الاثنين، 27 يونيو 2022

تفسير القرطبي27. و28.

 

27. الجامع لأحكام القرآن = تفسير القرطبي27.
المؤلف : أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي شمس الدين القرطبي (المتوفى : 671هـ)

قوله تعالى: (وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً) قال علي رضي الله عنه: هي الملائكة تسبح بأرواح المؤمنين. الكلبي: هي الملائكة تقبض أرواح المؤمنين، كالذي يسبح في الماء، فأحيانا ينغمس وأحيانا يرتفع، يسلونها سلا رفيقا بسهولة، ثم يدعونها حتى تستريح. وقال مجاهد وأبو صالح: هي الملائكة ينزلون من السماء مسرعين لأمر الله، كما يقال للفرس الجواد سابح: إذا أسرع في جريه. وعن مجاهد أيضا: الملائكة تسبح في نزولها وصعودها. وعنه أيضا: السابحات: الموت يسبح في أنفس بني آدم. وقيل: هي الخيل الغزاة، قال عنترة:
والخيل تعلم حين تس ... - بح في حياض الموت سبحا
وقال امرؤ القيس:
مسح إذا ما السابحات على الونى ... أثرن غبارا بالكديد المركل «1»
قتادة والحسن: هي النجوم تسبح في أفلاكها، وكذا الشمس والقمر، قال الله تعالى: كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ. عطاء: هي السفن تسبح في الماء. ابن عباس: السابحات أرواح المؤمنين تسبح شوقا إلى لقاء الله ورحمته حين تخرج. قوله تعالى: (فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً) قال علي رضي الله عنه: هي الملائكة تسبق الشياطين بالوحي إلى الأنبياء عليهم السلام. وقاله مسروق ومجاهد. وعن مجاهد أيضا وأبي روق: هي الملائكة سبقت ابن آدم بالخير والعمل الصالح. وقيل: تسبق بني آدم إلى العمل الصالح فتكتبه. وعن مجاهد أيضا: الموت يسبق الإنسان. مقاتل: هي الملائكة تسبق بأرواح المؤمنين إلى الجنة. ابن مسعود: هي أنفس المؤمنين تسبق إلى الملائكة الذين يقبضونها وقد عاينت السرور، شوقا إلى لقاء الله تعالى ورحمته. ونحو عن الربيع، قال: هي النفوس تسبق بالخروج عند الموت. وقال قتادة والحسن ومعمر: هي النجوم يسبق بعضها بعضا في السير. عطاء: هي الخيل التي تسبق إلى الجهاد. وقيل: يحتمل أن تكون
__________
(1). مسح: بصب الجري. الونى: الفتور. الكديد: الموضع الغليظ. المركل: الذي يركل بالأرجل. ومعنى البيت: إن الخيل السريعة إذا فترت فأثارت الغبار بأرجلها من التعب جرى هذا الفرس جريا سهلا كما يسح السحاب المطر.

السابقات ما تسبق من الأرواح قبل الأجساد إلى جنة أو نار، قاله الماوردي. وقال الجرجاني: ذكر فَالسَّابِقاتِ بالفاء لأنها مشتقة من التي قبلها، أي واللائي يسبحن فيسبقن، تقول: قام فذهب، فهذا يوجب أن يكون القيام سببا للذهاب، ولو قلت: قام وذهب، لم يكن القيام سببا للذهاب. قوله تعالى: (فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً) قال القشيري: أجمعوا على أن المراد الملائكة. وقال الماوردي: فيه قولان: أحدهما الملائكة، قاله الجمهور. والقول الثاني هي الكواكب السبعة. حكاه خالد بن معدان عن معاذ بن جبل. وفي تدبيرها الامر وجهان: أحدهما تدبير طلوعها وأفولها. الثاني تدبيرها ما قضاه الله تعالى فيها من تقلب الأحوال. وحكى هذا القول أيضا القشيري في تفسيره، وأن الله تعالى علق كثيرا من تدبير أم العالم بحركات النجوم، فأضيف التدبير إليها وإن كان من الله، كما يسمى الشيء باسم ما يجاوره. وعلى أن المراد بالمدبرات الملائكة، فتدبيرها نزولها بالحلال والحرام وتفصيله، قاله ابن عباس وقتادة وغيرهما. وهو إلى الله جل ثناؤه، ولكن لما نزلت الملائكة به سميت بذلك، كما قال عز وجل: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ [الشعراء: 193]. وكما قال تعالى: فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ [البقرة: 97]. يعني جبريل نزله على قلب محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والله عز وجل هو الذي أنزله. وروى عطاء عن ابن عباس: فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً: الملائكة وكلت بتدبير أحوال الأرض في الرياح والأمطار وغير ذلك. قال عبد الرحمن بن ساباط: تدبير أمر الدنيا إلى أربعة، جبريل وميكائيل وملك الموت واسمه عزرائيل وإسرافيل، فأما جبريل فموكل بالرياح والجنود، وأما ميكائيل فموكل بالقطر والنبات، وأما ملك الموت فموكل بقبض الأنفس في البر والبحر، وأما إسرافيل فهو ينزل بالأمر عليهم، وليس من الملائكة أقرب من إسرافيل، وبينه وبين العرش مسيرة خمسمائة عام. وقيل: أي وكلوا بأمور عرفهم الله بها. ومن أول السورة إلى هنا قسم أقسم الله به، ولله أن يقسم بما شاء من خلقه، وليس لنا ذلك إلا به عز وجل. وجواب القسم مضمر، كأنه قال: والنازعات وكذا وكذا لتبعثن ولتحاسبن. أضمر لمعرفة السامعين

