آمين ثم ارتقى درجة فقال آمين ثم ارتقى الدرجة الثالثة فقال آمين، ثم استوى وجلس فقال أصحابه: يا رسول الله، علام أمنت؟ قال:" أتانى جبريل عليه السلام فقال رغم أنف من ذكرت عنده فلم يصل عليك فقلت آمين ورغم أنف من أدرك أبويه أو أحدهما فلم يدخل الجنة فقلت آمين" الحديث. فالسعيد الذي يبادر اغتنام فرصة برهما لئلا تفوته بموتهما فيندم على ذلك. والشقي من عقهما، لا سيما من بلغه الامر ببرهما. الثانية عشرة- قوله تعالى: فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ أي لا تقل لهما ما يكون فيه أدنى تبرم. وعن أبى رجاء العطاردي قال: الاف الكلام القذع الرديء الخفي. وقال مجاهد: معناه إذا رأيت منهما في حال الشيخ الغائط والبول الذي رأياه منك في الصغر فلا تقذرهما وتقول أف. والآية أعم من هذا. والاف والتف وسخ الاظفار. ويقال لكل
ما يضجر ويستثقل: أف له. قال الأزهري: والتف أيضا الشيء الحقير. وقرى" أُفٍّ" منونا

مخفوض، كما تخفض الأصوات وتنون، تقول: صه ومه. وفية عشر لغات: أف، واف، واف، وأفا واف، وأفه، واف لك (بكسر الهمزة)، واف (بضم الهمزة وتسكين الفاء)، وأفا (مخففة الفاء). وفى الحديث:" فألقى طرف ثوبه على أنفه ثم قال أف أف". قال أبو بكر: معناه استقذار لما شم. وقال بعضهم: معنى أف الاحتقار والاستقلال، أخذ من الاف وهو القليل. وقال القتبي: أصله نفخك الشيء يسقط عليك من رماد وتراب وغير ذلك، وللمكان تريد إماطة شي لتقعد فيه، فقيلت هذه الكلمة لكل مستثقل. وقال أبو عمرو بن العلاء: الاف وسخ بين الاظفار، والتف قلامتها. وقال الزجاج: معنى أف النتن. وقال الأصمعي: الاف وسخ الاذن، والتف وسخ الاظفار، فكثر استعماله حتى ذكر في كل ما يتأذى به. وروى من حديث على بن أبى طالب وضي الله عنه قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" لو علم الله من العقوق شيئا أردا من" أف" لذكره فليعمل البار ما شاء أن يعمل فلن يدخل النار. وليعمل العاق ما شاء أن يعمل فلن يدخل الجنة". قال علماؤنا: وإنما صارت قولة" أف" للأبوين أردأ شي لأنه رفضهما رفض كفر النعمة، وجحد التربية ورد الوصية التي أوصاه في التنزيل. و" أف" كلمة مقولة لكل شي مرفوض، ولذلك قال إبراهيم لقومه:" أف لكم ولما تعبدون من دون الله «1»" أي رفض لكم ولهذه الأصنام معكم. الثالثة عشرة- قوله تعالى: وَلا تَنْهَرْهُما النهر: الزجر والغلظة. وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً أي لينا لطيفا، مثل: يا أبتاه ويا أماه، من غير أن يسميهما «2» ويكنيهما، قال عطاء. وقال ابن البداح «3» التجيبي: قلت لسعيد بن المسيب كل ما في القرآن من بر الوالدين قد عرفته إلا قوله:" وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً" ما هذا القول الكريم؟ قال ابن المسيب: قول العبد المذنب السيد الفظ الغليظ. الرابعة عشرة- قوله تعالى: (وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ) هذه استعارة في الشفقة والرحمة بهما والتذلل لهما تذلل الرعية للأمير والعبيد للسادة، كما أشار إليه سعيد بن
__________
(1). راجع ج 11 ص 302.
(2). في ى: ينسبها.
(3). كذا في الأصول. والذي في ابن جرير والدر المنثور" أبو الهداج".

المسيب. وضرب خفض الجناح ونصبه مثلا لجناح الطائر حين ينتصب بجناحه لولده. والذل: هو اللين. وقراءة الجمهور بضم الذال، من ذل يذل ذلا وذلة ومذلة فهو ذال وذليل. وقرا سعيد بن جبير وابن عباس وعروة بن الزبير" الذل" بكسر الذال، ورويت عن عاصم، من قولهم: دابة ذلول بينة الذل. والذل في الدواب المنقاد السهل دون الصعب. فينبغي بحكم هذه الآية أن يجعل الإنسان نفسه مع أبويه في خير ذلة، في أقواله وسكناته ونظره، ولا يحد إليهما بصره فإن تلك هي نظرة الغاضب. الخامسة عشرة- الخطاب في هذه الآية للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمراد به أمته، إذ لم يكن له عليه السلام في ذلك الوقت أبوان. ولم يذكر الذل في قوله تعالى:" وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ «1»" وذكره هنا بحسب عظم الحق وتأكيده. و" مِنَ" في قوله:" مِنَ الرَّحْمَةِ" لبيان الجنس، أي إن هذا الخفض يكون من الرحمة المستكنة في النفس، لا بأن يكون ذلك استعمالا. ويصح أن يكون لانتهاء الغاية، ثم أمر تعالى عباده بالترحم على آبائهم والدعاء لهم، وأن ترحهما كما رحماك وترفق بهما كما رفقا بك، إذ ولياك صغيرا جاهلا محتاجا فآثراك على أنفسهما، وأسهرا ليلهما، وجاعا وأشبعاك، وتعريا وكسواك، فلا تجزيهما إلا أن يبلغا من الكبر الحد الذي كنت فيه من الصغر، فتلا منهما ما وليا منك، ويكون لهما حينئذ فضل التقدم. قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" لا يجزى ولد والدا إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه". وسيأتي في سورة" مريم «2»" الكلام على هذا الحديث. السادسة عشرة- قوله تعالى (كَما رَبَّيانِي) خص التربية بالذكر ليتذكر العبد شفقة الأبوين وتبعهما في التربية، فيزيده ذلك إشفاقا لهما وحنانا عليهما، وهذا كله في الأبوين المؤمنين. وقد نهى القرآن عن الاستغفار للمشركين الأموات ولو كانوا أولى قربى، كما تقدم «3». وذكر عن ابن عباس وقتادة أن هذا كله منسوخ بقوله:" ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ- إلى قوله- أَصْحابُ الْجَحِيمِ" فإذا كان والدا المسلم ذميين استعمل
__________
(1). راجع ج 13 ص 118 فما بعد.
(2). راجع ج 11 ص 159.
(3). ج 8 ص 272.

معهما ما أمره الله به هاهنا، إلا الترحم لهما بعد موتهما على الكفر، لان هذا وحده نسخ بالآية المذكورة. وقيل: ليس هذا موضع نسخ، فهو دعاء بالرحمة الدنيوية للأبوين المشركين ما داما حيين، كما تقدم. أو يكون عموم هذه الآية خص بتلك، لا رحمة الآخرة، لا سيما وقد قيل إن قوله:" وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما" نزلت في سعد بن أبى وقاص، فإنه أسلم، فألقت أمه نفسها في الرمضاء متجردة، فذكر ذلك لسعد فعال: لتمت، فنزلت الآية. وقيل: الآية خاصة في الدعاء للأبوين المسلمين. والصواب أن ذلك عموم كما ذكرنا، وقال ابن عباس قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" من أمسى مرضيا لوالديه وأصبح أمسى وأصبح وله بابان مفتوحان من الجنة وإن واحدا فواحدا. ومن أمسى وأصبح مسخطا لوالديه أمسى وأصبح وله بابان مفتوحان إلى النار وإن واحدا فواحدا" فقال رجل: يا رسول الله، وإن ظلماه؟ قال:" وإن ظلماه وإن ظلماه وإن ظلماه". وقد روينا بالإسناد المتصل عن جابر بن عبد الله رضى الله تعالى عنه قال: جاء رجل إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله، إن أبى أخذ مالى. فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للرجل:" فأتني بأبيك" فنزل جبريل عليه السلام على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال:" إن الله عز وجل يقرئك السلام ويقول لك إذا جاءك الشيخ فاسأله عن شي قاله في نفسه ما سمعته أذناه" فلما جاء الشيخ قال له النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" ما بال ابنك يشكوك أتريد أن تأخذ ماله"؟ فقال: سله يا رسول الله، هل أنفقه إلا على إحدى عماته أو خالاته أو على نفسي! فقال له وسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" إيه «1»، دعنا من هذا أخبرني عن شي قلته في نفسك ما سمعته أذناك"؟ فقال الشيخ: والله يا رسول الله، ما زال الله عز وجل يزيدنا بك يقينا، لقد قلت في نفسي شيئا ما سمعته أذناي. قال:" قل وأنا أسمع" قال قلت:
__________
(1). إيه (بكسر الهاء): كلمة استزادة واستنطاق. وإذا قلت" إيها" بالنصب والتنوين فإنما تأمره بالسكوت. وقال ابن سيده:" وإيه (بالكسر) كلمة زجر بمعنى حسبك، وتنون فيقال إيها". وحكى عن الليث:" ايه وايه في الاستزادة والاستنطاق. وإيه وإيها في الزجر، كقولك: أيه حسبك، وإيها حسبك".

رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25)

غذوتك «1» مولودا ومنتك «2» يافعا ... تعل بما أجنى عليك وتنهل
إذا ليلة ضافتك «3» بالسقم لم أبت ... لسقمك إلا ساهرا أتململ
كأني أنا المطروق دونك بالذي ... طرقت به دوني فعيني تهمل
تخاف الردى نفسي عليك وإنها ... لتعلم أن الموت وقت مؤجل
فلما بلغت السن والغاية التي ... إليها مدى ما كنت فيك أؤمل
جعلت جزائي غلظة وفظاظة ... كأنك أنت المنعم المتفضل
فليتك إذ لم ترع حق أبوتى ... فعلت كما الجار المصاقب يفعل
فأوليتني حق الجوار ولم تكن ... علي بمال دون مالك تبخل
قال: فحينئذ أخذ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بتلابيب ابنه وقال:" أنت ومالك لأبيك". قال الطبراني: اللخمي لا يروى- يعنى هذا الحديث- عن ابن المنكدر بهذا التمام والشعر إلا بهذا الاسناد، وتفرد به عبيد الله بن خلصه. والله اعلم.

[سورة الإسراء (17): آية 25]
رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً (25)
قوله تعالى: (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ) أي من اعتقاد الرحمة بهما والحنو عليهما، أو من غير ذلك من العقوق، أو من جعل ظاهر برهما رياء. وقال ابن جبير: يريد البادرة التي تبدر، كالفلتة والزلة، تكون من الرجل إلى أبويه أو أحدهما، لا يريد بذلك بأسا، قال الله تعالى: (إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ) أي صادقين في نية البر بالوالدين فإن الله يغفر البادرة. وقوله: (فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً) وعد بالغفران مع شرط الصلاح والأوبة
__________
(1). نسبت هذه الأبيات في أشعار الحماسة لامية بن أبى الصلت. قال التبريزي:" وتروى لابن الأعلى. وقيل: لابي العباس الأعمى"
(2). وفى الأصول:" وصنتك". وفى أشعار الحماسة:" وعلتك" أي قمت بمؤونتك. و" يافعا" شابا. و" تعل" منعلة يعله، سقاه ثانية. و" أجنى" أكسب. و. تنهل" من أنه له، سقاه أول سقية.
(3). في الحماسة:
إذ الليلة نابتك بالشكو لم أبت ... لشكواك .........
إلخ

وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27)

إلى طاعة الله سبحانه وتعالى. قال سعيد بن المسيب: هو العبد يتوب ثم يذنب ثم يتوب ثم يذنب. وقال ابن عباس رضى الله عنه: الأواب: الحفيظ الذي إذا ذكر خطاياه استغفر منها. وقال عبيد بن عمير: هم الذين يذكرون ذنوبهم في الخلاء «1» ثم يستغفرون الله عز وجل. وهذه الأقوال متقاربة. وقال عون العقيلي: الأوابون هم الذين يصلون صلاة الضحا. وفى الصحيح:" صلاة الأوابين حين ترمض الفصال «2»". وحقيقة اللفظ (أنه «3» من آب يؤوب إذا رجع.

[سورة الإسراء (17): الآيات 26 الى 27]
وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً (27)
فيه ثلاث مسائل الاولى- قوله تعالى:) وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ) أي كما راعيت حق الوالدين فصل الرحم، ثم تصدق على المسكين وابن السبيل. وقال عبن الحسين في قوله تعالى:" وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ": هم قرابة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أمر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإعطائهم حقوقهم من بيت المال، أي من سهم ذوى القربى من الغزو والغنيمة، ويكون خطابا للولاة أو من قام مقامهم. والحق في هذه الآية ما يتعين من صلة الرحم، وسد الخلة، والمواساة عند الحاجة بالمال، والمعونة بكل وجه. الثانية- قوله تعالى: (وَلا تُبَذِّرْ) أي لا تسرف في الإنفاق في غير حق. قال الشافعي رضى الله عنه: والتبذير إنفاق المال في غير حقه، ولا تبذير في عمل الخير. وهذا قول الجمهور. وقال أشهب عن مالك: التبذير هو أخذ المال من حقه ووضعه في غير حقه، وهو الإسراف، وهو حرام لقوله تعالى:" إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ" وقوله:
__________
(1). الخلاء: الخلوة.
(2). هي أن تحمى الرمضاء، وهى الرمل، فتبرك الفصال من شدة حرها وإخراقها أخفافها.
(3). من ج.

وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (28)

" إِخْوانَ" يعنى أنهم في حكمهم، إذ المبذر ساع في إفساد كالشياطين، أو أنهم يفعلون ما تسول لهم أنفسهم، أو أنهم يقرنون بهم غدا في النار، ثلاثة أقوال. والاخوان هنا جمع أخ من غير النسب، ومنه قوله تعالى:" إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ «1» إِخْوَةٌ". وقوله تعالى: (وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً) أي احذروا متابعة والتشبه به في الفساد. والشيطان اسم الجنس. وقرا الضحاك" إخوان الشيطان" على الانفراد، وكذلك ثبت في مصحف أنس بن مالك رضى الله عنه. الثالثة- من أنفق ماله في الشهوات زائدة على قدر الحاجات وعرضه بذلك للنفاد فهو مبذر. ومن أنفق ربح ماله في شهواته وحفظ الأصل أو الرقبه فليس بمبذر. ومن أنفق درهما في حرام فهو مبذر، ويحجر عليه في نفقته الدرهم في الحرام، ولا يحجر عليه إن بذله في الشهوات إلا إذا خيف عليه النفاد.

[سورة الإسراء (17): آية 28]
وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً (28)
فيه ثلاث مسائل: الاولى- وهو أنه سبحانه وتعالى خص نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله: (وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها). وهو تأديب عجيب وقول لطيف بديع، أي لا تعرض عنهم إعراض مستهين عن ظهر الغنى والقدرة فتحرمهم «2». وإنما يجوز أن تعرض عنهم عند عجز يعرض وعائق يعوق، وأنت عند ذلك ترجو من الله سبحانه وتعالى فتح باب الخير لتتوصل به إلى مواساة السائل، فإن قعد بك الحال" فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً". الثانية- في سبب نزولها، قال ابن زيد: نزلت الآية في قوم كانوا يسألون رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيأبى أن يعطيهم، لأنه كان يعلم منهم نفقة المال في فساد،
__________
(1). راجع ج 16 ص 322. [.....]
(2). في ى: والفرار من فتنتهم. ولا يبدو له معنى.

وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29)

فكان يعرض عنهم رغبة في الأجر في منعهم لئلا يعينهم على فسادهم. وقال عطاء الخراساني في قوله تعالى" وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها" قال: ليس هذا في ذكر الوالدين، جاء ناس من مزينة إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستحملونه، فقال:" لا أجد ما أحملكم عليه" فتولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا، فأنزل الله تعالى:" وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها". والرحمة الفيء «1». الثالثة- قوله تعالى: (فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً) أمره بالدعاء لهم، أي يسر فقرهم عليهم بدعائك لهم. وقيل: ادع لهم دعاء يتضمن الفتح لهم والإصلاح. وقيل: المعنى" وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ" أي إن أعرضت يا محمد عن إعطائهم لضيق يد فقل لهم قولا ميسورا، أي أحسن القول وأبسط العذر، وادع لهم بسعة الرزق، وقل إذا وجدت فعلت وأكرمت، فإن ذلك يعمل في مسرة نفسه عمل المواساة. وكان عليه الصلاة والسلام إذا سئل وليس عنده ما يعطى سكت انتظارا لرزق يأتي من الله سبحانه وتعالى كراهة الرد، فنزلت هذه الآية، فكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا سئل وليس عنده ما يعطى قال:" يرزقنا الله وإياكم من فضله". فالرحمة على هذا التأويل الرزق المنتظر. وهذا قول ابن عباس ومجاهد وعكرمة. و" قَوْلًا مَيْسُوراً" أي لينا لطيفا طيبا، مفعول بمعنى الفاعل، من لفظ اليسر كالميمون، أي وعدا جميلا، على ما بيناه. ولقد أحسن من قال:
إلا تكن ورق يوما أجود بها ... للسائلين فإنى لين العود
لا يعدم السائلون الخير من خلقي ... إما نوالي وإما حسن مردودي
تقول: يسرت لك كذا إذا أعددته.