بالمعنى، قاله الفراء. ويدل عليه قول تعالى: أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً الست ترى أنه كالجواب لقولهم: أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً نبعث؟ فاكتفى بقوله: أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً؟ وقال قوم: وقع القسم على قوله: إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى [النازعات: 26] وهذا اختيار الترمذي ابن علي. أي فيما قصصت من ذكر يوم القيامة وذكر موسى وفرعون لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى ولكن وقع القسم على ما في السورة مذكورا ظاهرا بارزا أحرى وأقمن من أن يؤتي بشيء ليس بمذكور فيما قال ابن الأنباري: وهذا قبيح، لان الكلام قد طال فيما بينهما. وقيل: جواب القسم هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى لان المعنى قد أتاك. وقيل: الجواب يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ على تقدير ليوم ترجف، فحذف اللام. وقيل: فيه تقديم وتأخير، وتقديره يوم ترجف الراجفة وتتبعها الرادفة والنازعات غرقا. وقال السجستاني: يجوز أن يكون هذا من التقديم والتأخير، كأنه قال: فإذا هم بالساهرة والنازعات. ابن الأنباري: وهذا خطأ، لان الفاء لا يفتح بها الكلام، والأول الوجه. وقيل: إنما وقع القسم على أن قلوب أهل النار تجف، وأبصارهم تخشع، فانتصاب يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ على هذا المعنى، ولكن لم يقع عليه. قال الزجاج: أي قلوب واجفة يوم ترجف، وقيل: انتصب بإضمار اذكر. وتَرْجُفُ أي تضطرب. والراجفة: أي المضطربة كذا قال عبد الرحمن بن زيد، قال: هي الأرض، والرادفة الساعة. مجاهد: الرَّاجِفَةُ الزلزلة (تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ) الصيحة. وعنه أيضا وابن عباس والحسن وقتادة: هما الصيحتان. أي النفختان. أما الاولى فتميت كل شي بإذن الله تعالى، وأما الثانية فتحيي كل شي بإذن الله تعالى. وجاء في الحديث عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (بينهما أربعون سنة) وقال مجاهد أيضا: الرادفة حين تنشق السماء وتحمل الأرض والجبال فتدك دكة واحدة، وذلك بعد الزلزلة. وقيل: الراجفة تحرك الأرض، والرادفة زلزلة أخرى تفني الأرضين". فالله أعلم. وقد مضى في آخر" النمل" «1» ما فيه كفاية في النفخ في الصور. واصل الرجفة الحركة، قال الله تعالى: يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وليست الرجفة هاهنا من
__________
(1). راجع ج 13 ص 239 فما بعدها.

الحركة فقط، بل من قولهم: رجف الرعد يرجف رجفا ورجيفا: أي أظهر الصوت والحركة، ومنه سميت الأراجيف، لاضطراب الأصوات بها، وإفاضة الناس فيها، قال:
أبا لاراجيف يا ابن اللوم توعدني ... وفي الأراجيف خلت اللؤم والخورا «1»
وعن أبي بن كعب أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا ذهب ربع الليل قام ثم قال: [يا أيها الناس اذكروا الله، جاءت الراجفة تتبعها الرادفة، جاء الموت بما فيه [. (قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ) أي خائفة وجلة، قاله ابن عباس وعليه عامة المفسرين. وقال السدي: زائلة عن أماكنها. نظيره إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ [غافر: 18]. وقال المؤرخ: قلقة مستوفزة، مرتكضة «2» غير ساكنة. وقال المبرد: مضطربة. والمعنى متقارب، والمراد قلوب الكفار، يقال وجف القلب يجف وجيفا إذا خفق، كما يقال: وجب يجب وجيبا، ومنه وجيف الفرس والناقة في العدو، والإيجاف حمل الدابة على السير السريع، قال:
بدلن بعد جرة صريفا ... وبعد طول النفس الوجيفا
وقُلُوبٌ رفع بالابتداء وواجِفَةٌ صفتها. وأَبْصارُها خاشِعَةٌ خبرها، مثل قوله وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ [البقرة: 221]. ومعنى خاشِعَةٌ منكسرة ذليلة من هول ما ترى. نظيره: خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ [القلم: 43]. والمعنى أبصار أصحابها، فحذف المضاف. (يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ) أي يقول هؤلاء المكذبون المنكرون للبعث، إذا قيل لهم إنكم تبعثون، قالوا منكرين متعجبين: أنرد بعد موتنا إلى أول الامر، فنعود أحياء كما كنا قبل الموت؟ وهو كقولهم: أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً يقال: رجع فلان في حافرته، وعلى حافرته، أي رجع من حيث جاء، قاله قتادة. وأنشد ابن الاعرابي:
__________
(1). قائله منازل بن ربيعة المنقري في هجو رؤبة والعجاج: والرواية المشهورة للبيت كما في كتب النحو كشرح التصريح وغيره هي:
أبا الأراجيز يا ابن اللؤم توعدني ... وفي الأراجيز- خلت- اللؤم والخور
والأراجيز جمع أرجوزة وهي القصائد الجارية على بحر الرجز: وفي الأراجيز خبر مقدم واللؤم مبتدأ مؤخر وتوسط (خلت) بين المبتدإ والخبر أبطل عملها وهو موضع الشاهد في البيت عند النحاة. وقيل لا يمتنع النصب على أن يقدر مبتدأ أي (أما).
(2). مرتكضة: مضطربة.