[سورة الإسراء (17): آية 29]
وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً (29)
__________
(1). في ج في هـ: الغنى.

فيه أربع مسائل: الاولى- قوله تعالى: (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ) هذا مجاز عبر به عن البخيل الذي لا يقدر من قلبه على إخراج شي من ماله، فضرب له مثل الغل الذي يمنع من التصرف باليد. وفى صحيح البخاري ومسلم عن أبى هريرة رضى الله عنه قال: ضرب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مثل البخيل والمتصدق كمثل رجلين عليهما جبتان من حديه قد اضطرت أيديهما إلى ثديهما وتراقيهما فجعل المتصدق كلما تصدق بصدقة انبسطت «1» عنه حتى تغشى أنامله وتعفو أثره «2» وجعل البخيل كلما هم بصدقة قلصت «3» وأخذت كل حلقة بمكانها. قال أبو هريرة رضى الله عنه: فأنا رأيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «4» يقول بإصبعيه هكذا في جيبه فلو «5» رأيته يوسعها ولا تتوسع «6». الثانية- قوله تعالى: (وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ) ضرب بسط اليد مثلا لذهاب المال، فإن قبض الكف يحبس ما فيها، وبسطها يذهب ما فيها. وهذا كله خطاب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمراد أمته، وكثيرا ما جاء في القرآن، فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما كان سيدهم وواسطتهم إلى ربهم عبر به عنهم على عادة العرب في ذلك. وأيضا فإنه عليه الصلاة والسلام لم يكن يدخر شيئا لغد، وكان يجوع حتى يشد الحجر على بطنه من الجوع. وكان كثير من الصحابة ينفقون في سبيل الله جميع أموالهم، فلم يعنفهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم ينكر عليهم لصحة يقينهم وشدة بصائرهم. وإنما نهى الله سبحانه وتعالى عن الافراط في الإنفاق، وإخراج ما حوته يده من المال من خيف عليه الحسرة على ما خرج من يده، فأما من وثق بموعود الله عز وجل وجزيل ثوابه فيما أنفقه فغير مراد بالآية، والله اعلم. وقيل: إن هذا الخطاب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في خاصة نفسه، علمه فيه كيفية الإنفاق، وأمره بالاقتصاد. قال جابر وابن مسعود: جاء غلام إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: إن أمي
__________
(1). أي انتشرت عنه الجبة.
(2). أي أثر مشية لسبوغها.
(3). أي انضمنت وارتفعت.
(4). العرب تجعل القول عبارة عن جميع الافعال وتطلقه على غير الكلام واللسان، فتقول: قال بيده، أي أخذ. وقال برجله، أي مشى. وكل ذيك على المجاز والاتساع.
(5). في ج وهـ: وتقد رأيته.
(6). جواب لو محذوف، أي لتعجبت.

إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (30)

تسألك كذا وكذا. فقال:" ما عندنا اليوم شي". قال: فتقول لك اكسني قميصك، فخلع قميصه فدفعه إليه وجلس في البيت عريانا. وفى رواية جابر: فأذن بلال للصلاة وانتظر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخرج، واشتغلت القلوب، فدخل بعضهم فإذا هو عار، فنزلت هذه الآية. وكل هذا في إنفاق الخير. وأما إنفاق الفساد فقليله وكثيره حرام، كما تقدم. الثالثة- نهت هذه الآية عن استفراغ الوجد «1» فيما يطرأ أولا من سؤال المؤمنين، لئلا يبقى من يأتي بعد ذلك لا شي له، أو لئلا يضيع المنفق عياله. ونحوه من كلام الحكمة: ما رأيت قط سرفا إلا ومعه حق مضيع. وهذه من آيات فقه الحال فلا يبين حكمها إلا باعتبار شخص شخص من الناس. الرابعة- قوله تعالى: (فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً) قال ابن عرفة: يقول لا تسرف ولا تتلف مالك فتبقى محسورا منقطعا عن النفقة والتصرف، كما يكون البعير الحسير، وهو الذي ذهبت قوته فلا انبعاث به، ومنه قوله تعالى:" يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ «2»" أي كليل منقطع. وقال قتادة: أي نادما على ما سلف منك، فجعله من الحسرة، وفية بعد، لان الفاعل من الحسرة حسر وحسران ولا يقال محسور. والملوم: الذي يلام على إتلاف ماله، أو يلومه من لا يعطيه.

[سورة الإسراء (17): آية 30]
إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (30)
«3»
__________
(1). الوجد (مثلثة الواو): اليسار والسعة.
(2). راجع ج 18 ص 209.
(3). هذا الآية لم يتكلم عليها المؤلف ولم تذكر في النسخ التي بين أيدينا ولعله تكلم عليها وحصل سقط من النساخ. وعبارة ابن جرير الطبري في كلامه على الآية كما وردت في تفسيره:" يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إن ربك يا محمد يبسط الرزقه لمن يشاء من عباده فيوسع عليه. ويقدر على من يشاء.، ويقول: ويقتر على من يشاء منهم فيضيق عليه:" إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً" يقول: إن ربك ذو خبرة بعباده، ومن الذي تصلحه السعة في الرزق وتفسده، ومن الذي يصلحه الإقتار والضيق ويهلكه." بَصِيراً" يقول هو ذو بصر بتدبيرهم وسياستهم. ويقول: فانه يا محمد إلى أمرنا فيما أمرناك ونهيناك من بسط يدك فيما تبسطها فيه وفيمن تبسطها له، ومن كفها عمن تكفها عنه وتكفيها فيه، فنحن أعلم بصالح العباد منك ومن جميع الخلق وأبصر بتدبيرهم".

وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31)

[سورة الإسراء (17): آية 31]
وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً (31)
فيه مسألتان: الاولى- قد مضى الكلام في هذه الآية في الانعام، والحمد لله «1». والإملاق: الفقر وعدم الملك. أملق الرجل أي لم يبق له إلا الملقات، وهى الحجارة العظام الملس. قال الهذلي يصف صائدا:
أتيح لها أقيدر ذو حشيف ... إذا سامت على الملقات ساما
الواحدة ملقه. والأقيدر تصغير الأقدر، وهو الرجل القصير. والحشيف من الثياب: الخلق. وسامت مرت. وقال شمر: أملق لازم ومتعد، أملق إذا افتقر، وأملق الدهر ما بيده. قال أوس:
وأملق ما عندي خطوب تنبل «2»

الثانية- قوله تعالى: (خِطْأً)" خِطْأً" قراءة الجمهور بكسر الخاء وسكون الطاء وبالهمزة والقصر. وقرا ابن عامر" خطأ" بفتح الخاء والطاء والهمزة مقصورة، وهى قراءة أبى جعفر يزيد. وهاتان قراءتان مأخوذتان من" خطئ" إذا أتى الذنب على عمد. قال ابن عرفة: يقال خطئ في ذنبه خطأ إذا أثم فيه، وأخطأ إذا سلك سبيل خطأ عامدا أو غير عامد. قال: ويقال خطئ في معنى أخطأ. وقال الأزهري: يقال خطئ يخطأ خطئا إذا تعمد الخطأ، مثل أثم يأثم إثما. وأخطأ إذا لم يتعمد إخطاء وخطأ. قال الشاعر:
دعيني إنما خطئي وصوبي ... على وإن ما أهلكت مال «3»
__________
(1). راجع ج 7 ص 30.
(2). صدر البيت:
لما رأيت العدم قيد نائلي

(3). في الأصول:" وإن ما أهلكت مالى". والتصويب عن كتاب الشعر والشعراء لابن قتيبة وطبقات الشعراء لابن سلام في ترجمة أوس بن غلفاء، ولسان العرب في مادة" صوب". وقيل هذا البيت:
ألا قالت أمامة يوم غول ... تقطع يا ابن غلفاء الحبال
يقول: وإن الذي أهلكت إنما هو مال، والمال يستخف ولم أتلف عرضا. وغول، وكان كان فيه وقعة للعرب لضبة على بنى كلاب. (راجع معجم ياقوت). [.....]

وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32)

والخطأ الاسم يقوم مقام الإخطاء، وهو ضد الصواب. وفية لغتان: القصر وهو الجيد، والمد وهو قليل، وروى عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما" خطأ" بفتح الخاء وسكون الطاء وهمزة. وقرا ابن كثير بكسر الخاء وفتح الطاء ومد الهمزة. قال النحاس: ولا أعرف لهذه القراءة وجها، ولذلك جعلها أبو حاتم غلطا. قال أبو على: هي مصدر من خاطأ يخاطئ، وإن كنا لا نجد خاطأ، ولكن وجدنا تخاطأ، وهو مطاوع خاطأ، فدلنا عليه، ومنه قول الشاعر:
تخاطأت النبل أحشاءه ... وأخّر «1» يومى فلم أعجل
وقول الآخر في وصف مهاة:
تخاطأه القناص حتى وجدته ... وخرطومه في منقع الماء راسب
الجوهري: تخاطأه أي أخطأه، وقال أوفى بن مطر المازني:
ألا أبلغا خلتي جابرا ... بأن خليلك لم يقتل
تخاطأت النبل أحشاءه ... وأخّر «2» يومى فلم يعجل
وقرا الحسن" خطاء" بفتح الخاء والطاء والمد في الهمزة. قال أبو حاتم: لا يعرف هذا في اللغة وهى غلط غير جائز. وقال أبو الفتح: الخطأ من أخطأت بمنزلة العطاء من أعطيت، هو اسم بمعنى المصدر، وعن الحسن أيضا" خطى" بفتح الخاء والطاء منونة من غير همزة.

[سورة الإسراء (17): آية 32]
وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً (32)
فيه مسألة واحدة: قال العلماء: قوله تعالى (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى ) أبلغ من أن يقول: ولا تزنوا، فإن معناه لا تدنوا من الزنى. والزنى يمد ويقصر، لغتان. قال الشاعر:
كانت فريضة ما تقول كما ... كان الزناء فريضة الرجم
و(سَبِيلًا) نصب على التمييز، التقدير: وساء سبيله سبيلا. أي لأنه يؤدى إلى النار. والزنى من الكبائر، ولا خلاف فيه وفى قبحه لا سيما بحليلة الجار. وينشأ عنه استخدام ولد الغير
__________
(1). أخر: بعني يتأخر، ويجوز" أخر" بضم الهمزة وشد الخاء مع الكسر.
(2). أخر: بعني يتأخر، ويجوز" أخر" بضم الهمزة وشد الخاء مع الكسر.

وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33)

واتخاذه ابنا وغير ذلك من الميراث وفساد الأنساب باختلاط المياه. وفى الصحيح أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أتى «1» بامرأة مجح على باب فسطاط فقال:" لعله يريد أن يلم بها" فقالوا: نعم. فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" لقد هممت أن ألعنه لعنا يدخل معه قبره كيف يورثه وهو لا يحل له كيف يستخدمونه وهو لا يحل له".

[سورة الإسراء (17): آية 33]
وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً (33)
قوله تعالى: (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ) قد مضى الكلام فيه في الانعام «2». قوله تعالى: (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً). فيه ثلاث مسائل: الاولى- قوله تعالى: (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً) أي بغير سبب يوجب القتل. (فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ) أي لمستحق دمه .. قال خويز: الولي يجب أن يكون ذكرا، لأنه أفرده بالولاية بلفظ التذكير. وذكر إسماعيل بن إسحاق في قوله تعالى:" فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ" ما يدل على خروج المرأة عن مطلق لفظ الولي، فلا جرم، ليس للنساء حق في القصاص لذلك ولا أثر
__________
(1). قوله:" اتى بامرأة" أي مر عليها في بعض أسفاره. و" المجح" (بميم مضمومة وجيم مكسورة وحاء مهملة) صفة لامرأة، وهى الحامل التي قربت ولادتها. وقوله: وقال لعله ... إلخ فيه حذف تقديره: فسأل عنها فقالوا أمة فلان، أي مسبيته. ومعنى" يلم بها": أي يطئوها، وكانت حاملا مسبية، لا يحل جماعها حتى تضع. وقوله" كيف يورثه ... إلخ" معناه .. أنه قد تتأخر ولادتها ستة أشهر، بحيث يحتمل كون الولد من هذا السابي، ويحتمل أنه كان ممن قبله، فعلى تقدير كونه من السابي يكون ولدا له ويتوارثان. وعلى تقدير كونه من غير السابي لا يتوارثان هو ولا السابي لعدم القرابة، بل له استخدامه لأنه مملوكه. فتقدير الحديث .. أنه قد يستلحقه ويجعله أبنا له ويورثه معه أنه لا يحل له توريثه لكونه ليس منه، ولا يحل توريثه ومزاحمته لباقي الورثة. وقد يستخدمه استخدام العبيد ويجعله عبدا يتملكه، ومع أنه لا يحل له ذلك لكونه منه إذا وضعته لمدة محتملة كونه مع كل واحد منهما، فيجب عليه الامتناع منه وطئها خوفا من هذا المحضور. (راجع شرح النووي على صحيح مسلم، كتاب النكاح باب تحريم وطأ الحامل المسبية).
(2). راجع ج 7 ص 130.

وليس لها الاستيفاء. وقال المخالف: إن المراد ها هنا بالولي الوارث، وقد قال تعالى:" وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ «1»"، وقال:" وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ
«2» مِنْ شَيْءٍ"، وقال:" وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ" فاقتضى ذلك إثبات القود لسائر الورثة، وأما ما ذكروه من أن الولي في ظاهره على التذكير وهو واحد، كأن ما كان بمعنى الجنس يستوي المذكر والمؤنث فيه، وتتمته في كتب الخلاف. (سُلْطاناً) أي تسليطا إن شاء قتل وإن شاء عفا، وإن شاء أخذ الدية، قاله ابن عباس رضى الله تعالى عنهما والضحاك وأشهب والشافعي. وقال ابن وهب قال مالك: السلطان أمر الله. ابن عباس: السلطان الحجة. وقيل: السلطان طلبه حتى يدفع إليه. قال ابن العربي: وهذه الأقوال متقاربة، وأوضحها «3» قول مالك: إنه أمر الله. ثم إن أمر الله عز وجل لم يقع نصا فاختلف العلماء فيه، فقال ابن القاسم عن مالك وأبى حنيفة: القتل خاصة. وقال أشهب: الخيرة، كما ذكرنا آنفا، وبه قال الشافعي. وقد مضى في سورة" البقرة «4»" هذا المعنى. الثانية- قوله تعالى: (فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ) فيه ثلاثة أقوال: لا يقتل غير قاتله، قاله الحسن والضحاك ومجاهد وصعيد بن جبير. الثاني: لا يقتل بدل وليه اثنين كما كانت العرب تفعله. الثالث: لا يمثل بالقاتل، قاله طلق بن حبيب، وكله مراد لأنه إسراف منهى عنه. وقد مضى في" البقرة «5»" القول في هذا مستوفى. وقرا الجمهور" يُسْرِفْ" بالياء، يريد الولي، وقرا ابن عامر وحمزة والكسائي" تسرف" بالتاء من فوق، وهى قراءة حذيفة. وروى العلاء بن عبد الكريم عن مجاهد قال: هو للقاتل الأول، والمعنى عندنا فلا تسرف أيها القاتل. وقال الطبري: هو على معنى الخطاب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والأئمة من بعده. أي لا تقتلوا غير القاتل. وفى حرف أبى" فلا تسرفوا في القتل".
__________
(1). راجع ج 8 ص 202 وص 55 وص 58.
(2). راجع ج 8 ص 202 وص 55 وص 58.
(3). في ج: أظهرها.
(4). راجع ج 2 ص 244 فما بعد.
(5). راجع ج 2 ص 244 فما بعد.

وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34)

الثالثة- قوله تعالى: (إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً) أي معانا، يعنى الولي. فإن قيل: وكم من ولى مخذول لا يصل إلى حقه. قلنا: المعونة تكون بظهور الحجة تارة وباستيفائها أخرى، وبمجموعهما ثالثة، فأيها كان فهو نصر من الله سبحانه وتعالى. وروى ابن كثير عن مجاهد قال: إن المقتول كان منصورا. النحاس: ومعنى قوله إن الله نصره بوليه. وروى أنه في قراءة أبى" فلا تسرفوا في القتل إن ولى المقتول كان منصورا". قال النحاس: إلا بين بالياء ويكون للولي، لأنه إنما يقال: لا يسرف إن كان له أن يقتل، فهذا للولي. وقد يجوز بالتاء ويكون للولي أيضا، إلا أنه يحتاج فيه إلى تحويل المخاطبة. قال الضحاك: هذا أول ما نزل من القرآن في شأن القتل. وهى مكية «1».

[سورة الإسراء (17): آية 34]
وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً (34)
فيه مسألتان: الاولى- قوله تعالى: (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ) قد مضى الكلام فيه في الانعام «2». الثانية- قوله تعالى: (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ) قد مضى الكلام فيه في غير موضع «3». قال قال الزجاج: كل ما أمر الله به ونهى عنه فهو من العهد. (إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا) عنه، فحذف، كقوله:" وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ «4»" به وقيل: إن العهد يسأل تبكيتا لناقضه فيقال: لم نقضت؟ كما تسأل الموءودة تبكيتا لوائدها «5».

[سورة الإسراء (17): آية 35]
وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (35)
__________
(1). المروي عن الحسن أنها مدينة كما في الالومى. وهو المتبادر لأنها عن الأحكام.
(2). راجع ج 7 ص 130.
(3). راجع ج 1 ص 332.
(4). راجع ج 18 ص 196.
(5). راجع ج 19 ص 230 فما بعد. [.....]

وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)

فيه مسألتان: الاولى- قوله تعالى: (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ) تقدم الكلام فيه أيضا في الانعام «1». وتقتضي هذه الآية أن الكيل على البائع، وقد مضى في سورة" يوسف" فلا معنى للإعادة «2». والقسطاس (بضم القاف وكسرها): الميزان بلغة الروم، قاله ابن عزيز. وقال الزجاج: القسطاس: الميزان صغيرا كان أو كبيرا. وقال مجاهد: القسطاس العدل، وكان يقول: هي لغة رومية، وكان الناس قيل لهم: زنوا بمعدلة في وزنكم «3». وقرا ابن كثير وأبو عمرو ونافع وابن عامر وعاصم في رواية أبى بكر" القسطاس" بضم القاف. وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم (بِالْقِسْطاسِ) «4» (بكسر القاف) وهما لغتان. الثانية- قوله تعالى: (ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا)
أي وفاء الكيل وإقامة الوزن خير عند ربك «5» وأبرك. (وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) أي عاقبة. قال الحسن: ذكر لنا أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:" لا يقدر رجل على حرام ثم يدعه ليس لديه إلا مخافة الله تعالى إلا أبدله الله في عاجل الدنيا قبل الآخرة ما هو خير له من ذلك".

[سورة الإسراء (17): آية 36]
وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً (36)
فيه ست مسائل: الاولى- قوله تعالى: (وَلا تَقْفُ) أي لا تتبع ما لا تعلم ولا يعنيك. قال قتادة: لا تقل رأيت وأنت لم تر، وسمعت وأنت لم تسمع، وعلمت وأنت لم تعلم، وقاله ابن عباس رضى الله عنهما. قال مجاهد: لا تذم أحدا بما ليس لك به علم، وقاله ابن عباس رضى الله عنهما أيضا. وقال محمد ابن الحنفية: هي شهادة الزور. وقال القتبي: المعنى لا تتبع الحدس
__________
(1). راجع ج 7 ص 130.
(2). راجع ج 9 ص 254.
(3). في أوخ ووو ى: بمعدلة وفى بمعدلة.
(4). في ج: عند الله.
(5). في ج: عند الله.

والظنون، وكلها متقاربة. واصل القفو البهت والقذف بالباطل، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام:" نحن بنو النضر ابن كنانة لا نقفو أمنا ولا ننتفي من أبينا" أي لا نسب أمنا. وقال الكميت:
فلا أرمي البريء بغير ذنب ... ولا أقفو الحواصن إن قفينا
يقال: قفوته أقفوه، وقفته أقوفه، وقفيته إذا اتبعت أثره. ومنه القافة لتتبعهم الآثار وقافية كل شي آخره، ومنه قافية الشعر، لأنها تقفو البيت. ومنه اسم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المقفى، لأنه جاء آخر الأنبياء. ومنه القائد، وهو الذي يتبع أثر الشبه. يقال: قاف القائف يقوف إذا فعل ذلك. وتقول: فقوت للأثر، بتقديم الفاء على القاف. ابن عطية: ويشبه أن يكون هذا من تلعب العرب في بعض الألفاظ، كما قالوا: رعملى في لعمري. وحكى الطبري عن فرقة أنها قالت: قفا وقاف، مثل عتا وعات. وذهب منذر بن سعيد إلى أن قفا وقاف مثل جبذ وجذب. وبالجملة فهذه الآية تنهى عن قول الزور والقذف، وما أشبه ذلك من الأقوال الكاذبة والرديئة. وقرا بعض الناس فيما حكى الكسائي" تقف" بضم القاف وسكون الفاء. وقرا الجراح" والفاد «1»" بفتح الفاء، وهى لغة لبعض الناس، وأنكرها أبو حاتم وغيره. الثانية- قال ابن خويز منداد: تضمنت هذه الآية الحكم بالقافة، لأنه لما قال:" وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ" دل على جواز ما لنا به علم، فكل ما علمه الإنسان أو غلب على ظنه جاز أن يحكم به، وبهذا احتججنا على إثبات القرعة والخرص، لأنه ضرب من غلبة الظن، وقد يسمى علما اتساعا. فالقائف يلحق الولد بأبيه من طريق الشبه بينهما كما يلحق الفقيه الفرع بالأصل من طريق الشبه. وفى الصحيح عن عائشة: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دخل على مسرورا تبرق أسارير وجهه فقال:" ألم ترى أن مجززا نظر إلى زيد بن حارثة وأسامة بن زيد عليهما قطيفة قد غطيا رءوسهما وبدت أقدامهما فقال إن بعض هذه الاقدام لمن بعض". وفى حديث يونس بن يزيد:" وكان مجزز قائفا".
__________
(1). في الشواذ: الفؤاد بفتح الفاء والواو. والجراح قاضى البصرة.

الثالثة- قال الامام أبو عبد الله المازري: كانت الجاهلية تقدح في نسب أسامة لكونه أسود شديد السواد، وكان زيد أبوه أبيض القطن، هكذا ذكره أبو داود عن أحمد بن صالح. قال القاضي عياض: وقال غير أحمد كان زيد أزهر اللون، وكان أسامة شديد الأدمة، وزيد بن حارثة عربي صريح من كلب، أصابه سباء، حسبما يأتي في سورة" الأحزاب «1»" إن شاء الله تعالى. الرابعة- استدل جمهور العلماء على الرجوع إلى القافة عند التنازع في الولد، بسرور النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقول هذا القائف، وما كان عليه السلام بالذي يسر بالباطل ولا يعجبه. ولم يأخذ بذلك أبو حنيفة وإسحاق والثوري وأصحابهم متمسكين بإلغاء النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشبه في حديث اللعان، على ما يأتي في سورة" النور «2»" إن شاء الله تعالى. الخامسة- واختلف الآخذون بأقوال القافة، هل يؤخذ بذلك في أولاد الحرائر والإماء أو يختص بأولاد الإماء، على قولين، فالأول: قول الشافعي ومالك رضى الله عنهما في رواية ابن وهب عنه، ومشهور مذهبه قصره على ولد الامة. والصحيح ما رواه ابن وهب عنه وقال الشافعي رضى الله عنه، لان الحديث الذي هو الأصل في الباب إنما وقع في الحرائر، فإن أسامة وأباه حران فكيف يلغى السبب الذي خرج عليه دليل الحكم وهو الباعث عليه، هذا مما لا يجوز عند الأصوليين. وكذلك اختلف هؤلاء، هل يكتفى بقول واحد من القافة أو لا بد من اثنين لأنها شهادة، وبالأول قال ابن القاسم وهو ظاهر الخبر بل نصه. وبالثاني قال مالك والشافعي رضى الله عنهما. السادسة- قوله تعالى: (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا) أي يسأل كل واحد منهم عما اكتسب، فالفؤاد يسأل عما افتكر فيه واعتقده، والسمع والبصر عما رأس من ذلك وسمع. وقيل: المعنى أن الله سبحانه وتعالى يسأل الإنسان عما حواه سمعه وبصره وفؤاده، ونظيره قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته"
__________
(1). راجع ج 14 ص 118.
(2). راجع ج 12 ص 191.

وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37) كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38)

فالإنسان راع على جوارحه، فكأنه قال كل هذه كان الإنسان عنه مسئولا، فهو على حذف مضاف. والمعنى الأول أبلغ في الحجة، فإنه يقع تكذيبه من جوارحه، وتلك غاية الخزي، كما قال:" الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ «1»"، وقوله" شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ «2»". وعبر عن السمع والبصر والفؤاد بأولئك لأنها حواس لها إدراك، وجعلها في هذه الآية مسئولة، فهي حالة من يعقل، فلذلك عبر عنها بأولئك. وقال سيبويه رحمه الله في قوله تعالى:" رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ": إنما قال:" رَأَيْتُهُمْ" في نجوم، لأنه لما وصفها بالسجود وهو من فعل من يعقل عبر عنها بكناية من يعقل، وقد تقدم «3». وحكى الزجاج أن العرب تعبر عما يعقل وعما لا يعقل بأولئك، وأنشد هو والطبري:
ذم المنازل بعد منزلة اللوى ... والعيش بعد أولئك الأيام
وهذا أمر يوقف عنده. وأما البيت فالرواية فيه" الأقوام" والله اعلم.

[سورة الإسراء (17): الآيات 37 الى 38]
وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً (37) كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً (38)
فيه خمس مسائل: الاولى- قوله تعالى: (وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً) هذا نهى عن الخيلاء وأمر بالتواضع. والمرح: شدة الفرح. وقيل: التكبر في المشي. وقيل: تجاوز الإنسان قدره. وقال قتادة: هو الخيلاء في المشي. وقيل: هو البطر والأشر. وقيل: هو النشاط وهذه الأقوال متقاربة ولكنها منقسمة قسمين: أحدهما مذموم والآخر محمود، فالتكبر والبطر والخيلاء وتجاوز الإنسان قدره مذموم والفرح والنشاط محمود. وقد وصف الله تعالى نفسه بأحدهما، ففي الحديث الصحيح" لله أفرج بتوبة العبد من رجل ..." الحديث. والكسل
__________
(1). راجع ج 15 ص 48، وص 349.
(2). راجع ج 15 ص 48، وص 349.
(3). راجع ج 9 ص 122.

مذموم شرعا والنشاط ضده. وقد يكون التكبر وما في معناه محمودا، وذلك على أعداء الله والظلمة. أسند أبو حاتم بن حبان عن ابن جابر بن عتيك عن أبيه عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال:" من الغيرة ما يبغض الله عز وجل ومنها ما يحب الله عز وجل ومن الخيلاء ما يحب الله عز وجل ومنها ما يبغض الله فأما الغيرة التي يحب الله الغيرة في الدين والغيرة التي يبغض الله الغيرة في غير دينه والخيلاء التي يحب الله اختيال الرجل بنفسه عند القتال وعند الصدقة والاختيال الذي يبغض الله الخيلاء في الباطل" وأخرجه أبو داود في مصنفه وغيره. وأنشدوا:
ولا تمش فوق الأرض إلا تواضعا ... فكم تحتها قوم هموا منك أرفع
وإن كنت في عز وحرز ومنعة ... فكم مات من قوم هموا منك أمنع
الثانية- إقبال الإنسان على الصيد ونحوه ترفعا دون حاجة إلى ذلك داخل في هذه الآية، وفية تعذيب الحيوان وإجراؤه لغير معنى. وأما الرجل يستريح في اليوم النادر «1» والساعة من يومه، ويجم فيها نفسه في اطرح والراحة ليستعين بذلك على شغل من البر، كقراءة علم أو صلاة، فليس بداخل في هذه الآية. قوله تعالى:" مَرَحاً" قراءة الجمهور بفتح الراء. وقراءة فرقة فيما حكى يعقوب بكسر الراء على بناء اسم الفاعل. والأول أبلغ، فإن قولك: جاء زيد ركضا أبلغ من قولك: جاء زيد راكضا، فكذلك قولك مرحا. والمرح المصدر أبلغ من أن يقال مرحا. الثالثة- قوله تعالى: (إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ) يعنى لن تتولج باطنها فتعلم ما فيها (وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا) أي لن تساوى الجبال بطولك ولا تطاولك. ويقال: خرق الثوب أي شقه، وخرق الأرض قطعها. والخرق: الواسع من الأرض. أي لن تخرق الأرض بكبرك ومشيك عليها. (وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا) بعظمتك، أي مقدرتك لا تبلغ هذا المبلغ، بل أنت عبد ذليل، محاط بك من تحتك ومن فوقك. والمحاط محصور ضعيف، لا يليق بك
__________
(1). في ح:" في اليوم البارد".

التكبر والمراد بخرق الأرض هنا نقبها لا قطعها بالمسافة، والله اعلم. وقال الأزهري: معناه لن تقطعها. النحاس: وهذا أبين، لأنه «1» مأخوذ من الخرق وهى الصحراء الواسعة. ويقال: فلان أخرق من فلان، أي أكثر سفرا وعزة ومنعة. ويروى أن سبأ دوخ الأرض بأجناده شرقا وغربا وسهلا وجبلا، وقتل سادة وسبى- وبه سمى سبأ- ودان له الخلق، فلما رأى ذلك انفرد عن أصحابه ثلاثة أيام ثم خرج إليهم فقال: إنى لما نلت ما لم ينل أحد رأيت الابتداء بشكر هذه النعم، فلم أر أوقع في ذلك من السجود للشمس إذا أشرقت، فسجدوا لها، وكان ذلك أول عبادة الشمس، فهذه عاقبة الخيلاء والتكبر والمرح، نعوذ بالله من ذلك. الرابعة- قوله تعالى: (كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً)" ذلِكَ" إشارة إلى جملة ما تقدم ذكره مما أمر به ونهى عنه." ذلِكَ" يصلح للواحد والجمع والمؤنث والمذكر. وقرا عاصم وابن عامر وحمزه والكسائي ومسروق" سَيِّئُهُ" على إضافة سيئ إلى الضمير، ولذلك قال:" مَكْرُوهاً" نصب على خبر كان. والسيء: هو المكروه، وهو الذي لا يرضاه الله عز وجل ولا يأمر به. وقد ذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآي من قوله:" وَقَضى رَبُّكَ"- إلى قوله- كان" سَيِّئُهُ" مأمورات بها ومنهيات عنها، فلا يخبر عن الجميع بأنه سيئة فيدخل المأمور به في المنهي عنه. واختار هذه القراءة أبو عبيد. ولان في قراءة أبى." كل ذلك كان سيئاته" فهذه لا تكون إلا للإضافة. وقرا ابن كثير ونافع وأبو عمرو" سيئة" بالتنوين، أي كل ما نهى الله ورسوله عنه سيئة. وعلى هذا انقطع الكلام عند قوله:" وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا" ثم قال:" وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ"،" وَلا تَمْشِ"، ثم قال:" كل ذلك كان سيئة" بالتنوين. وقيل: إن قوله:" وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ" إلى هذه الآية كان سيئة لا حسنة فيه، فجعلوا" كلا" محيطا بالمنهي عنه دون غيره. وقوله:" مَكْرُوهاً" ليس نعتا لسيئة، بل هو بدل منه، والتقدير: كان سيئة وكان مكروها. وقد قيل: إن" مَكْرُوهاً" خبر ثان لكان حمل على لفظه كل، و" سيئة" محمول على المعنى في جميع هذه الأشياء المذكورة قبل. وقال بعضهم: وهو نعت لسيئة، لأنه لما كان
__________
(1). في ج وى: كأنه.

تأنيثها غير حقيقي جاز أن توصف بمذكر. وضعف أبو على الفارسي هذا وقال: إن المؤنث إذا ذكر فإنما ينبغي أن يكون مبعدة مذكرا، وإنما التساهل أن يتقدم الفعل المسند إلى المؤنث وهو في صيغة ما يسند إلى المذكر، ألا ترى قول الشاعر:
فلا مزنة ودقت ودقها ... ولا أرض أبقل إبقالها
مستقبح عندهم. ولو قال قائل: أبقل أرض لم يكن قبيحا. قال أبو على: ولكن يجوز في قوله" مَكْرُوهاً" أن يكون بدلا من" سيئة". ويجوز أن يكون حالا من الضمير الذي في" عِنْدَ رَبِّكَ" ويكون" عِنْدَ رَبِّكَ" في موضع الصفة لسيئة. الخامسة- استدل العلماء بهذه الآية على ذم الرقص وتعاطيه. قال الامام أبو الوفاء ابن عقيل: قد نص القرآن على النهى عن الرقص فقال:" وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً" وذم المختال. والرقص أشد المرح والبطر. أو لسنا الذين قسنا النبيذ على الخمر لاتفاقها في الاطراب والسكر، فما بالنا لا نقيس القضيب وتلحين الشعر معه على الطنبور والمزمار والطبل لاجتماعها. فما أقبح من ذى لحية، وكيف إذا كان شبيه، يرقص ويصفق على إيقاع الالحان والقضبان، وخصوصا إن كانت أصوات لنسوان ومردان، وهل يحسن لمن بين يديه الموت والسؤال والحشر والصراط، صم هو إلى إحدى الدارين، يشمس «1» بالرقص شمس البهائم، ويصفق تصفيق النسوان، و(الله «2») لقد رأيت مشايخ في عمرى ما بان لهم سن من التبسم فضلا عن الضحك مع إدمان مخاطتي لهم. وقال أبو الفرج ابن الجوزي رحمه الله: ولقد حدثني بعض المشايخ عن الامام الغزالي رضى الله عنه أنه قال: الرقص حماقة بين الكتفين لا تزول إلا بالعب. وسيأتي لهذا الباب مزيد بيان في" الكهف «3»" وغيرها «4» إن شاء الله تعالى.
__________
(1). شمست الدابة شردت وجمعت. [.....]
(2). من ج وى.
(3). راجع ص 365 من هذا الجزء.
(4). راجع ج 14 ص 51 فما بعد.

ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا (39)

[سورة الإسراء (17): آية 39]
ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً (39)
الإشارة" بذلك" إلى هذه الآداب والقصص والأحكام التي تضمنتها هذه الآيات المتقدمة التي نزل بها جبريل عليه السلام. أي هذه من الافعال المحكمة التي تقتضيها حكمة الله عز وجل في عباده، وخلقها لهم من محاسن الأخلاق والحكمة وقوانين المعاني المحكمة والافعال الفاضلة. ثم عطف قوله" وَلا تَجْعَلْ" على ما تقدم من النواهي. والخطاب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المراد كل من سمع الآية من البشر. والمدحور: المهان المبعد المقصي. وقد تقدم في هذه السورة «1». ويقال في الدعاء: اللهم ادحر عنا الشيطان، أي أبعده.

[سورة الإسراء (17): آية 40]
أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً (40)
هذا يرد على من قال من العرب: الملائكة بنات الله، وكان هم بنات أيضا مع النبيين، ولكنه أراد: أفأخلص لكم البنين دونه وجعل البنات مشتركة بينكم وبينه. (إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيماً)
أي في الإثم عند الله عز وجل.

[سورة الإسراء (17): آية 41]
وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (41)
قوله تعالى: (وَلَقَدْ صَرَّفْنا) أي بينا. وقيل كررنا. (فِي هذَا الْقُرْآنِ) قيل:" فِي" زائدة، والتقدير: وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ، مثل:" وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي «2»" أي أصلح ذريتي. والتصريف: صرف الشيء من جهة إلى جهة. والمراد بهذا التصريف البيان والتكرير. وقيل: المغايرة، أي غايرنا بين المواعظ ليذكروا ويعتبروا ويتعظوا. وقراءة العامة" صَرَّفْنا"
__________
(1). راجع ص 235 من هذا الجزء.
(2). راجع ج 16 ص 195.

قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا (43)

بالتشديد على التكثير حيث وقع. وقرا الحسن بالتخفيف. وقوله:" فِي هذَا الْقُرْآنِ" يعنى الأمثال والعبر والحكم والمواعظ والأحكام والاعلام قال الثعلبي: سمعت أبا القاسم الحسين يقول بحضرة الامام الشيخ أبى الطيب: لقوله تعالى:" صَرَّفْنا" معنيان، أحدهما لم يجعله نوعا واحدا بل وعدا ووعيدا ومحكما ومتشابها ونهيا وأمرا وناسخا ومنسوخا وأخبارا وأمثالا، مثل تصريف الرياح من صبا ودبور وجنوب وشمال، وصريف الافعال من الماضي والمستقبل والامر والنهى والفعل والفاعل والمفعول ونحوها. والثاني أنه لم ينزل مرة واحدة بل نجوما، نحو قوله" وَقُرْآناً فَرَقْناهُ «1»" ومعناه: أكثرنا صرف جبريل عليه السلام إليك. (لِيَذَّكَّرُوا) قراءة يحيى والأعمش وحمزة والكسائي" لِيَذَّكَّرُوا" مخففا، وكذلك في الفرقان" وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا «2»". الباقون بالتشديد. واختاره أبو عبيد، لان معناه ليتذكروا وليتعظوا. قال المهدوي: من شدد" لِيَذَّكَّرُوا" أراد التدبر. وكذلك من قرأ" لِيَذَّكَّرُوا". ونظير الأول" وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ «3»" والثاني-" وَاذْكُرُوا ما فِيهِ «4»" (وَما يَزِيدُهُمْ) أي التصريف والتذكير. (إِلَّا نُفُوراً) أي تباعدا عن الحق وغفلة عن النظر والاعتبار، وذلك لأنهم اعتقدوا في القرآن أنه حيلة وسحر وكهانة وشعر.

[سورة الإسراء (17): الآيات 42 الى 43]
قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً (42) سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً (43)
قوله تعالى: (قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ) هذا متصل بقوله تعالى:" وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ" وهو رد على عباد الأصنام. (كَما يَقُولُونَ) قرأ ابن كثير وحفص" يَقُولُونَ" بالياء. الباقون" تقولون" بالتاء على الخطاب. (إِذاً لَابْتَغَوْا) يعنى الآلهة. (إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا) قال ابن العباس رضى الله تعالى عنهما: لطلبوا مع الله منازعة وقتالا كما تفعل ملوك الدنيا بعضهم ببعض. وقال سعيد بن جبير رضى الله تعالى عنه: المعنى إذا لطلبوا
__________
(1). راجع ص 139 من هذا الجزء.
(2). راجع ج 13 ص 57 وص 294 فما بعد.
(3). راجع ج 13 ص 57 وص 294 فما بعد.
(4). راجع ج 1 ص 436.

تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44)

طريقا إلى الوصول إليه ليزيلوا ملكه، لأنهم شركاؤه. وقال قتادة: المعنى إذا لابتغت الآلهة القربة إلى ذى العرش سبيلا، والتمست الزلفة عنده لأنهم دونه، والقوم اعتقدوا أن الأصنام تقربهم إلى الله زلفى، فإذا اعتقدوا في الأصنام أنها محتاجة إلى الله سبحانه وتعالى فقد بطل أنها آلهة. (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً) نزه سبحانه نفسه وقدسه ومجده عما لا يليق به. والتسبيح: التنزيه. وقد تقدم «1».

[سورة الإسراء (17): آية 44]
تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (44)
قوله تعالى: (تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ) أعاد على السموات والأرض ضمير من يعقل، لما أسند إليها فعل العاقل وهو التسبيح. وقوله:" وَمَنْ فِيهِنَّ" يريد الملائكة والانس والجن، ثم عم بعد ذلك الأشياء كلها في قوله:" وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ". واختلف في هذا العموم، هل هو مخصص أم لا، فقالت فرقة: ليس مخصوصا والمراد به تسبيح الدلالة، وكل محدث يشهد على نفسه بأن الله عز وجل خالق قادر. وقالت طائفة: هذا التسبيح حقيقة، وكل شي على العموم يسبح تسبيحا لا يسمعه البشر ولا يفقهه، ولو كان ما قاله الأولون من أنه أثر الصنعة والدلالة لكان أمرا مفهوما، والآية تنطق بأن هذا التسبيح لا يفقه. وأجيبوا بأن المراد بقوله:" لا تَفْقَهُونَ" الكفار الذين يعرضون عن الاعتبار فلا يفقهون حكمة الله سبحانه وتعالى في الأشياء. وقالت فرقة: قوله" مِنْ شَيْءٍ" عموم، ومعناه الخصوص في كل حي ونام، وليس ذلك في الجمادات. ومن هذا قول عكرمة: الشجرة تسبح والأسطوان لا يسبح. وقال يزيد الرقاشي للحسن وهما في طعام وقد قدم الخوان: أيسبح هذا الخوان يا أبا سعيد؟ فقال: قد كان يسبح مرة، يريد أن الشجرة في زمن ثمرها واعتدالها كانت تسبح، وأما الآن فقد صار خوانا مدهونا.
__________
(1). راجع ج 1 ص 276.

قلت: ويستدل لهذا القول من السنة بما ثبت عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مر على قبرين فقال:" إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير أما أحدهما فكان يمشى بالنميمة وأما الآخر فكان لا يستبرئ من البول" قال: فدعا بعسيب رطب فشقه اثنين، ثم غرس على هذا واحدا وعلى هذا واحدا ثم قال:" لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا". فقوله عليه الصلاة والسلام." ما لم ييبسا" إشارة إلى أنهما ما داما رطبين يسبحان، فإذا يبسا صارا جمادا. والله اعلم. وفى مسند أبى داود الطيالسي: فتوضع على أحدهما نصفا وعلى الآخر نصفا وقال:" لعله أن يهون عليهما العذاب ما دام فيهما من بلوتهما شي". قال علماؤنا: ويستفاد من هذا غرس، الأشجار وقراءة القرآن على القبور، وإذا خفف عنهم بالأشجار فكيف بقراءة الرجل المؤمن القرآن. وقد بينا هذا المعنى في (كتاب التذكرة) بيانا شافيا، وأنه يصل إلى الميت ثواب ما يهدى إليه. والحمد لله على ذلك. وعلى التأويل الثاني لا يحتاج إلى ذلك، فإن كل شي من الجماد وغيره يسبح. قلت: ويستدل لهذا التأويل وهذا القول من الكتاب بقوله سبحانه وتعالى:" وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ. إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ «1»"، وقوله:" وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ «2»"- على قول مجاهد-، وقوله:" وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا. أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً «3»". وذكر ابن المبارك في (دقائقه) أخبرنا مسعر عن عبد الله بن واصل عن عوف بن عبد الله قال قال عبد الله بن مسعود رضى الله عنه: إن الجبل يقول للجبل: يا فلان، هل مر بك اليوم ذاكر لله عز وجل؟ فإن قال نعم سبه. ثم قرأ عبد الله" وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً «4»" الآية. قال: أفتراهن يسمعن الزور ولا يسمعن الخير. وفية عن أنس بن مالك رضى الله عنه قال: ما من صباح ولا رواح إلا تنادى بقاع الأرض بعضها بعضا. يا جاراه، هل مر بك اليوم عبد فصلى لله أو ذكر الله عليك؟ فمن قائلة لا، ومن قائلة نعم، فإذا قالت نعم رأت لها بذلك فضلا عليها. وقال رسول الله صلى
__________
(1). راجع ج 15 ص 158 فما بعد.
(2). راجع ج 1 ص 462 فما بعد.
(3). راجع ج 11 ص 155 فما بعد.
(4). راجع ج 11 ص 155 فما بعد. [.....]

الله عليه وسلم:" لا يسمع صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شجر ولا حجر ولا مدر ولا شي إلا شهد له يوم القيامة". رواه ابن ماجة في سننه، ومالك في موطئة من حديث أبى سعيد الخدري رضى الله عنه. وخرج البخاري عن عبد الله رضى الله عنه قال: لقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل. في غير هذه الرواية عن ابن مسعود رضى الله تعالى عنه: كنا نأكل مع وسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الطعام ونحن نسمع تسبيحه. وفى صحيح مسلم عن جابر بن سمرة رضى الله عنه قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" إنى لأعرف حجرا بمكة كان يسلم على قبل أن أبعث إنى لأعرفه الآن". قيل: إنه الحجر الأسود، والله اعلم. والاخبار في هذا المعنى كثيرة، وقد أتينا على جملة منها في اللمع اللؤلئية في شرح العشرينيات النبوية للفادارى رحمه الله، وخبر الجذع أيضا مشهور في هذا الباب خرجه البخاري في مواضع من كتابه. وإذا ثبت ذلك في جماد واحد جاز في جميع الجمادات، ولا استحالة في شي من ذلك، فكل شي يسبح للعموم. وكذا قال النخعي وغيره: هو عام فيما فيه روح وفيما لا روح فه حتى صرير الباب. واحتجوا بالأخبار التي ذكرنا. وقيل: تسبيح الجمادات أنها تدعو الناظر إليها إلى أن يقول: سبحان الله! لعدم الإدراك منها. وقال الشاعر:
تلقى بتسبيحه من حيث ما انصرفت ... وتستقر حشا الرائي بترعاد
أي يقول من رآها: سبحان خالقها. فالصحيح أن الكل يسبح للاخبار الدالة على ذلك لو كان ذلك التسبيح تسبيح دلالة فأي تخصيص لداود، وإنما ذلك تسبيح المقال بخلق الحياة والإنطاق بالتسبيح كما ذكرنا. وقد نصت السنة على ما دل عليه ظاهر القرآن من تسبيح كل شي فالقول به أولى. والله اعلم. وقرا الحسن وأبو عمرو ويعقوب وحفص وحمزة والكسائي وخلف" تَفْقَهُونَ" بالتاء لتأنيث الفاعل. الباقون بالياء، واختاره أبو عبيد، قال: للحائل بين الفعل والتأنيث. (إِنَّهُ كانَ حَلِيماً) عن ذنوب عباده في الدنيا. (غَفُوراً) للمؤمنين في الآخرة.

وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45)

[سورة الإسراء (17): آية 45]
وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً (45)
عن أسماء بنت أبى بكر رضى الله تعالى عنهما قالت: لما نزلت سورة" تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ «1»" أقبلت العوراء أم جميل بنت حرب ولها ولولة وفى يدها فهر «2» وهى تقول
مذمما عصينا ... وأمره أبينا
ودينه قلينا «3»

والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قاعد في المسجد ومعه أبو بكر رضى الله عنه، فلما رآها أبو بكر قال: يا رسول الله، لقد أقبلت وأنا أخاف أن تراك! قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" إنها لن تراني" وقرا قرآنا فاعتصم به كما قال. وقرا" وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً". فوقفت على أبى بكر رضى الله عنه ولم تر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالت: يا أبا بكر، أخبرت أن صاحبك هجاني! فقال: لا ورب هذا البيت ما هجاك. قال: فولت وهى تقول: قد علمت قريش أنى ابنة سيدها. وقال سعيد بن جبير رضى الله عنه: لما نزلت" تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ" جاءت امرأة أبى لهب إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومعه أبو بكر رضى الله عنه، فقال أبو بكر: لو تنحيت عنها لئلا تسمعك ما يؤذيك، فإنها امرأة بذية. فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" إنه سيحال بيني وبينها" فلم تره. فقالت لابي بكر: يا أبا بكر، هجانا صاحبك! فقال: والله ما ينطق بالشعر ولا يقوله. فقالت: وإنك لمصدقه، فاندفعت راجعة. فقال أبو بكر رضى الله عنه: يا رسول الله، أما رأتك؟ قال:" لا. ما زال ملك بيني وبينها يسترني حتى ذهبت". وقال كعب رضى الله عنه في هذه الآية: كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستتر من المشركين بثلاث آيات: الآية التي في الكهف" إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً «4»"، والآية التي في النحل
__________
(1). راجع ج 20 ص 234.
(2). الفهر (بالكسر): الحجر ملء الكف. وقيل: هو الحجر مطلقا.
(3). هذا ما ورد في سيرة ابن هشام. والتي في نسخ الأصل:
مذمما أتينا ... ودينه قلينا.
(4). راجع ج 11 ص 4 فما بعد

أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ «1»، والآية التي في الجاثية «2»" أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً «3»" الآية. فكان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا قرأهن يستتر من المشركين. قال كعب رضى الله تعالى عنه: فحدثت بهن رجلا من أهل الشام، فأتى أرض الروم فأقام بها زمانا، ثم خرج هاربا فخرجوا في طلبه فقرأ بهن فصاروا يكونون معه على طريقه ولا يبصرونه. قال الثعلبي «4»: وهذا الذي يروونه عن كعب حدثت به رجلا من أهل الري فأسر بالديلم، فمكث زمانا ثم خرج هاربا فخرجوا في طلبه فقرأ بهن حتى جعلت ثيابهن لتلمس ثيابه فما يبصرونه. قلت: ويزاد إلى هذه الآية أول سورة يس إلى قوله" فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ «5»". فإن في السيرة في هجرة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومقام على رضى الله عنه في فراشه قال: وخرج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخذ حفنة من تراب في يده، واخذ الله عز وجل على أبصارهم عنه فلا يرونه، فجعل ينثر ذلك التراب على رؤوسهم وهو يتلو هذه الآيات من يس:" يس. وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ. إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ. عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ."- إلى قوله-" وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ". حتى فرغ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من هذه الآيات، ولم يبق منهم رجل إلا وقد وضع على رأسه ترابا، ثم انصرف إلى حيث أراد أن يذهب. قلت: ولقد اتفق لي ببلادنا الأندلس بحصن منثور «6» من أعمال قرطبة مثل هذا. وذلك أنى هربت أمام العدو وانحزت إلى ناحية عنه، فلم ألبث أن خرج في طلبي فارسان وأنا في فضاء من الأرض قاعد ليس يسترني عنهما شي، وأنا أقرأ أول سورة يس وغير ذلك من القرآن، فعبرا على ثم رجعا من حيث جاءا واحدهما يقول للآخر: هذا ديبله «7»، يعنون شيطانا. وأعمى الله عز وجل أبصارهم فلم يروني، والحمد لله حمدا كثيرا على ذلك. وقيل: الحجاب
__________
(1). راجع ص 191 من هذا الجزء.
(2). في أو ج وى: الشريعة. وهى من أسماء الجاثية.
(3). راجع ج 16 ص 166 فما بعد.
(4). في أوج وى:" الكلبي".
(5). راجع ج 15 ص 9.
(6). كذا في الأصول.
(7). لفظة فرانسيية، معناها: جنى. ولعله كذلك في لغة اللاتين.

وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا (46)

المستور طبع الله على قلوبهم حتى لا يفقهوه ولا يدركوا ما فيه من الحكمة، قاله قتادة. وقال الحسن: أي أنهم لإعراضهم عن قراءتك وتغافلهم عنك كمن بينك وبينه حجاب في عدم رؤيته لك حتى كأن على قلوبهم أغطية. وقيل: نزلت في قوم كانوا يؤذون رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا قرأ القرآن، وهم أبو جهل وأبو سفيان والنضر بن الحارث وام جميل امرأة أبى لهب وحويطب، فحجب الله سبحانه وتعالى رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن أبصارهم عند قراءة القرآن، وكانوا يمرون به ولا يرونه، قاله الزجاج وغيره. وهو معنى القول الأول بعينه، وهو الأظهر في الآية، والله اعلم. وقوله: (مَسْتُوراً) فيه قولان: أحدهما- أن الحجاب مستور عنكم لا ترونه. والثاني: أن الحجاب ساتر عنكم ما وراءه، ويكون مستورا به بمعنى ساتر.