أحافرة على صلع وشيب ... معاذ الله من سفه وعار
يقول: أأرجع إلى ما كنت عليه في شبابي من الغزل والصبا بعد أن شبت وصلعت! ويقال: رجع على حافرته: أي الطريق الذي جاء منه. وقولهم في المثل: النقد عند الحافرة. قال يعقوب: أي عند أول كلمة. ويقال: التقى القوم فاقتتلوا عند الحافرة. أي عند أول ما التقوا. وقيل: الْحافِرَةِ العاجلة، أي أينا لمردودون إلى الدنيا فنصبر أحياء كما كنا؟ قال الشاعر:
آليت لا أنساكم فاعلموا ... حتى يرد الناس في الحافرة
وقيل: الْحافِرَةِ: الأرض التي تحفر فيها قبورهم، فهي بمعنى المحفورة، كقوله تعالى: ماءٍ دافِقٍ وعِيشَةٍ راضِيَةٍ. والمعنى أينا لمردودون في قبورنا أحياء. قاله مجاهد والخليل والفراء. وقيل: سميت الأرض الحافرة، لأنها مستقر الحوافر، كما سميت القدم أرضا، لأنها على الأرض. والمعنى أإنا لراجعون بعد الموت إلى الأرض فنمشي على أقدامنا. وقال ابن زيد: الحافرة: النار، وقرا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ. وقال مقاتل وزيد بن أسلم: هي أسم من أسماء النار. وقال ابن عباس: الحافرة في كلام العرب: الدنيا. وقرا أبو حيوة: الحفرة بغير ألف، مقصور من الحافر. وقيل: الحفرة: الأرض المنتنة بأجساد موتاها، من قولهم: حفرت أسنانه، إذا ركبها الوسخ من ظاهرها وباطنها. يقال: في أسنانه حفر، وقد حفرت تحفر حفرا، مثل كسر يكسر كسرا إذا فسدت أصولها. وبنو أسد يقولون: في أسنانه حفر بالتحريك. وقد حفرت مثال تعب تعبا، وهي أردا اللغتين قاله في الصحاح. (أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً) أي بالية متفتتة. يقال: نخر العظم بالكسر: أي بلي وتفتت، يقال: عظام نخرة. وكذا قرأ الجمهور من أهل المدينة ومكة والشام والبصرة، وأختاره أبو عبيد، لان الآثار التي تذكر فيها العظام، نظرنا فيها فرأينا نخرة لا ناخرة. وقرا أبو عمرو وابنه عبد الله وابن عباس وابن مسعود وابن الزبير وحمزة والكسائي وأبو بكر ناخرة بألف، وأختاره الفراء والطبري وأبو معاذ النحوي، لو فاق رءوس الآي. وفي الصحاح: والناخر من العظام

التي تدخل الريح فيه ثم تخرج منه ولها نخير. ويقال: ما بها ناخر، أي ما بها أحد. حكاه يعقوب عن الباهلي. وقال أبو عمرو بن العلاء: الناخرة التي لم تنخر بعد، أي لم تبل ولا بد أن تنخر. وقيل: الناخر المجوفة. وقيل: هما لغتان بمعنى، كذلك تقول العرب: نخر الشيء فهو نخر وناخر، كقولهم: طمع فهو طمع وطامع، وحذر وحاذر، وبخل وباخل، رفره وفارة، قال الشاعر:
يظل بها الشيخ الذي كان بادنا ... يدب على عوج له نخرات
عوج: يعني قوائم. وفي بعض التفسير: ناخرة بالألف: بالية، ونخرة: تنخر فيها الريح أي تمر فيها، على عكس الأول، قال «1»:
من بعد ما صرت عظاما ناخرة

وقال بعضهم: الناخرة: التي أكلت أطرافها وبقيت أوساطها. والنخرة: التي فسدت كلها. قال مجاهد: نخرة أي مرفوتة، كما قال تعالى: عِظاماً وَرُفاتاً ونخرة الريح بالضم: شدة هبوبها. والنخرة أيضا والنخرة مثال الهمزة: مقدم أنف الفرس والحمار والخنزير، يقال: هشم نخرته: أي أنفه. (قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ) أي رجعة خائبة، كاذبة باطلة، أي ليست كائبة، قاله الحسن وغيره. الربيع بن أنس: خاسِرَةٌ على من كذب بها. وقيل: أي هي كرة خسران. والمعنى أهلها خاسرون، كما يقال: تجارة رابحة أي يربح صاحبها. ولا شي أخسر من كرة تقتضي المصير إلى النار. وقال قتادة ومحمد بن كعب: أي لئن رجعنا أحياء بعد الموت لنحشرن بالنار، وإنما قالوا هذا لأنهم أو عدوا بالنار. والكر: الرجوع، يقال: كره، وكر بنفسه، يتعدى ولا يتعدى. والكرة: المرة، والجمع الكرات. (فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ) ذكر جل ثناؤه سهولة البعث عليه فقال: فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ. وروى الضحاك عن ابن عباس قال: نفخة واحدة فَإِذا هُمْ أي الخلائق أجمعون بِالسَّاهِرَةِ أي على وجه الأرض، بعد ما كانوا في بطنها. قال الفراء: سميت بهذا الاسم، لان فيها نوم
__________
(1). قائله الهمداني يوم القادسية.

الحيوان وسهرهم. والعرب تسمى الفلاة ووجه الأرض ساهرة، بمعنى ذات سهو، لأنه يسهر فيها خوفا منها، فوصفها بصفة ما فيها، واستدل ابن عباس والمفسرون بقول أمية ابن أبي الصلت:
وفيها لحم ساهرة وبحر ... وما فاهوا به لهم مقيم
وقال آخر يوم ذي قار لفرسه:
أقدم محاج إنها الأساورة ... ولا يهولنك رجل «1» نادره
فإنما قصرك ترب الساهرة ... ثم تعود بعدها في الحافرة

من بعد ما صرت عظاما ناخرة

وفي الصحاح. ويقال: الساهور: ظل الساهرة، وهي وجه الأرض. ومنه قوله تعالى: فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ، قال أبو كبير الهذلي:
يرتدن ساهرة كان جميمها ... وعميمها أسداف ليل مظلم «2»
ويقال: الساهور: كالغلاف «3» للقمر يدخل فيه إذا كسف، وأنشدوا قول أمية بن أبي الصلت «4»:
قمر وساهور يسل ويغمد

وأنشدوا لآخر في وصف امرأة:
كأنها عرق سام عند ضاربه ... أو شقة «5» خرجت من جوف ساهور
يريد شقة القمر. وقيل: الساهرة: هي الأرض البيضاء. وروى الضحاك عن ابن عباس قال: أرض من فضة لم يعص الله جل ثناؤه عليها قط خلقها حينئذ. وقيل: أرض جددها
__________
(1). هذه الأبيات للهمداني يوم القادسية وقد تقدم ذكرها. محاج: اسم فرس الشاعر. وفي اللسان مادة (نخر) أقدم أخا نهم. ولا تهولنك رءوس. وفي السمين: بادره.
(2). الجميم بالجيم: النبت الذي قد نبت وارتفع قليلا ولم يتم كل التمام والعميم المكتمل التام من النبت والأسداف: جمع سدف بالتحريك وهو ظلمة الليل.
(3). هذا كما تزعم العرب في الجاهلية.
(4). وصدر البيت:
لا نقص فيه غير أن خبيئة

(5). كذا في نسخ الأصل التي بأيدينا. والذي في اللسان مادة (سهر): أو فلقة.

هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15) إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (16) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19) فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى (20) فَكَذَّبَ وَعَصَى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى (25) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى (26)

الله يوم القيامة. وقيل: الساهرة أسم الأرض السابعة يأتي بها الله تعالى فيحاسب عليها الخلائق، وذلك حين تبدل الأرض غير الأرض. وقال الثوري: الساهرة: أرض الشام. وهب بن منبه: جبل بيت المقدس. عثمان بن أبي العاتكة: إنه اسم مكان من الأرض بعينه، بالشام، وهو الصقع الذي بين جبل أريحاء وجبل حسان «1» يمده الله كيف يشاء. قتادة: هي جهنم أي فإذا هؤلاء الكفار في جهنم. وإنما قيل لها ساهرة، لأنهم لا ينامون عليها حينئذ. وقيل: الساهرة: بمعنى الصحراء على شفير جهنم، أي يوقفون بأرض القيامة، فيدوم السهر حينئذ. ويقال: الساهرة: الأرض البيضاء المستوية سميت بذلك، لان السراب يجري فيها من قولهم عين ساهرة: جارية الماء، وفي ضدها: نائمة، قال الأشعث بن قيس:
وساهرة يضحى السراب مجللا ... لاقطارها قد جئتها متلثما
أو لان سالكها لا ينام خوف الهلكة.

[سورة النازعات (79): الآيات 15 الى 26]
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (15) إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (16) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى (19)
فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى (20) فَكَذَّبَ وَعَصى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى (22) فَحَشَرَ فَنادى (23) فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى (24)
فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى (25) إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى (26)
قوله تعالى: (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى . إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً) أي قد جاءك وبلغك حَدِيثُ مُوسى وهذا تسلية للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أي إن فرعون
__________
(1). ذكره الطبري أيضا.

كان أقوى من كفار عصرك، ثم أخذناه، وكذلك هؤلاء. وقيل: هَلْ بمعنى" ما" أي ما أتاك، ولكن أخبرت به، فإن فيه عبرة لمن يخشى. وقد مضى من خبر موسى وفرعون في غير موضع ما فيه كفاية «1». وفي طُوىً ثلاث قراءات: قرأ ابن محيصن وابن عامر والكوفيون طُوىً منونا واختاره أبو عبيد لخفة الاسم. الباقون بغير تنوين، لأنه معدول مثل عمر وقثم، قال الفراء: طوى: واد بين المدينة ومصر. قال: وهو معدول عن طاو، كما عدل عمر عن عامر. وقرا الحسن وعكرمة (طوى) بكسر الطاء، وروى عن أبي عمرو، على معنى المقدس مرة بعد مرة، قاله الزجاج، وأنشد:
أعاذل إن اللوم في غير كنهه ... علي طوى من غيك المتردد «2»
أي هو لوم مكرر علي. وقيل: ضم الطاء وكسرها لغتان، وقد مضى في" طه"»
القول فيه. اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ أي ناداه ربه، فحذف، لان النداء قول، فكأنه، قال له ربه اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ. إِنَّهُ طَغى أي جاوز القدر في العصيان. وروى عن الحسن قال: كان فرعون علجا من همدان. وعن مجاهد قال: كان من أهل إصطخر. وعن الحسن أيضا قال: من أهل أصبهان، يقال له ذو ظفر، طول أربعة أشبار. (فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى) أي تسلم فتطهر من الذنوب. وروى الضحاك عن ابن عباس قال: هل لك أن تشهد أن لا إله إلا الله. (وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ) أي وأرشدك إلى طاعة ربك (فَتَخْشى ) أي تخافه وتتقيه. وقرا نافع وابن كثير تَزَكَّى بتشديد الزاي، على إدغام التاء في الزاي لان أصلها تتزكى. الباقون: (تزكى) بتخفيف الزاي على معنى طرح التاء. وقال أبو عمرو: تَزَكَّى بالتشديد «4» [تتصدق ب [- الصدقة، و" تزكي" يكون زكيا مؤمنا. وإنما دعا فرعون ليكون زكيا مؤمنا. قال: فلهذا اخترنا التخفيف. وقال صخر بن جويرية:
__________
(1). راجع ج 7 ص 256 فما بعدها وج 11 ص 200 فما بعدها وج 13 ص 250 فما بعدها.
(2). قائله عدى بن زيد. [.....]
(3). راجع ج 11 ص 175.
(4). الزيادة من الطبري وهي لازمة.

لما بعث الله موسى إلى فرعون قال له: اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إلى قوله وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى ولن يفعل، فقال: يا رب، وكيف أذهب إليه وقد علمت أنه لا يفعل؟ فأوحى الله إليه أن امض إلى ما أمرتك به، فإن في السماء أثنى عشر ألف ملك يطلبون علم القدر، فلم يبلغوه ولا يدركوه. (فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى ) أي العلامة العظمى وهي المعجزة. وقيل: العصا. وقيل: اليد البيضاء تبرق كالشمس. وروى الضحاك عن ابن عباس: الآية الكبرى قال العصا. الحسن: يده وعصاه. وقيل: فلق البحر. وقيل: الآية: إشارة إلى جميع آياته ومعجزاته. فَكَذَّبَ أي كذب نبي الله موسى وَعَصى أي عصى ربه عز وجل. (ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى ) أي ولى مدبرا معرضا عن الايمان يَسْعى أي يعمل بالفساد في الأرض. وقيل: يعمل في نكاية موسى. وقيل: أَدْبَرَ يَسْعى هاربا من الحية. فَحَشَرَ أي جمع أصحابه ليمنعوه منها. وقيل: جمع جنوده للقتال والمحاربة، والسحرة للمعارضة. وقيل: حشر الناس للحضور. فَنادى أي قال لهم بصوت عال (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى ) أي لا رب لكم فوقي. ويروى: إن إبليس تصور لفرعون في صورة الانس بمصر في الحمام، فأنكره فرعون، فقال له إبليس: ويحك! أما تعرفني؟ قال: لا. قال: وكيف وأنت خلقتني؟ الست القائل أنا ربكم الأعلى. ذكره الثعلبي في كتاب العرائس. وقال عطاء: كان صنع لهم أصناما صغارا وأمرهم بعبادتها، فقال أنا رب أصنامكم. وقيل: أراد القادة والسادة، هو ربهم، وأولئك هم أرباب السفلة. وقيل: في الكلام تقديم وتأخير فنادى فحشر لان النداء يكون قبل الحشر. (فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى ) أي نكال قوله: ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي [القصص: 38] وقوله بعد: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى [النازعات: 24] قاله ابن عباس ومجاهد وعكرمة. وكان بين الكلمتين أربعون سنة، قاله ابن عباس. والمعنى: أمهله في الاولى، ثم أخذه في الآخرة، فعذبه بكلمتيه. وقيل: نكال الاولى: هو أن أغرقه، ونكال الآخرة: العذاب في الآخرة. وقاله قتادة وغيره. وقال مجاهد: هو عذاب أول عمره وآخره. وقيل: الآخرة قوله أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى والاولى تكذيبه لموسى. عن قتادة أيضا.

أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33)

ونَكالَ منصوب على المصدر المؤكد في قول الزجاج، لان معنى أخذه الله: نكل الله به، فأخرج [نكال «1»] مكان مصدر من معناه، لا من لفظه. وقيل: نصب بنزع حرف الصفة، أي فأخذه الله بنكال الآخرة، فلما نزع الخافض نصب. وقال الفراء: أي أخذه الله أخذا نكالا، أي للنكال. والنكال: اسم لما جعل نكالا للغير أي عقوبة له حتى يعتبر به. يقال: نكل فلان بفلان: إذا أثخنه عقوبة. والكلمة من الامتناع، ومنه النكول عن اليمين، والنكل القيد. وقد مضى في سورة" المزمل" «2» والحمد لله. إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً أي اعتبارا وعظه. لِمَنْ يَخْشى أي يخاف الله عز وجل.

[سورة النازعات (79): الآيات 27 الى 33]
أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها (27) رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (30) أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها (31)
وَالْجِبالَ أَرْساها (32) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (33)
قوله تعالى: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً: يريد أهل مكة، أي أخلقكم بعد الموت أشد في تقديركم أَمِ السَّماءُ فمن قدر على السماء قدر على الإعادة، كقوله تعالى: لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ [غافر: 57] وقول تعالى: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ [يس: 81]، فمعنى الكلام التقريع والتوبيخ. ثم وصف السماء فقال: بَناها أي رفعها فوقكم كالبناء. رَفَعَ سَمْكَها أي أعلى سقفها في الهواء، يقال: سمكت الشيء أي رفعته في الهواء، وسمك الشيء سموكا: أرتفع. وقال الفراء: كل شي حمل شيئا من البناء وغيره فهو سمك. وبناء مسموك وسنام سامك تأمك أي عال، والمسموكات «3»: السموات. ويقال: اسمك في الديم، أي اصعد في الدرجة.
__________
(1). زيادة تقتضيها العبارة.
(2). راجع ص 45 من هذا الجزء.
(3). الذي في اللغة المسمكات كمكرمات وورد كذلك في الخبر. وصحح التاج أن المسموكات لغة لا لحن وبها ورد الخبر عن طريق آخر.

قوله تعالى: فَسَوَّاها أي خلقها خلقا مستويا، لا تفاوت فيه، ولا شقوق، ولا فطور. (وَأَغْطَشَ لَيْلَها) أي جعله مظلما، غطش الليل وأغطشه الله، كقولك: ظلم [الليل «1»] وأظلمه الله. ويقال أيضا: أغطش الليل بنفسه. وأغطشه الله كما يقال: أظلم الليل، وأظلمه الله. والغطش والغبش: الظلمة. ورجل أغطش: أي أعمى، أو شبيه به، وقد غطش، والمرأة غطشاء، ويقال: ليلة غطشاء، وليل أغطش وفلاة غطشى لا يهتدى لها، قال الأعشى:
ويهماء بالليل غطشى الفلا ... ة يؤنسني صوت فيادها «2»
وقال الأعشى أيضا:
عقرت لهم موهنا ناقتي ... وغامرهم مدلهم غطش
يعني بغامرهم ليلهم، لأنه غمرهم بسواده. وأضاف الليل إلى السماء لان الليل يكون بغروب الشمس، والشمس مضاف إلى السماء، ويقال: نجوم الليل، لان ظهورها بالليل. (وَأَخْرَجَ ضُحاها) أي أبرز نهارها وضوءها وشمسها. وأضاف الضحا إلى السماء كما أضاف إليها الليل، لان فيها سبب الظلام والضياء وهو غروب الشمس وطلوعها. (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) أي بسطها. وهذا يشير إلى كون الأرض بعد السماء. وقد مضى القول فيه في أول" البقرة" «3» عند قوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً، ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ [البقرة: 29] مستوفى. والعرب تقول: دحوت الشيء أدحوه دحوا: إذا بسطته. ويقال لعش النعامة أدحي، لأنه مبسوط على وجه الأرض. وقال أمية بن أبي الصلت:
وبث الخلق فيها إذ دحاها ... فهم قطانها حتى التنادي «4»
وأنشد المبرد:
دحاها فلما رآها استوت ... على الماء أرسى عليها الجبالا
__________
(1). هذه الزيادة من اللسان عن الفراء قال: ظلم الليل بالكسر وأظلم بمعنى.
(2). الفياد بفتح الفاء وضمها: ذكر البوم.
(3). راجع ج 1 ص 255.
(4). مضى هذا البيت في ج 15 ص 310 بلفظ: سكانها. والمعنى واحد.