[سورة الإسراء (17): آية 46]
وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً (46)
قوله تعالى: (وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً)" أَكِنَّةً" جمع كنان، وهي ما يستر الشيء. وقد تقدم في" الانعام «1»" (أَنْ يَفْقَهُوهُ) أي لئلا يفقهوه، أو كراهية أن يفقهوه، أي أن يفهموا ما فيه من الأوامر والنواهي والحكم والمعاني. وهذا رد «2» على القدرية. (وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً) أي صمما وثقلا. وفى الكلام إضمار، أي أن يسمعوه. (وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ) أي قلت: لا إله إلا الله وأنت تتلو القرآن. وقال أبو الجوزاء أوس بن عبد الله: ليس شي أطرد للشياطين من القلب من قول لا إله إلا الله، ثم تلا" وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً". وقال على بن الحسين: هو قوله بسم الله الرحمن الرحيم. وقد تقدم هذا في البسملة «3». (وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً) قيل: يعنى بذلك المشركين. وقيل: الشياطين. و" نُفُوراً" جمع نافر، مثل شهود جمع شاهد، وقعود جمع قاعد، فهو منصوب على الحال. ويجوز أن يكون مصدورا على غير الصدر، إذ كان قوله" وَلَّوْا" بمعنى نقروا،
__________
(1). راجع ج 6 ص 404.
(2). في ج: يرد.
(3). راجع ج 1 ص 9 فما بعد. [.....]

نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (47)

[سورة الإسراء (17): آية 47]
نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (47)
قوله تعالى: (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ) قيل: الباء زائدة في قوله" بِهِ" أي يستمعونه. وكانوا يستمعون من النبي صلى عليه وسلم القرآن ثم ينفرون فيقولون: هو ساحر ومسحور، كما أخبر الله تعالى به عنهم، قاله قتادة وغيره. (وَإِذْ هُمْ نَجْوى ) أي متناجون في أمرك. قال قتادة: وكانت نجواهم قولهم إنه مجنون وإنه ساحر وإنه يأتي بأساطير الأولين، وغير ذلك. وقيل: نزلت حين دعا عتبة أشراف قريش إلى طعام صنعه لهم، فدخل عليهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقرا عليهم القرآن ودعاهم إلى الله، فتناجوا، يقولون ساحر ومجنون. وقيل: أمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عليا أن يتخذ طعاما ويدعو إليه أشراف قريش من المشركين، ففعل ذلك على ودخل عليهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقرا عليهم القرآن ودعاهم إلى التوحيد، وقال:" قولوا لا إله إلا الله لتطيعكم العرب وتدين لكم العجم" فأبوا، وكانوا يستمعون من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويقولون بينهم متناجين: هو ساحر وهو مسحور، فنزلت الآية. وقال الزجاج: النجوى اسم للمصدر، أي وإذ هم ذو نجوى، أي سرار. (إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ) أبو جهل والوليد بن المغيرة وأمثالهما. (إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً) أي مطبوبا قد خبله السحر فاختلط عليه أمره، يقولون ذلك لينفروا عنه الناس. وقال مجاهد:" مَسْحُوراً" أي مخدوعا، مثل قوله:" فَأَنَّى تُسْحَرُونَ «1»" أي من أين تخدعون. وقال أبو عبيدة:" مَسْحُوراً" معناه أن له سحرا، أي رئة، فهو لا يستغنى عن الطعام والشراب، فهو مثلكم وليس بملك. وتقول العرب للجبان: قد انتفخ سحره. ولكل من أكل من آدمي وغيره أو شرب مسحور ومسحر. قال لبيد:
فإن تسألينا فيم نحن فإننا ... عصافير من هذا الأنام المسحر
__________
(1). راجع ج 12 ص 144.

انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (48)

وقال امرؤ القيس:
أرانا موضعين لأمر غيب «1» ... ونسحر بالطعام وبالشراب
أي نغذي ونعلل. وفى الحديث عن عائشة رضى الله عنها أنها قالت: من هذه التي تساميني من أزواج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد توفى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين سحري ونحرى «2».

[سورة الإسراء (17): آية 48]
انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (48)
قوله تعالى: (انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ) عجبه من صنعهم كيف يقولون تارة ساحر وتارة مجنون وتارة شاعر. (فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا) أي حيلة في صد الناس عنك. وقيل: ضلوا عن الحق فلا يجدون سبيلا، أي إلى الهدى. وقيل: مخرجا، لتناقض كلامهم في قولهم: مجنون، ساحر، شاعر.

[سورة الإسراء (17): آية 49]
وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (49)
قوله تعالى: (أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً) أي قالوا وهم يتناجون لما سمعوا القرآن وسمعوا أمر البعث: لو لم يكن مسحورا لما قال هذا. قال ابن عباس: الرفات الغبار. مجاهد: التراب. والرفات ما تكسر وبلى من كل شي، كالفتات والحطام والرضاض، عن أبى عبيدة والكسائي والفراء والأخفش. تقول منه: رفت الشيء رفتا، أي حطم، فهو مرفوت. (أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً)" أَإِنَّا" استفهام والمراد به الجحد والإنكار. و" خَلْقاً" نصب لأنه مصدر، أي بعثا جديدا. وكان هذا غاية الإنكار منهم.
__________
(1). أوضع الرجل في السير إذا أسرع. وقوله:" لأمر غيب" يريد الموت وأنه قد غيب عنا وقته و. نحن نلهى عنه. بالطعام والشراب.
(2). تريد أنه مات صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو مسند إلى صدرها وما يحاذي سحرها وهو (الرئة).

قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (51)

[سورة الإسراء (17): الآيات 50 الى 51]
قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً (50) أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً (51)
قوله تعالى: (قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً) أي قل لهم يا محمد كونوا على جهة التعجيز حجارة أو حديدا في الشدة والقوة. قال الطبري: أي إن عجبتم من إنشاء الله لكم عظاما ولحما فكونوا أنتم حجارة أو حديدا إن قدرتم. وقال على بن عيسى: معناه أنكم لو كنتم حجارة أو حديدا لم تفوتوا الله عز وجل إذا أرادكم، إلا أنه خرج مخرج الامر، لأنه أبلغ في الإلزام. وقيل: معناه لو كنتم حجارة أو حديدا لاعادكم كما بدأكم، ولأماتكم ثم أحياكم. وقال مجاهد: المعنى كونوا ما شئتم فستعادون. النحاس: وهذا قول حسن، لأنهم لا يستطيعون أن يكونوا حجارة، وإنما المعنى أنهم قد أقروا بخالقهم وأنكروا البعث فقيل لهم استشعروا أن تكونوا ما شئتم، فلو كنتم حجارة أو حديدا لبعثتم كما خلقتم أول مرة. (أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ) قال مجاهد: يعنى السموات والأرض والجبال لعظمها في النفوس. وهو معنى قول قتادة. يقول: كونوا ما شئتم، فإن الله يميتكم ثم يبعثكم. وقال ابن عباس وابن عمر وعبد الله بن عمرو بن العاص وابن جبير ومجاهد أيضا وعكرمة وأبو صالح والضحاك: يعنى الموت، لأنه ليس شي أكبر في نفس ابن آدم منه، قال أمية بن أبى الصلت:
وللموت خلق في النفوس فظيع

يقول: إنكم لو خلقتم من حجارة أو حديد أو كنتم الموت لأميتنكم ولابعثنكم، لان القدرة التي بها أنشأتكم بها نعيدكم. وهو معنى قوله: (فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ). وفى الحديث أنه" يؤتى بالموت يوم القيامة في صورة كبش أملح فيذبح بين الجنة والنار". وقيل: أراد به البعث، لأنه كان أكبر في صدورهم، قاله الكلبي." فَطَرَكُمْ" خلقكم وأنشأكم. (فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ) أي يحركون رؤوسهم استهزاء، يقال:

يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا (52)

نغض رأسه ينغض وينغض نغضا ونغوضا، أي تحرك. وأنغض رأسه أي حركه، كالمتعجب من الشيء، ومنه قوله تعالى: (فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ). قال الراجز:
أنغض نحوي رأسه وأقنعا «1»

ويقال أيضا: نغض فلان رأسه أي حركه، يتعدى ولا يتعدى، حكاه الأخفش. ويقال: نغضت سنه، أي حركت وانقلعت. قال الراجز:
ونغضت من هرم أسنانها

وقال آخر:
لما رأتني انغضت لي الرأسا

وقال آخر:
لا ماء في المقراة إن لم تنهض ... بمسد فوق المحال النغض
المحال والمحالة: البكرة العظيمة التي يستقى بها الإبل. (وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ) أي البعث والإعادة وهذا الوقت. (قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً) أي هو قريب، لان عسى وأحب، نظيره" وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً «2»". و" لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ «3»". وكل، ما هو آت فهو قريب.

[سورة الإسراء (17): آية 52]
يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً (52)
قوله تعالى: (يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ) الدعاء: النداء إلى المحشر بكلام تسمعه الخلائق، يدعوهم الله تعالى فيه بالخروج. وقيل: بالصيحة التي يسمعونها، فتكون داعية لهم إلى الاجتماع في أرض القيامة. قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم فأحسنوا أسماءكم". (فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ) أي باستحقاقه الحمد على الأحياء.
__________
(1). أقنع فلان رأسه: وهو أن يرفع بصره ووجه إلى ما حيال رأسه من السماء.
(2). راجع ج 14 ص 284.
(3). راجع ج 16 ص 15.

وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا (53)

وقال أبو سهل: أي والحمد لله، كما قال:
فإنى بحمد الله لا ثوب فاجر ... لبست، ولا من غدرة أتقنع
وقيل: حامد تعالى بألسنتكم. قال سعيد بن جبير: تخرج الكفار من قبورهم وهم يقولون سبحانك وبحمدك، ولكن لا ينفعهم اعتراف ذلك اليوم. وقال ابن عباس «1»:" بِحَمْدِهِ" بأمره، أي تقرون بأنه خالقكم. وقال قتادة: بمعرفته وطاعته. وقيل: المعنى بقدرته. وقيل: بدعائه إياكم. قال علماؤنا: وهو الصحيح، فإن النفخ في الصور إنما هو سبب لخروج أهل القبور، بالحقيقة إنما هو خروج الخلق بدعوة الحق، قال الله تعالى:" يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ" فيقومون يقولون سبحانك اللهم وبحمدك. قال: فيوم القيامة يوم يبدأ بالحمد ويختم به، قال الله تعالى:" يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ" وقال في آخر" وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ «2»". (وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا) يعنى بين النفختين، وذلك أن العذاب يكف عن المعذبين بين النفختين، وذلك أربعون عاما فينامون، فذلك قوله تعالى:" مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا «3»" فيكون خاصا للكفار. وقال مجاهد: للكافرين هجعة قبل يوم القيامة يجدون فيها طعم النوم، فإذا صيح بأهل القبور قاموا مذعورين. وقال قتادة: المعنى أن الدنيا تحاقرت في أعينهم وقلت حين رأوا يوم القيامة. الحسن:" وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا" في الدنيا لطول لبثكم في الآخرة.

[سورة الإسراء (17): آية 53]
وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً (53)
قوله تعالى: (وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) تقدم إعرابه «4». والآية نزلت في عمر بن الخطاب. وذلك أن رجلا من العرب شتمه، وسبه عمر وهم بقتله، فكادت تثير فتنة فأنزل الله تعالى فيه:" وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ" ذكره الثعلبي والماوردي
__________
(1). في ج: وسفيان.
(2). راجع ج 15 ص 284 وص 39.
(3). راجع ج 15 ص 284 وص 39.
(4). راجع ج 9 ص 366.

وابن عطية والواحدي. وقيل: نزلت لما قال المسلمون: ائذن لنا يا رسول الله في قتالهم فقد طال إيذاؤهم إيانا، فقال:" لم أومر بعد بالقتال" فأنزل الله تعالى:" وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ"، قاله الكلبي. وقيل: المعنى قل لعبادي الذين اعترفوا بأنى خالقهم وهم يعبدون الأصنام، يقولوا التي هي أحسن من كلمة التوحيد والإقرار بالنبوة. وقيل: المعنى وقل لعبادي المؤمنين إذا جادلوا الكفار في التوحيد، أن يقولوا الكلمة التي هي أحسن. كما قال:" وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ «1»". وقال الحسن: هو أن يقول للكافر إذا تشطط: هداك الله! يرحمك الله! وهذا قبل أن أمروا بالجهاد. وقيل: المعنى قل لهم يأمروا بما أمر الله به وينهوا عما نهى الله عنه، وعلى هذا تكون الآية عامة في المؤمن والكافر، أي قل للجميع. والله أعلم. وقالت طائفة: أمر الله تعالى في هذه الآية المؤمنين فيما بينهم خاصة، بحسن الأدب وإلانة القول، وخفض الجناح وإطراح نزغات الشيطان، وقد قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" وكونوا عباد الله إخوانا". وهذا أحسن، وتكون الآية محكمة. قوله تعالى:" (إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ)" أي بالفساد وإلقاء العداوة والإغواء. وقد تقدم في آخر الأعراف «2» ويوسف «3». يقال: نزغ بيننا أي أفسد، قاله اليزيدي. وقال غيره النزغ الإغراء. (إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً) أي شديد العداوة. وقد تقدم في البقرة «4». وفى الخبر" أن قوما جلسوا يذكرون الله، عز وجل فجاء الشيطان ليقطع مجلسهم فمنعته الملائكة فجاء إلى قوم جلسوا قريبا منهم لا يذكرون الله فحرش بينهم فتخاصموا وتواثبوا فقال هؤلاء الذاكرون قوموا بنا نصلح بين إخواننا فقاموا وقطعوا مجلسهم وفرح بذلك الشيطان". فهذا من بعض عداوته.
__________ (1). راجع ج 7 ص 60 و347.
(2). راجع ج 7 ص 60 و347.
(3). راجع ج 9 ص 267.
(4). راجع ج 2 ص 209. [.....]

رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (54)

[سورة الإسراء (17): آية 54]
رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (54)
قوله تعالى: (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ) هذا خطاب للمشركين، والمعنى: إن يشأ يوفقكم للإسلام فيرحمكم، أو يميتكم على الشرك فيعذبكم، قاله ابن جريج. و" أَعْلَمُ" بمعنى عليم، نحو قولهم: الله أكبر، بمعنى كبير. وقيل: الخطاب للمؤمنين، أي إن يشأ يرحمكم بأن يحفظكم من كفار مكة، أو إن يشأ يعذبكم بتسليطهم عليكم، قاله الكلبي. (وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا) أي وما وكلناك في منعهم من الكفر ولا جعلنا إليك إيمانهم. وقيل: ما جعلناك كفيلا لهم تؤخذ بهم، قاله الكلبي. وقال الشاعر:
ذكرت أبا أروى فبت كأنني ... برد الأمور الماضيات وكيل
أي كفيل.

[سورة الإسراء (17): آية 55]
وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (55)
قوله تعالى: وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ) أعاد بعد أن قال:" رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ" ليبين أنه خالقهم وأنه جعلهم مختلفين في أخلاقهم وصورهم وأحوالهم ومالهم" أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ «1»". وكذا النبيون فضل بعضهم على بعض عن علم منه بحالهم. وقد مضى القول في هذا في" البقرة «2»". (وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً) الزبور: كتاب ليس فيه حلال ولا حرام، ولا فرائض ولا حدود، وإنما هو دعاء وتحميد وتمجيد. أي كما آتينا داود الزبور فلا تنكروا أن يؤتى محمد القرآن. وهو في محاجة اليهود.

[سورة الإسراء (17): آية 56]
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً (56)
__________
(1). راجع ج 18 ص 213.
(2). راجع ج 3 ص 261 فما بعد.

أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57)

قوله تعالى: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ) لما ابتليت قريش بالقحط وشكوا إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنزل الله هذه الآية، أي ادعوا الذين تعبدون من دونه وزعمتم أنهم آلهة. وقال الحسن: يعنى الملائكة وعيسى وعزيرا. ابن مسعود: يعنى الجن (فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ) أي القحط سبع سنين، على قول مقاتل. (وَلا تَحْوِيلًا) من الفقر إلى الغنى ومن السقم إلى الصحة.

[سورة الإسراء (17): آية 57]
أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً (57)
قوله تعالى: (أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ)" أُولئِكَ" مبتدأ" الَّذِينَ" صفة" أُولئِكَ" وضمير الصلة محذوف، أي يدعونهم. يعنى أولئك المدعوون. و" يَبْتَغُونَ" خبر، أو يكون حالا، و" الَّذِينَ يَدْعُونَ" خبر، أي يدعون إليه عبادا [أو عباده «1»] إلى عبادته. وقرا ابن مسعود" تدعون" بالتاء على الخطاب. الباقون بالياء على الخبر. ولا خلاف في" يَبْتَغُونَ" أنه بالياء. وفى صحيح مسلم من كتاب التفسير عن عبد الله بن مسعود في قوله عز وجل:" أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ" قال: نفر من الجن أسلموا وكانوا يعبدون، فبقى الذين كانوا يعبدون على عبادتهم وقد أسلم النفر من الجن. في رواية قال: نزلت في نفر من العرب كانوا يعبدون نفرا من الجن فأسلم الجنيون و(الانس «2» الذين كانوا يعبدونهم لا يشعرون، فنزلت" أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ". وعنه أيضا أنهم الملائكة كانت تعبدهم قبائل من العرب، ذكره الماوردي. وقال ابن عباس ومجاهد: عزير وعيسى. و" يَبْتَغُونَ" يطلبون من الله الزلفة والقربة، ويتضرعون إلى الله تعالى في طلب الجنة، وهى الوسيلة. أعلمهم الله تعالى أن المعبودين يبتغون القربة إلى ربهم. والهاء والميم في" رَبِّهِمُ" تعود على العابدين أو على المعبودين أو عليهم جميعا. وأما" يَدْعُونَ" فعلى العابدين. و" يَبْتَغُونَ" على المعبودين. (أَيُّهُمْ أَقْرَبُ) ابتداء وخبر. ويجوز أن يكون" أَيُّهُمْ أَقْرَبُ"
__________
(1). من ج وو.
(2). زيادة عن صحيح مسلم.

وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (58)

بدلا من الضمير في" يَبْتَغُونَ"، والمعنى يبتغى أيهم أقرب الوسيلة إلى الله. (وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً) أي مخوفا لا أما لاحد منه، فينبغي أن يحذر منه ويخاف. وقال سهل بن عبد الله: الرجاء والخوف زمانان على الإنسان، فإذا استويا استقامت أحواله، وإن رجح أحدهما بطل الآخر.

[سورة الإسراء (17): آية 58]
وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (58)
قوله تعالى: (وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها) أي مخربوها. (قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً) قال مقاتل: أما الصالحة فبالموت، وأما الطالحة فبالعذاب. وقال ابن مسعود: إذا ظهر الزنى والربا في قرية أذن الله في هلاكهم. فقيل: المعنى وإن من قرية ظالمة، يقوى ذلك قوله:" وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ «1»". أي فليتق المشركون، فإنه ما من قرية كافرة إلا سيحل بها العذاب. (كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ) أي في اللوح. (مَسْطُوراً) أي مكتوبا. والسطر: الخط والكتابة وهو في الأصل مصدر. والسطر بالتحريك، مثله. قال جرير:
من شاء بايعته مالى وخلعته ... ما تكمل التيم «2» في ديوانهم سطرا
الخلعة" بضم الخاء": خيار المال. والسطر جمع أسطار، مثل سبب وأسباب، ثم يجمع على أساطير. وجمع السطر أسطر وسطور، مثل أفلس وفلوس. والكتاب هنا يراد به اللوح المحفوظ.

[سورة الإسراء (17): آية 59]
وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً (59)
__________
(1). راجع ج 13 ص 301.
(2). في ديوان جرير:" ما تكمل الخلج".

وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا (60)

قوله تعالى: (وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ) في الكلام حذف، والتقدير: وما منعنا أن نرسل بالآيات التي اقترحوها إلا أن يكذبوا بها فيهلكوا كما فعل بمن كان قبلهم. قال معناه قتادة وابن جريج وغيرهما. فأخر الله تعالى العذاب عن كفار قريش لعلمه أن فيهم من يؤمن وفيهم من يولد مؤمنا. وقد تقدم في" الانعام «1»" وغيرها أنهم طلبوا أن يحول الله لهم الصفا ذهبا وتتنحى الجبال عنهم، فنزل جبريل وقال:" إن شئت كان ما سأل قومك ولكنهم إن لم يؤمنوا لم يمهلوا وإن شئت استأنيت بهم". فقال:" لا بل استأن بهم". و" أَنْ" الاولى في محل نصب بوقوع المنع عليهم، و" أَنْ" الثانية في محل رفع. والباء في" بِالْآياتِ" زائدة. ومجاز الكلام: وما منعنا إرسال الآيات إلا تكذيب الأولين، والله تعالى لا يكون ممنوعا عن شي، فالمعنى المبالغة في أنه لا يفعل، فكأنه قد منع عنه. ثم بين ما فعل بمن سأل الآيات فلم يؤمن بها فقال: (وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً) أي آية دالة مضيئة نيرة على صدق صالح، وعلى قدرة الله تعالى. وقد تقدم «2» ذلك. (فَظَلَمُوا بِها) أي ظلموا بتكذيبها. وقيل: جحدوا بها وكفروا أنها من عند الله فاستأصلهم الله بالعذاب. (وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً) فيه خمسة أقوال: الأول- العبر والمعجزات التي جعلها الله على أيدي الرسل من دلائل الإنذار تخويفا للمكذبين. الثاني- أنها آيات الانتقام تخويفا من المعاصي. الثالث- أنها تقلب الأحوال من صغر إلى شباب ثم إلى تكهل ثم إلى مشيب، لتعتبر بتقلب أحوالك فتخاف عاقبة أمرك، وهذا قول أحمد بن حنبل رضى الله عنه. الرابع- القرآن. الخامس- الموت الذريع «3»، قال الحسن.

[سورة الإسراء (17): آية 60]
وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْياناً كَبِيراً (60)
__________
(1). راجع ج 6 ص 387.
(2). راجع ج 7 ص 238 وج 9 ص 60.
(3). أي السريع الفاشي لا يكاد الناس يتدافنون.

قوله تعالى: (وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ) قال ابن عباس: الناس هنا أهل مكة، وإحاطته بهم إهلاكه إياهم، أي أن الله سيهلكهم. وذكره بلفظ الماضي لتحقق كونه. وعنى بهذا الإهلاك الموعود ما جرى يوم بدر ويوم الفتح. وقيل: معنى" أَحاطَ بِالنَّاسِ" أي أحاطت قدرته بهم، فهم في قبضته لا يقدرون على الخروج من مشيئته، قاله مجاهد وابن أبى نجيح. وقال الكلبي: المعنى أحاط علمه بالناس. وقيل: المراد عصمته من الناس أن يقتلوه حتى يبلغ رسالة ربه، أي وما أرسلناك عليهم حفيظا، بل عليك التبليغ، فبلغ بجدك فإنا نعصمك منهم ونحفظك، فلا تهبهم، وامض لما آمرك به من تبليغ الرسالة، فقدرتنا محيطة بالكل، قال معناه الحسن وعروة وقتادة وغيرهم. قوله تعالى: (وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ) لما بين أن إنزال آيات القرآن تتضمن التخويف ضم إليه ذكر آية الاسراء، وهى المذكورة في صدر السورة. وفى البخاري والترمذي عن ابن عباس في قوله تعالى:" وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ" قال: هي رؤيا عين أريها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة أسرى به إلى بيت المقدس. قال:" وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ" هي شجرة الزقوم. قال أبو عيسى الترمذي: هذا حديث صحيح. وبقول ابن عباس قالت عائشة ومعاوية والحسن ومجاهد وقتادة وسعيد بن جبير والضحاك وابن أبى نجيح وابن زيد. وكانت الفتنة ارتداد قوم كانوا أسلموا حين أخبرهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه أسرى به. وقيل: كانت رؤيا نوم. وهذه الآية تقضى بفساده، وذلك أن رؤيا المنام لا فتنة فيها، وما كان أحد لينكرها. وعن ابن عباس قال: الرؤيا التي في هذه الآية هي رؤيا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه يدخل مكة في سنة الحديبية، فرد فافتتن المسلمون لذلك، فنزلت الآية، فلما كان العام المقبل دخلها، وأنزل الله تعالى" لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ «1»". وفى هذا التأويل ضعف، لان السورة مكية وتلك الرؤيا كانت بالمدينة. وقال في رواية ثالثة: إنه عليه السلام رأى في المنام بنى مروان ينزون
__________
(1). راجع ج 16 ص 289.

على منبره نزو القردة، فساءه ذلك فقيل: إنما هي الدنيا أعطوها، فسرى عنه، وما كان له بمكة منبر ولكنه يجوز أن يرى بمكة رؤيا المنبر بالمدينة. وهذا التأويل الثالث قاله أيضا سهل بن سعد رضى الله عنه. قال سهل إنما هذه الرؤيا هي أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يرى بنى أمية ينزون على منبره نزو القردة، فاغتم لذلك، وما استجمع ضاحكا من يومئذ حتى مات صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فنزلت الآية مخبرة أن ذلك من تملكهم وصعودهم يجعلها الله فتنة للناس وامتحانا. وقرا الحسن بن على في خطبته في شأن بيعته لمعاوية:" وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ «1»". قال ابن عطية: وفى هذا التأويل نظر، ولا يدخل في هذه الرؤيا عثمان ولا عمر بن عبد العزيز ولا معاوية. قوله تعالى: (وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ) فيه تقديم وتأخير، أي ما جعلنا الرؤيا التي أريناك والشجرة الملعونة في القرآن إلا فتنة للناس. وفتنتها أنهم لما خوفوا بها قال أبو جهل استهزاء: هذا محمد يتوعدكم بنار تحرق الحجارة، ثم يزعم أنها تنبت الشجر والنار تأكل الشجر، وما نعرف الزقوم إلا التمر والزبد، ثم أمر أبو جهل جارية فأحضرت تمرا وزبدا وقال لأصحابه: تزقموا. وقد قيل: إن القائل ما نعلم الزقوم إلا التمر والزبد ابن الزبعرى حيث قال: كثر الله من الزقوم في داركم، فإنه التمر بالزبد بلغة اليمن. وجائز أن يقول كلاهما ذلك. فافتتن أيضا لهذه المقالة بعض الضعفاء، فأخبر الله تعالى نبيه عليه السلام أنه إنما جعل الاسراء وذكر شجرة الزقوم فتنة واختبارا ليكفر من سبق عليه الكفر ويصدق من سبق له الايمان. كما روى أن أبا بكر الصديق رضى الله عنه قيل له صبيحة الاسراء: إن صاحبك يزعم أنه جاء البارحة من بيت المقدس فقال: إن كان قال ذلك فلقد صدق. فقيل له: أتصدقه قبل أن تسمع منه؟ فقال: أبن عقولكم؟ أنا أصدقه بخبر السماء، فكيف لا أصدقه بخبر بيت المقدس، والسماء أبعد منها بكثير.
__________
(1). راجع ج 11 ص 350.

قلت: ذكر هذا الخبر ابن إسحاق، ونصه: قال كان من الحديث فيما بلغني عن مسراه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن عبد الله بن مسعود وأبى سعيد الخدري وعائشة ومعاوية بن أبى سفيان والحسن بن أبى الحسن وابن شهاب الزهري وقتادة وغيرهم من أهل العلم وام هانئ بنت أبى طالب، ما اجتمع في هذا الحديث، كل يحدث عنه بعض ما ذكر من أمره حين أسرى به صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان في مسراه وما ذكر عنه بلاء وتمحيص وأمر من أمر الله عز وجل في قدرته وسلطانه فيه عبرة لاولى الألباب، وهدى ورحمة وثبات لمن آمن وصدق وكان من أمر الله تعالى على يقين، فأسرى به صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كيف شاء وكما شاء ليريه من آياته ما أراد، حتى عاين ما عاين من أمره وسلطانه العظيم، وقدرته التي يصنع بها ما يريد. وكان عبد الله بن مسعود فيما بلغني عنه يقول: أتى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالبراق- وهى الدابة التي كانت تحمل عليها الأنبياء قبله تضع حافرها في منتهى طرفها- فحمل عليها، ثم خرج به صاحبه يرى الآيات فيما بين السماء والأرض، حتى انتهى إلى بيت المقدس، فوجد فيه إبراهيم وموسى وعيسى في نفر من الأنبياء قد جمعوا له فصلى بهم ثم أتى بثلاثة آنية: إناء فيه لبن وإناء فيه خمر، وإناء فيه ماء. قال: فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" فسمعت قائلا يقول حين عرضت على إن أخذ الماء فغرق وغرقت أمته وإن أخذ الخمر فغوى وغوت أمته وإن أخذ اللبن فهدى وهديت أمته قال فأخذت إناء اللبن فشربت فقال لي جبريل هديت وهديت أمتك يا محمد". قال ابن إسحاق: وحدثت عن الحسن أنه قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" بينما أنا نائم في الحجر جاءني جبريل عليه السلام فهمزني بقدمه فجلست فلم أر شيئا ثم عدت لمضجعي فجاءني الثانية فهمزني بقدمه فجلست فلم أر شيئا فعدت لمضجعي فجاءني الثالثة فهمزني بقدمه فجلست فأخذ بعضدي فقمت معه فخرج إلى باب المسجد فإذا دابة أبيض بين البغل والحمار في فخذيه جناحان يحفز بهما رجليه يضع حافره في منتهى طرفه فحملني عليه ثم خرج معى لا يفوتني ولا أفوته".

قال ابن إسحاق: وحدثت عن قتادة أنه قال: حدثت أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:" لما دنوت منه لأركبه شمس «1» فوضع جبريل يده على معرفته ثم قال ألا تستحي يا براق مما تصنع فوالله ما ركبك عبد لله قبل محمد أكرم عليه منه قال فاستحيا حتى أرفض عرقا ثم قر حتى ركبته". قال الحسن في حديثه: فمضى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومضى معه (جبريل) حتى انتهى إلى بيت المقدس، فوجد فيه إبراهيم وموسى وعيسى في نفر من الأنبياء، فأمهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فصلى بهم ثم أتى بإناءين: في أحدهما خمر وفى الآخر لبن، قال: فأخذ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إناء اللبن فشرب منه وترك إناء الخمر. قال: فقال له جبريل: هديت الفطرة وهديت أمتك وحرمت عليكم الخمر. ثم انصرف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى مكة، فلما أصبح غدا على قريش فأخبرهم الخبر، فقال أكثر الناس: هذا والله الامر البين والله إن العير لتطرد شهرا من مكة إلى الشام، مدبرة شهرا ومقبلة شهرا، فيذهب ذلك محمد في ليلة واحدة ويرجع إلى مكة قال: فارتد كثير ممن كان أسلم، وذهب الناس إلى أبى بكر فقالوا: هل لك يا أبا بكر في صاحبك يزعم أنه قد جاء هذه الليلة بيت المقدس، وصلي فيه ورجع إلى مكة. قال فقال أبو بكر الصديق رضى الله عنه: إنكم تكذبون عليه. فقالوا: بلى، ها هو ذا في المسجد يحدث به الناس. فقال أبو بكر: والله لئن كان قاله لقد صدق فما يعجبكم من ذلك فوالله إنه ليخبرني إن الخبر ليأتيه من السماء إلى الأرض في ساعة من ليل أو نهار فأصدقه، فهذا أبعد مما تعجبون منه. ثم أقبل حتى انتهى إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا نبى الله، أحدثت هؤلاء أنك جئت بيت المقدس هذه الليلة؟ قال" نعم" قال: يا نبى الله، فصفه لي فإنى قد جئته؟ فقال الحسن: فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" رفع لي حتى نظرت إليه" فجعل
رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصفه لابي بكر ويقول أبو بكر رضى الله عنه: صدقت، أشهد أنك رسول الله. كلما
__________
(1). شمست الدابة والقرس تشمس: شردت وجمحت ومنعت ظهرها.

وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (61) قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (62)

وصف له منه شيئا قال: صدقت، أشهد أنك رسول الله. قال: حتى إذا انتهى قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لابي بكر رضى الله عنه:" وأنت يا أبا بكر الصديق" فيومئذ سماه الصديق. قال الحسن: وأنزل الله تعالى فيمن ارتد عن الإسلام لذلك:" وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً". فهذا حديث الحسن عن مسري رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما دخل فيه من حديث قتادة. وذكر باقى الاسراء عمن تقدم في السيرة. وقال ابن عباس: هذه الشجرة بنو أمية، وأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نفى الحكم. وهذا قول ضعيف محدث والسورة مكية، فيبعد هذا التأويل، إلا أن تكون هذه الآية مدنية ولم يثبت ذلك. وقد قالت عائشة لمروان: لعن الله أباك وأنت في صلبه فأنت بعض «1» من لعنة الله. ثم قال:" وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ" ولم يجز في القرآن لعن هذه الشجرة، ولكن الله لعن الكفار وهم آكلوها. والمعنى: والشجرة الملعونة في القرآن آكلوها. ويمكن أن يكون هذا على قول العرب لكل طعام مكروه ضار: ملعون. وقال ابن عباس: الشجرة الملعونة هي هذه الشجرة التي تلتوي على الشجر فتقتله، يعنى الكشوث. (وَنُخَوِّفُهُمْ) أي بالزقوم. (فَما يَزِيدُهُمْ) التخويف إلا الكفر.

[سورة الإسراء (17): الآيات 61 الى 62]
وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً (61) قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً (62)
قوله تعالى: وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) تقدم ذكر كون الشيطان عدو الإنسان، فانجر الكلام إلى ذكر آدم. والمعنى: اذكر بتمادي هؤلاء المشركين وعتوهم على ربهم قصة إبليس حين عصى ربه وأبى السجود، وقال ما قال، وهو ما أخبر الله تعالى في قوله تعالى:
__________
(1). هذه عبارة الفخر الرازي. والذي في الأصول:" فأنتقطط من لعنة الله". والصواب ما في النهاية: فأنت فضض من لعنة. أي قطعة منها.

قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا (63)

(فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً) أي من طين. وهذا استفهام إنكار. وقد تقدم القول في خلق آدم في" البقرة، والانعام «1»" مستوفى. (قالَ أَرَأَيْتَكَ) أي قال إبليس. والكاف توكيد للمخاطبة. (هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ) أي فضلته على. وراي جوهر النار خيرا من جوهر الطين ولم يعلم أن الجواهر متماثلة. وقد تقدم هذا في الأعراف «2». و" هذَا" نصب ب أرأيت." الَّذِي" نعته. والإكرام: اسم جامع لكل ما يحمد. وفى الكلام حذف تقديره: أخبرني عن هذا الذي فضلته على، لم فضلته وقد خلقتني من نار وخلقته من طين؟ فحذف لعلم السامع. وقيل: لا حاجة إلى تقدير الحذف، أي أترى هذا الذي كرمته على لأفعلن به كذا وكذا. ومعنى (لَأَحْتَنِكَنَّ) في قول ابن عباس: لأستولين عليهم. وقاله الفراء. مجاهد: لاحتوينهم. ابن زيد: لأضلنهم. والمعنى متقارب، أي لاستأصلن ذريته بالإغواء والإضلال، ولاجتاحنهم. وروى عن العرب: احتنك الجراد الزرع إذا ذهب به كله. وقيل: معناه لاسوقنهم حيث شئت وأقودنهم حيث أردت. ومن قولهم: حنكت الفرس أحنكه وأحنكه حنكا إذا جعلت في فيه الرسن. وكذلك احتنكه. والقول الأول قريب من هذا، لأنه إنما يأتي على الزرع بالحنك. وقال الشاعر:
أشكو إليك سنة قد أجحفت ... جهدا إلى جهد بنا وأضعفت
واحتنكت أموالنا واجتلفت «3»

(إِلَّا قَلِيلًا) يعنى المعصومين، وهم الذين ذكرهم الله في قوله:" إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ" وإنما قال إبليس ذلك ظنا، كما قال الله تعالى:" وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ «4»" أو علم من طبع البشر تركب الشهوة فيهم، أو بنى على قول الملائكة:" أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ «5» فِيها". وقال الحسن: ظن ذلك لأنه وسوس إلى آدم عليه السلام فلم يجد له عزما.

[سورة الإسراء (17): آية 63]
قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً (63)
__________
(1). راجع ج 1 ص 161. 279 وج 7 ص 168 و171. [.....]
(2). راجع ج 1 ص 161. 279 وج 7 ص 168 و171.
(3). أي أذهبت.
(4). راجع ج 14 ص 291.
(5). راجع ج 1 ص 161. 279 وج 7 ص 168 و171.

وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (64)

قوله تعالى: قال (اذْهَبْ) هذا أمر إهانة، أي اجهد جهدك فقد أنظرناك أي أطاعك من ذرية آدم. (فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً) أي وافرا، عن مجاهد وغيره. وهو نصب على المصدر، يقال: وفرته أفره وفرا، ووفر المال بنفسه يفر وفورا فهو وافر، فهو لازم ومتعد.

[سورة الإسراء (17): آية 64]
وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (64)
فيه ست مسائل: الاولى- قوله تعالى: (وَاسْتَفْزِزْ) أي استزل واستخف. وأصله القطع، ومنه تفزز الثوب إذا انقطع «1». والمعنى استزله بقطعك إياه عن الحق. واستفزه الخوف أي استخفه. وقعد مستفزا أي غير مطمئن." وَاسْتَفْزِزْ" أمر تعجيز، أي أنت لا تقدر على إضلال أحد، وليس لك على أحد سلطان فافعل ما شئت. الثانية- قوله تعالى: (بِصَوْتِكَ) وصوته كل داع يدعو إلى معصية الله تعالى، عن ابن عباس. مجاهد: الغناء والمزامير واللهو. الضحاك: صوت المزمار. وكان آدم عليه السلام أسكن أولادها بيل أعلى الجبل، وولد قابيل أسفله، وفيهم بنات حسان، فزمر اللعين فلم يتمالكوا أن انحدروا فزنوا ذكره الغزنوي. وقيل:" بِصَوْتِكَ" بوسوستك. الثالثة- قوله تعالى: (وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ) أصل الاجلاب السوق بجلبة من السائق، يقال: أجلب إجلابا. والجلب والجلبة: الأصوات، تقول منه: جلبوا بالتشديد. وجلب الشيء يجلبه ويجلبه جلبا وجلبا. وجلبت الشيء إلى نفسي واجتلبته بمعنى. وأجلب على العدو إجلابا، أي جمع عليهم. معنى فال أجمع عليهم كل ما تقدر عليه من مكايدك.
__________
(1). لم نجد في كتب اللغة" تفزز الثوب" بزائين بهذا المعنى، وإنما هو" تفزز" بزاء ثم راء. فليلاحظ.

وقال أكثر المفسرين: يريد كل راكب وماش في معصية الله تعالى. وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة: إن له خيلا ورجلا من الجن والانس. فما كان من راكب وماش يقاتل في معصية الله فهو من خيل إبليس ورجالته. وروى سعيد بن جبير ومجاهد عن ابن عباس قال: كل خيل سارت في معصية الله، وكل رجل مشى في معصية الله، وكل مال أصيب من حرام، وكل ولد بغية فهو للشيطان. والرجل جمع راجل، مثل صحب وصاحب. وقرا حفص" وَرَجِلِكَ" بكسر الجيم وهما لغتان، يقال: رجل ورجل بمعنى راجل. وقرا عكرمة وقتادة" ورجالك" على الجمع. الرابعة- (وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ) أي اجعل لنفسك شركة في ذلك. فشركته في الأموال إنفاقها في معصية الله، قاله الحسن. وقيل: هي التي أصابوها من غير حلها، قاله مجاهد. ابن عباس: ما كانوا يحرمونه من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام. وقاله قتادة. الضحاك: ما كانوا يذبحونه لآلهتهم. والأولاد قيل: هم أولاد الزنى، قاله مجاهد والضحاك وعبد الله بن عباس. وعنه أيضا: هو ما قتلوا من أولادهم وأتوا فيهم من الجرائم. وعنه أيضا: هو تسميتهم عبد الحارث وعبد العزى وعبد اللات وعبد الشمس ونحوه. وقيل: هو صبغة أولادهم في الكفر حتى هودوهم ونصروهم، كصنع النصارى بأولادهم بالغمس في الماء الذي لهم، قال قتادة. وقول خامس- روى عن مجاهد قال: إذا جامع الرجل ولم يسم انطوى الجان على إحليله فجامع معه، فذلك قوله تعالى:" لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ «1»" وسيأتي. وروى من حديث عائشة قالت قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" إن فيكم مغربين" قلت: يا رسول الله، وما المغربون؟ قال:" الذين يشترك فيهم الجن". رواه الترمذي الحكيم في (نوادر الأصول). قال الهروي: سموا مغربين لأنه دخل فيهم عرق غريب. قال الترمذي الحكيم: فللجن مساماة «2» بابن آدم في الأمور والاختلاط، فمنهم من يتزوج فيهم، وكانت بلقيس ملكة سبأ أحد أبويها من الجن. وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
__________
(1). راجع ج 17 ص 180 وص 188.
(2). المساماة: المباراة والمفاخرة. مسألة التزاوج بين الانس والجن لا يقرها العلم. محققة.

إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (65)

الخامسة- قوله تعالى: (وَعِدْهُمْ) أي منهم الأماني الكاذبة، وأنه لا قيامة ولا حساب، وأنه إن كان حساب وجنة ونار فأنتم أولى بالجنة من غيركم. يقويه قوله تعالى:" يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً «1»" أي باطلا. وقبل" وَعِدْهُمْ" أي عدهم النصر على من أرادهم بسوء. وهذا الامر للشيطان تهدد ووعيد له. وقيل: استخفاف به وبمن اتبعه. السادسة- في في الآية ما يدل على تحريم المزامير والغناء واللهو، لقوله:" وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ" على قول مجاهد وما كان من صوت الشيطان أو فعله وما يتحسنه فواجب التنزه عنه. وروى نافع عن ابن عمر انه سمع صوت زمارة فوضع إصبعيه في أذنيه، وعدل راحته عن الطريق وهو يقول: يا نافع! اتسمع؟ فأقول نعم، فمضى حتى قلت له لا، فوضع يديه وأعاد راحلته إلى الطريق وقال: رأيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سمع [صوت ] زمارة راع فصنع مثل هذا. وقال علماؤنا: إذا كان هذا فعلهم في حق صوت لا يخرج عن الاعتدال، فكيف بغناء أهل هذا الزمان وزمرهم. وسيأتي لهذا مزيد بيان في سورة" لقمان «2»" أن شاء الله تعالى.

[سورة الإسراء (17): آية 65]
إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً (65)
قوله تعالى: (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) قال ابن عباس: هم المؤمنون. وقد تقدم الكلام فيه «3». (وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلًا) أي عاصما من القبول من إبليس، وحافظا من كيده وسوء مكره.

[سورة الإسراء (17): آية 66]
رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (66)
__________
(1). راجع ج 5 ص 120.
(2). راجع ج 14 ص 51 فما بعد.
(3). راجع ص 28 من هذا الجزء.

وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا (67)

قوله تعالى: (رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ) الإزجاء: السوق، ومنه قوله تعالى:" أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً «1»". وقال الشاعر: «2»
يا أيها الراكب المزجى مطيته ... سائل بنى أسد ما هذه الصوت
وإزجاء الفلك: سوقه بالريح اللينة. والفلك هنا جمع، وقد تقدم «3». والبحر الماء الكثير عذبا كان أو ملحا، وقد غلب هذا الاسم على المشهور «4» وهذه الآية توقيف على آلاء الله وفضله عند عباده، أي ربكم الذي أنعم عليكم بكذا وكذا فلا تشركوا به شيئا. (لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) أي في التجارات. وقد تقدم «5». (إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً).

[سورة الإسراء (17): آية 67]
وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً (67)
قوله تعالى: (وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ)" الضُّرُّ" لفظ يعم خوف الغرق والإمساك عن الجري. وأهوال حالاته اضطرابه وتموجه. (ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ)" ضَلَّ" معناه تلف وفقد، وهى عبارة تحقير لمن يدعى إلها من دون الله. المعنى في هذه الآية: أن الكفار إنما يعتقدون في أصنامهم أنها شافعة، وأن لها فضلا. وكل واحد منهم بالفطرة يعلم علما لا يقدر على مدافعته أن الأصنام لا فعل لها في الشدائد العظام، فوقفهم الله من ذلك على حالة البحر حيث تنقطع الحيل. (فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ) أي عن الإخلاص. (وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً) الإنسان هنا الكافر. وقيل: وطبع الإنسان كفورا للنعم إلا من عصمه الله، فالإنسان لفظ الجنس.

[سورة الإسراء (17): آية 68]
أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً (68)
__________
(1). راجع ج 12 ص 287 فما بعد.
(2). هو رويشد بن كثير الطائي، كما في اللسان.
(3). راجع ج 2 ص 195، وص 413.
(4). كذا في الأصول. أي البجحر الملح. [.....]
(5). راجع ج 2 ص 195، وص 413.

أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا (69)

قوله تعالى: (أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ) بين أنه قادر على هلاكهم في البر وإن سلموا من البحر. والخسف: أن تنهار الأرض بالشيء، يقال: بئر خسيف إذا انهدم أصلها. وعين خاسف أي غارت حدقتها في الرأس. وعين من الماء خاسفة أي غاز ماؤها. وخسفت الشمس أي غابت «1» عن الأرض. وقال أبو عمرو: والخسيف البئر التي تحفر في الحجارة فلا ينقطع ماؤها كثرة. والجمع خسف. وجانب البر: ناحية الأرض، وسماه جانبا لأنه يصير بعد الخسف جانبا. وأيضا فإن البحر جانب والبر جانب. وقيل: إنهم كانوا على ساحل البحر، وساحله جانب البر، وكانوا فيه آمنين من أهوال البحر، فحذرهم ما أمنوه من البر كما حذرهم ما خافوه من البحر. (أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً) يعنى ريحا شديدة، وهى التي ترمى بالحصباء، وهى الحصى الصغار، قاله أبو عبيدة والقتبي. وقال قتادة: يعنى حجارة من السماء تحصبهم، كما فعل بقوم لوط. ويقال للسحابة التي ترمى بالبرد: صاحب، وللريح التي تحمل التراب والحصباء حاصب وحصبة أيضا. قال لبيد:
جرت عليها أن خوت من أهلها ... أذيالها كل عصوف حصبه
وقال الفرزدق:
مستقبلين شمال الشام يضربنا ... بحاصب كنديف القطن منثور
(ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا) أي حافظا ونصيرا يمنعكم من بأس الله.

[سورة الإسراء (17): آية 69]
أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً (69)
قوله تعالى: (أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى ) يعنى في البحر. (فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ) القاصف: الريح الشديدة التي تكسر بشدة، من قصف الشيء يقصفه، أي كسره بشدة. والقصف: الكسر، يقال: قصفت الريح السفينة. وريح قاصف:
__________
(1). أولى أن يقال: غاب نورها.

وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)

شديدة. ورعد قاصف: شديد الصوت. يقال: قصف الرعد وغيره قصيفا. والقصيف: هشيم الشجر. والتقصف التكسر. والقصف أيضا: اللهو واللعب، يقال: إنها مولدة. (فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ) أي بكفركم. وقرا ابن كثير وأبو عمرو" نخسف بكم"" أو نرسل عليكم"" أن نعيدكم"" فنرسل عليكم"" فنغرقكم" بالنون في الخمسة على التعظيم، لقوله:" عَلَيْنا" الباقون بالياء، لقوله في الآية قبل:" إِيَّاهُ". وقرا أبو جعفر وشيبة ورويس ومجاهد" فتغرقكم" بالتاء نعتا للريح. وعن الحسن وقتادة" فيغرقكم" بالياء مع التشديد في الراء. وقرا أبو جعفر" الرياح" هنا وفى كل القرآن. وقيل: إن القاصف المهلكة في البر، والعاصف المغرقة في البحر، حكاه الماوردي. (ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً) قال مجاهد: ثائرا. النحاس: وهو من الثأر. وكذلك يقال لكل من طلب بثأر أو غيره: تبيع وتابع، ومنه" فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ «1»" أي مطالبة.

[سورة الإسراء (17): آية 70]
وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً (70)
فيه ثلاث مسائل «2»: الاولى- قوله تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ) لما ذكر من الترهيب ما ذكر بين النعمة عليهم أيضا." كَرَّمْنا" تضعيف كرم، أي جعلنا لهم كرما أي شرفا وفضلا. وهذا هو كرم نفى النقصان لا كرم المال. وهذه الكرامة يدخل فيها خلقهم على هذه الهيئة في امتداد القامة وحسن الصورة، وحملهم في البر والبحر مما لا يصح لحيوان سوى بنى أدم أن يكون يتحمل بإرادته وقصده وتدبيره. وتخصيصهم بما خصهم به من المطاعم والمشارب والملابس، وهذا لا يتسع فيه حيوان اتساع بنى آدم، لأنهم يكسبون المال خاصة دون الحيوان، ويلبسون الثياب ويأكلون المركبات من الأطعمة. وغاية كل حيوان يأكل لحما نيئا أو طعاما غير
__________
(1). راجع ج 2 ص 244.
(2). يلاحظ أن المسائل أربع.

مركب. وحكى الطبري عن جماعة أن التفضيل هو أن يأكل بيده وسائر الحيوان بالفم. وروى عن ابن عباس، ذكره المهدوي والنحاس، وهو قول الكلبي ومقاتل، ذكره الماوردي. وقال الضحاك: كرمهم بالنطق والتمييز. عطاء: كرمهم بتعديل القامة وامتدادها. يمان: بحسن الصورة. محمد بن كعب: بأن جعل محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منهم. وقيل أكرم الرجال باللحى والنساء بالذوائب. وقال محمد بن جرير الطبري: بتسليطهم على سائر الخلق، وتسخير سائر الخلق لهم. وقيل: بالكلام والخط. وقيل: بالفهم والتمييز. والصحيح الذي يعول عليه أن التفضيل إنما كان بالعقل الذي هو عمدة التكليف،. وبه يعرف الله ويفهم كلامه، ويوصل إلى نعيمه وتصديق رسله، إلا أنه لما لم ينهض بكل المراد من العبد بعثت الرسل وأنزلت الكتب. فمثال الشرع الشمس، ومثال العقل العين، فإذا فتحت وكانت سليمة رأت الشمس وأدركت تفاصيل الأشياء. وما تقدم من الأقوال بعضه أقوى من بعض. وقد جعل الله في بعض الحيوان خصالا يفضل بها ابن آدم أيضا، كجرى الفرس وسمعه وإبصاره، وقوه الفيل وشجاعة الأسد وكرم الديك. وإنما التكريم والتفضيل بالعقل كما بيناه. والله اعلم. الثانية- قالت فرقة: هذه الآية تقتضي تفضيل الملائكة على الانس والجن من حيث إنهم المستثنون في قوله تعالى:"- لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ
«1» وهذا غير لازم من الآية، بل التفضيل فيها بين الانس والجن، فإن هذه الآية إنما عدد الله فيها على بنى آدم ما خصهم به من سائر الحيوان، والجن هو الكثير المفضول، والملائكة هم الخارجون عن الكثير المفضول، ولم تتعرض الآية لذكرهم، بل يحتمل أن الملائكة أفضل، ويحتمل العكس، ويحتمل التساوي، وعلى الجملة فالكلام لا ينتهى في هذه المسألة إلى القطع. وقد تحاشي قوم من الكلام في هذا كما تحاشوا من الكلام في تفضيل بعض الأنبياء على بعض، إذ في الخبر" لا تخايروا بين الأنبياء ولا تفضلوني على يونس بن متى". وهذا ليس بشيء، لوجود
__________
(1). راجع ج ص 26.