وقيل: دحاها سواها، ومنه قول زيد بن عمرو:
وأسلمت وجهي لمن أسلمت ... له الأرض تحمل صخرا ثقالا
دحاها فلما استوت شدها ... بأيد وأرسى عليها الجبالا
وعن ابن عباس: خلق الله الكعبة ووضعها على الماء على أربعة أركان، قبل أن يخلق الدنيا بألف عام، ثم دحيت الأرض من تحت البيت. وذكر بعض أهل العلم أن بَعْدَ في موضع" مع" كأنه قال: والأرض مع ذلك دحاها، كما قال تعالى: عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ [القلم: 13]. ومنه قولهم: أنت أحمق وأنت بعد هذا سيئ الخلق، قال الشاعر:
فقلت لها عني إليك فإنني ... حرام وإني بعد ذاك لبيب
أي مع ذلك لبيب. وقيل: بعد: بمعنى قبل، كقوله تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ [الأنبياء: 105] أي من قبل الفرقان، قال أبو خراش الهذلي:
حمدت إلهي بعد عروة إذ نجا ... خراش وبعض الشر أهون من بعض
وزعموا أن خراشا نجا قبل عروة. وقيل: دَحاها: حرثها وشقها. قاله ابن زيد. وقيل: دحاها مهدها للاقوات. والمعنى متقارب. وقراءة العامة وَالْأَرْضَ بالنصب، أي دحا الأرض. وقرا الحسن وعمرو بن ميمون (والأرض) بالرفع، على الابتداء، لرجوع الهاء. ويقال: دحا يدحو دحوا ودحى يدحى دحيا، كقولهم: طغى يطغى ويطغو، وطغى يطغى، ومحا يمحو ويمحى، ولحى العود يلحى ويلحو، فمن قال: يدحو قال دحوت ومن قال يدحى قال دحيت. أَخْرَجَ مِنْها أي أخرج من الأرض ماءَها أي العيون المتفجرة بالماء. وَمَرْعاها أي النبات الذي يرعى. وقال القتبي: دل بشيئين على جميع ما أخرجه من الأرض قوتا ومتاعا للأنام من العشب والشجر والحب والتمر والعصف والحطب واللباس والنار والملح، لان النار من العيدان والملح من الماء. (وَالْجِبالَ أَرْساها) قراءة العامة وَالْجِبالَ بالنصب، أي وأرسى الجبال أَرْساها يعني: أثبتها فيها أوتادا لها. وقرا

فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى (36)

الحسن وعمرو بن ميمون وعمرو بن عبيد ونصر بن عاصم (والجبال) بالرفع على الابتداء. ويقال: هلا أدخل حرف العطف على أَخْرَجَ فيقال: إنه حال بإضمار قد، كقوله تعالى: حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ [النساء: 90]. مَتاعاً لَكُمْ أي منفعة لكم. وَلِأَنْعامِكُمْ من الإبل والبقر والغنم. ومَتاعاً نصب على المصدر من غير اللفظ، لان معنى أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها أمتع بذلك. وقيل: نصب بإسقاط حرف الصفة تقديره لتتمتعوا به متاعا.

[سورة النازعات (79): الآيات 34 الى 36]
فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى (36)
قوله تعالى: (فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى ) أي الداهية العظمى، وهي النفخة الثانية، التي يكون معها البعث، قاله ابن عباس في رواية الضحاك عنه، وهو قول الحسن. وعن ابن عباس أيضا والضحاك: أنها القيامة، سميت بذلك لأنها تطم على كل شي، فتعم ما سواها لعظم هولها، أي تقلبه. وفي أمثالهم:
جرى الوادي فطم على القرى «1»

المبرد: الطامة عند العرب الداهية التي لا تستطاع، وإنما أخذت فيما أحسب من قولهم: طم الفرس طميما إذا استفرغ جهده في الجري، وطم الماء إذا ملا النهر كله. غيره: هي مأخوذة من طم السيل الركية «2» أي دفنها، والطم: الدفن والعلو. وقال القاسم بن الوليد الهمداني: الطامة الكبري حين يساق أهل الجنة إلى الجنة واهل النار إلى النار. وهو معنى قول مجاهد: وقال سفيان: هي الساعة التي يسلم فيها أهل النار إلى الزبانية. أي الداهية التي طمت وعظمت، قال:
إن بعض الحب يعمي ويصم ... وكذاك البغض أدهى وأطم
__________
(1). القرى مجرى الماء في الروضة والجمع أقرئه وأقراء وقريان ويضرب المثل عند تجاوز الشيء حده.
(2). الركية: البئر أي جرى سيل الوادي.

فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41)

(يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى ) أي ما عمل من خير أو شر. وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ أي ظهرت. لِمَنْ يَرى قال ابن عباس: يكشف عنها فيراها تتلظى كل ذي بصر. وقيل: المراد الكافر لأنه الذي يرى النار بما فيها من أصناف العذاب. وقيل: يراها المؤمن ليعرف قدر النعمة ويصلي الكافر بالنار. وجواب فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ محذوف أي إذا جاءت الطامة دخل أهل النار النار واهل الجنة الجنة. وقرا مالك بن دينار: وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ. عكرمة: وغيره:" لمن ترى" بالتاء، أي لمن تراه الجحيم، أو لمن تراه أنت يا محمد. والخطاب له عليه السلام، والمراد به الناس.

[سورة النازعات (79): الآيات 37 الى 41]
فَأَمَّا مَنْ طَغى (37) وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى (39) وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى (41)
قوله تعالى: (فَأَمَّا مَنْ طَغى . وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا) أي تجاوز الحد في العصيان. قيل: نزلت في النضر وابنه الحارث، وهي عامة في كل كافر آثر الحياة الدنيا على الآخرة. وروى عن يحيى بن أبي كثير قال: من أتخذ من طعام واحد ثلاثة ألوان فقد طغى. وروى جويبر عن الضحاك قال: قال حذيفة: أخوف ما أخاف على هذه الامة أن يؤثروا ما يرون على ما يعلمون «1». ويروى أنه وجد في الكتب: إن الله جل ثناؤه قال" لا يؤثر عبد لي دنياه على آخرته، إلا بثثت عليه همومه وضيعته «2»، ثم لا أبالي في أيها هلك". (فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى ) أي مأواه. والألف واللام بدل من الهاء. (وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ) أي حذر مقامه بين يدي ربه. وقال الربيع: مقامه يوم الحساب. وكان قتادة يقول: إن لله عز وجل مقاما قد خافه المؤمنون. وقال مجاهد: هو خوفه في الدنيا من الله عز وجل عند مواقعة الذنب
__________
(1). في ط: ما يعملون.
(2). كذا في ا، ح، ز، ل. وفي بعض الأصول: وصنيعته.