النص في القرآن في التفضيل بين الأنبياء. وقد بيناه في البقرة «1» ومضى فيها الكلام في تفضيل الملائكة والمؤمن «2». الثالثة- قوله تعالى: (وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) يعنى لذيذ المطاعم المشارب. قال مقاتل: السمن والعسل والزبد والتمر والحلوى، وجعل رزق غيرهم ما لا يخفى عليكم من التبن والعظام وغيرها. (وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا) أي على البهائم والدواب والوحش والطير بالغلبة والاستيلاء، والثواب والجزاء والحفظ والتمييز وإصابة الفراسة. الرابعة- هذه الآية ترد ما روى عن عائشة رضى الله عنها، قالت قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" أحرموا أنفسكم طيب الطعام فإنما قوى الشيطان أن يجرى في العروق منها". وبه يستدل كثير من الصوفية في ترك أكل الطيبات، ولا أصل له، لان القرآن يرده، والسنة الثابتة بخلافه، على ما تقرر في غير موضع. وقد حكى أبو حامد الطوسي قال: كان سهل يقتات من ورق النبق مدة. واكل دقاق ورق التين ثلاث سنين. وذكر إبراهيم ابن البنا قال: صحبت ذا النون من إخميم إلى الإسكندرية، فلما كان وقت إفطاره أخرجت قرصا وملحا كان معى، وقلت: هلم. فقال لي: ملحك مدقوق؟ قلت نعم. قال: لست تفلح! فنظرت إلى مزوده وإذا فيه قليل سويق شعير يسف منه. وقال أبو يزيد: ما أكلت شيئا مما يأكله بنو آدم أربعين سنة. قال علماؤنا: وهذا مما لا يجوز حمل النفس عليه، لان الله تعالى أكرم الآدمي بالحنطة وجعل قشورها لبهائمهم، فلا يصح مزاحمة الدواب في أكل التبن، وأما سويق الشعير فإنه يورث القولنج «3»، وإذا اقتصر الإنسان على خبز الشعير والملح الجريش فإنه ينحرف مزاجه، لان خبز الشعير بارد مجفف، والملح يابس قابض يضر الدماغ والبصر. وإذا مالت النفس إلى ما يصلحها فمنعت فقد قوومت حكمة البارئ سبحانه بردها، ثم يؤثر ذلك في البدن، فكان هذا الفعل مخالفا للشرع والعقل. ومعلوم أن البدن
__________
(1). راجع ج 3 ص 261.
(2). راجع ج 1 ص 289.
(3). القولنج: مرض معوي مؤلم يعسر معه خروج الثفل والريح، معرب.

يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (71)

مطية الآدمي، ومتى لم يرفق بالمطية لم تبلغ. وروى عن إبراهيم بن أدهم أنه اشترى زبدا وعسلا وخبز حوارى، فقيل له: هذا كله؟ فقال: إذا وجدنا أكلنا أكل الرجال، وإذا عدمنا صبرنا صبر الرجال. وكان الثوري يأكل اللحم والعنب والفالوذج «1» ثم يقوم إلى الصلاة. ومثل هذا عن السلف كثير. وقد تقدم منه ما يكفى في المائدة «2» والأعراف «3» وغيرهما. والأول غلو في الدين إن صح عنهم." وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ «4»".

[سورة الإسراء (17): آية 71]
يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (71)
قوله تعالى: (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ) روى الترمذي عن أبى هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله تعالى:" يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ قال:" يدعى أحدهم فيعطى كتابه بيمينه، ويمد له في جسمه ستون ذراعا، ويبيض وجهه ويجعل على رأسه تاج من لؤلؤ يتلألأ فينطلق إلى أصحابه فيرونه من بعيد فيقولون اللهم ائتنا بهذا وبارك لنا في هذا حتى يأتيهم فيقول أبشروا لكل منكم مثل هذا- قال- وأما الكافر فيسود وجهه ويمد له في جسمه ستون ذرعا على صورة آدم ويلبس تاجا فيراه أصحابه فيقولون نعوذ بالله من شر هذا! اللهم لا تأتنا بهذا. قال: فيأتيهم فيقولون اللهم أخره. فيقول أبعدكم الله فإن لكل رجل منكم مثل هذا". قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب. ونظير هذا قوله:" وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ «5»". والكتاب يسمى إماما، لأنه يرجع إليه فى تعرف أعمالهم. وقال ابن عباس والحسن وقتادة والضحاك:" بِإِمامِهِمْ" أي بكتابهم، أي بكتاب كل إنسان منهم الذي فيه عمله، دليله" فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ". وقال ابن زيد: بالكتاب المنزل عليهم. أي يدعى كل إنسان
__________
(1). الفالوذج: حلواء تعمل من الدقيق والماء والعسل. وفية لغات (عن الألفاظ الفارسية).
(2). راجع ج 6 ص 260.
(3). راجع ج 7 ص 195.
(4). راجع ج 17 ص 262 فما بعد.
(5). راجع ج 16 ص 174

بكتابه الذي كان يتلوه، فيدعى أهل التوراة بالتوراة، واهل القرآن بالقرآن، فيقال: يأهل القرآن، ماذا عملتم، هل امتثلتم أو مرأة هل اجتنبتم نواهيه! وهكذا. وقال مجاهد:" بِإِمامِهِمْ" بنبيهم، والامام من يؤتم به. فيقال: هاتوا متبعي إبراهيم عليه السلام، هاتوا متبعي موسى عليه السلام، هاتوا متبعي الشيطان، هاتوا متبعي الأصنام. فيقوم أهل الحق فيأخذون كتابهم بأيمانهم، ويقوم أهل الباطل فيأخذون كتابهم بشمالهم. وقاله قتادة. وقال على رضى الله عنه: بإمام عصرهم. وروى عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله:" يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ" فقال:" كل يدعى بإمام زمانهم وكتاب ربهم وسنة نبيهم فيقول هاتوا متبعي إبراهيم هاتوا متبعي موسى هاتوا متبعي عيسى هاتوا متبعي محمد- عليهم أفضل الصلوات والسلام- فيقوم أهل الحق فيأخذون كتابهم بأيمانهم، ويقول: هاتوا متبعي الشيطان هاتوا متبعي رؤساء الضلالة إمام هدى وإمام ضلالة". وقال الحسن وأبو العالية:" بِإِمامِهِمْ" أي بأعمالهم. وقاله ابن عباس. فيقال: أين الراضون بالمقدور، أين الصابون عن المحذور. وقيل: بمذاهبهم، فيدعون بمن كانوا يأتمون به في الدنيا: يا حنفي، يا شافعي، يا معتزلي، يا قدري، ونحوه، فيتبعونه في خير أو شر أو على حق أو باطل، وهذا معنى قوله أبى عبيدة. وقد تقدم. وقال أبو هريرة: يدعى أهل الصداقة من باب الصداقة، واهل الجهاد من باب الجهاد ...، الحديث بطوله. أبو سهل: يقال أين فلان المصلى والصوام، وعكسه الدفاف «1» والنمام. وقال محمد بن كعب:" بِإِمامِهِمْ" بأمهاتهم. وإمام جمع آم. قالت الحكماء: وفى ذلك ثلاثة أوجه من الحكمة، أحدها- لأجل عيسى. والثاني- إظهار لشرف الحسن والحسين. والثالث- لئلا يفتضح أولاد الزنى. قلت: وفى هذا القول نظر، فإن في الحديث الصحيح عن ابن عمر قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيام يرفع لكل غادر لواء فيقال هذه غدرة فلان بن فلان" خرجه مسلم والبخاري. فقوله:" هذه غدرة فلان ابن فلان"
__________
(1). الدفاف: الضارب بالدف. وفى الأصول:" الزفاف" بالزاي المعجمة. [.....]

وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (72)

دليل على أن الناس يدعون في الآخرة بأسمائهم وأسماء آبائهم، وهذا يرد على من قال: إنما يدعون بأسماء أمهاتهم لان في ذلك سترا على آبائهم. والله أعلم. قوله تعالى: (فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ) هذا يقوى قول من قال:" بِإِمامِهِمْ" بكتابهم. ويقويه أيضا قوله:" وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ «1»". (فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا) الفتيل الذي في شق النواة. وقد مضى في" النساء «2»".

[سورة الإسراء (17): آية 72]
وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً (72)
قوله تعالى: (وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى ) أي في الدنيا عن وإبصار الحق. (فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ) (أَعْمى ). وقال عكرمة: جاء نفر من أهل اليمين إلى ابن عباس فسألوه عن هذه الآية فقال: اقرءوا ما قبلها رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ «3»- إلى- تَفْضِيلًا. قال ابن عباس: من كان في هذه النعم والآيات التي رأى أعمى فهو عن الآخرة التي لم يعاين أعمى وأضل سبيلا. وقيل: المعنى من عمى عن النعم التي أنعم الله بها عليه في الدنيا فهو عن نعم الآخرة أعمى. وقيل: المعنى من كان في الدنيا التي أمهل فيها وفسح له ووعد بقبول التوبة أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا. وقيل: ومن كان في الدنيا أعمى عن حجج الله بعثه الله يوم القيامة أعمى، كما قال:" وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ «4» أَعْمى " الآيات. وقال:" وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ". وقيل: المعنى في قوله" فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى " في جميع الأقوال: أشد عمى، لأنه من عمى القلب، ولا يقال مثله في عمى العين. قال الخليل وسيبويه: لأنه خلقة بمنزلة
__________
(1). راجع ج 15 ص 11 فما بعد.
(2). راجع ج 5 ص 248.
(3). راجع ص 290 فما بعد من هذا الجزء.
(4). راجع ج 11 ص 257 فما بعد.

وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73)

اليد والرجل. فلم يقل ما أعماه كما لا يقال ما أيداه. الأخفش: لم يقل فيه ذلك لأنه على أكثر من ثلاثة أحرف، وأصله أعمى «1». وقد أجاز بعض النحويين ما أعماه وما أعشاه، لان فعله عمى وعشى. وقال الفراء: حدثني بالشام شيخ بصرى أنه سمع العرب تقول: ما أسود شعره. قال الشاعر:
ما في المعالي لكم ظل ولا ثمر ... وفي المخازي لكم أشباح أشياخ
أما الملوك فأنت اليوم ألأمهم ... لؤما وأبيضهم سربال طباخ
وأمال أبو بكر وحمزة والكسائي وخلف الحرفين" أعمى" و" أعمى" وفتح الباقون. وأمال أبو عمرو الأول وفتح الثاني. (وَأَضَلُّ سَبِيلًا) يعنى أنه لا يجد طريقا إلى الهداية.

[سورة الإسراء (17): آية 73]
وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (73)
قال سعيد بن جبير: كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستلم الحجر الأسود في طوافه، فمنعته قريش وقالوا: لا ندعك تستلم حتى ت، لم بآلهتنا. فحدث نفسه وقال:" ما على أن ألم بها بعد أن يدعوني أستلم الحجر والله يعلم أنى لها كاره" فأبى الله تعالى ذلك وأنزل عليه هذه الآية، قال مجاهد وقتادة. وقال ابن عباس في رواية عطاء: نزلت في وفد ثقيف، أتوا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسألوه شططا وقالوا: متعنا بآلهتنا سنة حتى نأخذ ما يهدى لها، فإذا أخذناه كسرناها وأسلمنا، وحرم وأدينا كما حرمت مكة، حتى تعرف العرب فضلنا عليهم، فهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يعطيهم ذلك فنزلت هذه الآية. وقيل: هو قول أكابر قريش للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اطرد عنا هؤلاء السقاط والموالي حتى نجلس معك ونسمع منك، فهم بذلك حتى نهى عنه. وقال قتادة ذكر لنا أن قريشا خلوا برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذات ليلة إلى الصبح يكلمونه ويفخمونه، ويسودونه ويقاربونه، فقالوا: إنك تأتى بشيء لا يأتي به أحد من الناس، وأنت سيدنا يا سدنا، وما زالوا به حتى كاد يقاربهم في بعض ما يريدون،
__________
(1). كذا في الأصول: ولعل الحق: عمى، لان فعله عمى كما قال نفطويه: يقال عمى عن رشده. ومنه يصاغ أفعل التفضيل.

وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75)

ثم عصمه الله من ذلك، وأنزل الله تعالى هذه الآية. ومعنى (لَيَفْتِنُونَكَ) أي يزيلونك. يقال: فتنت الرجل عن رأيه إذا أزلته عما كان عليه، قاله الهروي. وقيل يصرفونك، والمعنى واحد. (عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) أي حكم القرآن، لان في إعطائهم ما سألوه مخالفة لحكم القرآن. (لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ) أي لتختلق علينا غير ما أوحينا إليك، وهو قول ثقيف: وحرم وأدينا كما حرمت مكة، شجرها وطيرها ووحشها، فإن سألتك العرب لم خصصتهم فقل الله أمرني بذلك حتى يكون عذرا لك. (وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا) أي لو فعلت ما أرادوا لاتخذوك خليلا، أي والوك وصافوك، مأخوذ من النخلة (بالضم) وهى الصداقة لممايلته لهم. وقيل:" لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا" أي فقيرا. مأخوذ من الخلة (بفتح الخاء) وهى الفقر لحاجته إليهم.

[سورة الإسراء (17): الآيات 74 الى 75]
وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (74) إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً (75)
قوله تعالى: (وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ) أي على الحق وعصمناك من موافقتهم. (لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ) أي تميل. (شَيْئاً قَلِيلًا) أي ركونا قليلا. قال قتادة: لما نزلت هذه الآية قال عليه السلام:" اللهم لا تكلني نفسي طرفة عين". وقيل: ظاهر الخطاب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وباطنه إخبار عن ثقيف. والمعنى: وإن كادوا ليركنونك، أي كادوا يخبرون عنك بأنك ملت إلى قولهم، فنسب فعلهم إليه مجازا واتساعا، كما تقول لرجل: كدت تقتل نفسك، أي كاد الناس يقتلونك بسبب ما فعلت، ذكره المهدوي. وقيل ما كان منه هم بالركون إليهم، بل المعنى: ولولا فضل الله عليك لكان منك ميل إلى موافقتهم، ولكن تم فضل الله عليك فلم تفعل، ذكره القشيري. وقال ابن عباس: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معصوما، ولكن هذا تعريف للامة لئلا يركن أحد منهم إلى المشركين في شي من أحكام الله تعالى وشرائعه.

وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (76)

وقوله تعالى: إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ أي لو ركنت لأذقناك مثلي عذاب الحياة في الدنيا ومثلي عذاب الممات في الآخرة، قاله ابن عباس ومجاهد وغيرهما. وهذا غاية الوعيد. وكلما كانت الدرجة أعلى كان العذاب عند المخالقة أعظم. قال الله تعالى:" يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ «1»" وضعف الشيء مثله مرتين، وقد يكون الضعف النصيب، كقوله عز وجل:" لِكُلٍّ ضِعْفٌ" أي نصيب. وقد تقدم في الأعراف «2» ..

[سورة الإسراء (17): آية 76]
وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً (76)
هذه الآية قيل إنها مدنية، حسبما تقدم في أول السورة. قال ابن عباس: حسدت اليهود مقام النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالمدينة فقالوا: إن الأنبياء إنما بعثوا بالشام، فإن كنت نبيا فالحق بها، فإنك إن خرجت إليها صدقناك وآمنا بك، فوقع ذلك في قلبه لما يحب من إسلامهم، فرحل من المدينة على مرحلة فأنزل الله هذه الآية. وقال عبد الرحمن بن غنم: غزا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غزوة تبوك لا يريد إلا الشام، فلما نزل تبوك نزل (وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ) بعد ما ختمت السورة، وأمر بالرجوع. وقيل: إنها مكية. قال مجاهد وقتادة: نزلت في هم أهل مكة بإخراجه، ولو أخرجوه لما أمهلوا ولكن الله أمره بالهجرة فخرج، وهذا أصح، لان السورة مكية، ولان ما قبلها خبر عن أهل مكة، ولم يجر لليهود ذكر. وقول:" مِنَ الْأَرْضِ" يريد أرض مكة. كقوله:" فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ «3»" أي أرض مصر، دليله" وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ «4»" يعنى مكة. معناه: هم أهلها بإخراجه، فلهذا أضاف إليها «5» وقال" أَخْرَجَتْكَ". وقيل: هم الكفار كلهم أن يستخفوه من أرض العرب بتظاهرهم عليه فمنعه الله، ولو أخرجوه
__________
(1). راجع ج 14 ص 173.
(2). راجع ج 7 ص 205.
(3). راجع ج 9 ص 241 فما بعد.
(4). راجع ج 16 ص 235.
(5). في الأصول:" إليهم" وهو تحريف.

سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا (77)

من أرض العرب لم يمهلوا، وهو معنى قوله: (وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلًا)، وقرا عطاء ابن أبي رباح" لا يلبثون" الباء مشددة،" خلفك" نافع وابن كثير وأبو بكر وأبو عمرو، ومعناه بعدك، وقرا ابن عامر وحفص وحمزة والكسائي" خِلافَكَ" واختاره أبو حاتم، اعتبارا بقوله:" فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ «1» رَسُولِ اللَّهِ" ومعناه أيضا بعدك، قال الشاعر:
عفت الديار خلافهم فكأنما ... بسط الشواطب بينهن حصيرا
بسط البواسط، في الماوردي، يقال: شطبت المرأة الجريد إذا شفقة لتعمل منه الحصر- قال أبو عبيد: ثم تلقيه الشاطبة إلى المنقية. وقيل:" خلفك" بمعنى بعدك و" خِلافَكَ" بمعنى مخالفتك، ذكره ابن الأنباري،" إِلّ