فيقلع. نظيره: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ [الرحمن: 46]. (وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى ) أي زجرها عن المعاصي والمحارم. وقال سهل: ترك الهوى مفتاح الجنة، لقوله عز وجل: وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى قال عبد الله بن مسعود: أنتم في زمان يقود الحق الهوى، وسيأتي زمان يقود الهوى الحق فنعوذ بالله من ذلك الزمان. (فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى ) أي المنزل. والآيتان نزلتا في مصعب بن عمير وأخيه عامر بن عمير، فروى الضحاك عن ابن عباس قال: أما من طغى فهو أخ لمصعب بن عمير أسر يوم بدر، فأخذته الأنصار فقالوا: من أنت؟ قال: أنا أخو مصعب بن عمير، فلم يشدوه في الوثاق، وأكرموه وبيتوه عندهم، فلما أصبحوا حدثوا مصعب بن عمير حديثه، فقال: ما هو لي بأخ، شدوا أسيركم، فإن أمه أكثر أهل البطحاء حليا ومالا. فأوثقوه حتى بعثت أمه في فدائه. وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ فمصعب بن عمير، وقى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بنفسه يوم أحد حين تفرق الناس عنه، حتى نفذت المشاقص في جوفه. وهي السهام، فلما راه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ متشحطا في دمه قال: [عند الله أحتسبك [وقال لأصحابه: [لقد رأيته وعليه بردان ما تعرف قيمتهما وإن شراك نعليه من ذهب [. وقيل: إن مصعب ابن عمير قتل أخاه عامرا يوم بدر. وعن ابن عباس أيضا قال: نزلت هذه الآية في رجلين: أبي جهل بن هشام المخزومي ومصعب بن عمير العبدري. وقال السدي: نزلت هذه الآية وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ في أبي بكر الصديق رضي الله عنه. وذلك أن أبا بكر كان له غلام يأتيه بطعام، وكان يسأله من أين أتيت بهذا، فأتاه يوما بطعام فلم يسأل وأكله، فقال له غلامه: لم لا تسألني اليوم؟ فقال: نسيت، فمن أين لك هذا الطعام. فقال: تكهنت لقوم في الجاهلية فأعطونيه. فتقايأه من ساعته وقال: يا رب ما بقي في العروق فأنت حبسته فنزلت: وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ. وقال الكلبي: نزلت في من هم بمعصية وقدر عليها في خلوة ثم تركها من خوف الله. ونحوه عن ابن عباس. يعني من خاف عند المعصية مقامه بين يدي الله، فانتهى عنها. والله أعلم.

يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43) إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (44) إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46)

[سورة النازعات (79): الآيات 42 الى 46]
يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها (43) إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها (44) إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها (46)
قوله تعالى: (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها) قال ابن عباس: سأل مشركو مكة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ متى تكون الساعة استهزاء، فأنزل الله عز وجل الآية. وقال عروة بن الزبير في قوله تعالى: فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها؟ لم يزل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسأل عن الساعة، حتى نزلت هذه الآية إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها. ومعنى مُرْساها أي قيامها. قال الفراء: رسوها قيامها «1» كرسو السفينة. وقال أبو عبيدة: أي منتهاها، ومرسي السفينة حيث، تنتهي. وهو قول ابن عباس. الربيع بن أنس: متى زمانها. والمعنى متقارب. وقد مضى في" الأعراف" «2» بيان ذلك. وعن الحسن أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: [لا تقوم الساعة إلا بغضبه يغضبها ربك [. (فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها) أي في أي شي أن يا محمد من ذكر القيامة والسؤال عنها؟ وليس لك السؤال عنها. وهذا معنى ما رواه الزهري عن عروة بن الزبير قال: لم يزل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسأل عن الساعة حتى نزلت: فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها؟ إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها أي منتهى علمها، فكأنه عليه السلام لما أكثروا عليه سأل الله أن يعرفه ذلك، فقيل له: لا تسأل، فلست في شي من ذلك. ويجوز أن يكون إنكارا على المشركين في مسألتهم له، أي فيم أنت من ذلك حتى يسألوك بيانه، ولست ممن يعلمه. روي معناه عن ابن عباس. والذكرى بمعنى الذكر. (إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها) أي منتهى علمها، فلا يوجد عند غيره علم الساعة، وهو كقوله تعالى: قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي [الأعراف: 187] وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ [لقمان: 34]. (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها):
__________
(1). قال الفراء: كقولك قام العدل وقام الحق أي ظهر وثبت. [.....]
(2). راجع ج 8 ص 335 فما بعدها.

أي مخوف، وخص الإنذار بمن يخشى، لأنهم المنتفعون به، وإن كان منذرا لكل مكلف، وهو كقوله تعالى: إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ [يس: 11]. وقراءة العامة مُنْذِرُ بالإضافة غير منون، طلب التخفيف، وإلا فأصله التنوين، لأنه للمستقبل وإنما لا ينون في الماضي. قال الفراء: يجوز التنوين وتركه، كقوله تعالى: بالِغُ أَمْرِهِ [الطلاق: 3]، وبالِغُ أَمْرِهِ ومُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ [الأنفال: 18] ومُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ والتنوين هو الأصل، وبه قرأ أبو جعفر وشيبة والأعرج وابن محيصن وحميد وعياش عن أبي عمرو (منذر) منونا، وتكون في موضع نصب، والمعنى نصب، إنما ينتفع بإنذارك من يخشى الساعة. وقال أبو علي: يجوز أن تكون الإضافة للماضي، نحو ضارب زيد أمس، لأنه قد فعل الإنذار، الآية رد على من قال: أحوال الآخرة غير محسوسة، وإنما هي راحة الروح أو تألمها من غير حس. كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها يعني الكفار يرون الساعة لَمْ يَلْبَثُوا أي في دنياهم، إِلَّا عَشِيَّةً أي قدر عشية أَوْ ضُحاها أي أو قدر الضحا الذي يلي تلك العشية، والمراد تقليل مدة الدنيا، كما قال تعالى: لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ [الأحقاف: 35]. وروى الضحاك عن ابن عباس: كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا يوما واحدا. وقيل: لَمْ يَلْبَثُوا في قبورهم إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها، وذلك أنهم استقصروا مدة لبثهم في القبور لما عاينوا من الهول. وقال الفراء: يقول القائل: وهل للعشية ضحا؟ وإنما الضحا لصدر النهار، ولكن أضيف الضحا إلى العشية، وهو اليوم الذي يكون فيه على عادة العرب، يقولون: آتيك الغداة أو عشيتها، وآتيك العشية أو غداتها، فتكون العشية في معنى آخر النهار، والغداة في معنى أول النهار، قال: وأنشدني بعض بني عقيل:
نحن صبحنا عامرا في دارها ... جردا تعادي طرفي نهارها

عشية الهلال أو سرارها

أراد: عشية الهلال، أو سرار العشية، فهو أشد من آتيك الغداة أو عشيها.

عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4)

[تفسير سورة عبس ]
سورة عبس مكية في قول الجميع وهي إحدى وأربعون آية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة عبس (80): الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (2) وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى (4)
فيه ست مسائل: الاولى- قوله تعالى: عَبَسَ أي كلح بوجهه، يقال: عبس وبسر. وقد تقدم. وَتَوَلَّى أي أعرض بوجهه أَنْ جاءَهُ أَنْ في موضع نصب لأنه مفعول له، المعنى لان جاءه الأعمى، أي الذي لا يبصر بعينيه. فروى أهل التفسير أجمع أن قوما من أشراف قريش كانوا عند النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد طمع في إسلامهم، فأقبل عبد الله بن أم مكتوم، فكره رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يقطع عبد الله عليه كلامه، فأعرض عنه، ففيه نزلت هذه الآية. قال مالك: إن هشام بن عروة حدثه عن عروة، أنه قال: نزلت عَبَسَ وَتَوَلَّى في ابن أم مكتوم، جاء إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فجعل يقول: يا محمد استدنني «1»، وعند النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجل من عظماء المشركين، فجعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعرض عنه ويقبل على الآخر، ويقول: [يا فلان، هل ترى بما أقول بأسا [؟ فيقول: [لا والدمى «2» ما أرى بما تقول بأسا «3»]، فأنزل الله: عَبَسَ وَتَوَلَّى. وفي الترمذي مسندا قال: حدثنا سعيد ابن يحيى بن سعيد الأموي، حدثني أبي، قال هذا ما عرضنا على هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة، قالت: نزلت عَبَسَ وَتَوَلَّى في ابن أم مكتوم الأعمى، أتى رسول الله صلى الله عليه
__________
(1). الرواية هنا وفي ابن العربي يا محمد والمشهور في التفسير يا رسول الله علمني مما علمك الله. وفي رواية: يا رسول الله أرشدني: كما سيأتي للمصنف.
(2). الدمى: جمع دمية وهي الصورة يريد بها الأصنام.
(3). ما بين المربعين ساقط من ب.

وسلم فجعل، يقول: يا رسول الله أرشدني، وعند رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجل من عظماء المشركين، فجعل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعرض عنه، ويقبل على الآخر، ويقول: [أترى بما أقول بأسا] فيقول: لا، ففي هذا نزلت، قال: هذا حديث غريب. الثانية- الآية عتاب من الله لنبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في إعراضه وتوليه عن عبد الله ابن أم مكتوم. ويقال: عمرو بن أم مكتوم، واسم أم مكتوم عاتكة بنت عامر بن مخزوم، وعمرو هذا: هو ابن قيس بن زائدة بن الأصم، وهو ابن خال خديجة رضي الله عنها. وكان قد تشاغل عنه برجل من عظماء المشركين، يقال كان الوليد بن المغيرة. ابن العربي: قاله المالكية من علمائنا، وهو يكني أبا عبد شمس. وقال قتادة: هو أمية بن خلص وعنه: أبي بن خلف. وقال مجاهد: كانوا ثلاثة عتبة وشيبة أبنا ربيعة وأبي بن خلف. وقال عطاء عتبة بن ربيعة. سفيان الثوري: كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع عمه العباس. الزمخشري: كان عنده صناديد قريش: عتبة وشيبة ابنا ربيعة، وأبو جهل بن هشام، والعباس بن عبد المطلب، وأمية بن خلف، والوليد بن المغيرة يدعوهم إلى الإسلام، رجاء أن يسلم بإسلامهم غيرهم. قال ابن العربي: أما قول علمائنا إنه الوليد بن المغيرة فقد قال آخرون إنه أمية بن خلف والعباس وهذا كله باطل وجهل من المفسرين الذين لم يتحققوا الدين، ذلك أن أمية بن خلف والوليد كانا بمكة وابن أم مكتوم كان بالمدينة، ما حضر معهما ولا حضرا معه، وكان موتهما كافرين، أحدهما قبل الهجرة، والآخر ببدر، ولم يقصد قط أمية المدينة، ولا حضر عنده مفردا، ولا مع أحد. الثالثة- أقبل ابن أم مكتوم والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مشتغل بمن حضره من وجوه قريش يدعوهم إلى الله تعالى، وقد قوي طمعه في إسلامهم وكان في إسلامهم إسلام من وراءهم من قومهم، فجاء ابن أم مكتوم وهو أعمى فقال: يا رسول الله علمني مما علمك الله، وجعل يناديه ويكثر النداء، ولا يدري أنه مشتغل بغيره، حتى ظهرت الكراهة في وجه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقطعه كلامه، وقال في نفسه: يقول هؤلاء: إنما أتباعه العميان والسفلة

والعبيد، فعبس وأعرض عنه، فنزلت الآية. قال الثوري: فكان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد ذلك إذا رأى ابن أم مكتوم يبسط له رداءه وبقول: [مرحبا بمن عاتبني فيه ربي ]. ويقول: [هل من حاجه ]؟ وأستخلفه على المدينة مرتين في غزوتين غزاهما. قال أنس: فرأيته يوم القادسية راكبا وعليه درع ومعه راية سوداء. الرابعة- قال علماؤنا: ما فعله ابن أم مكتوم كان من سوء الأدب لو كان عالما بأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مشغول بغيره، وأنه يرجو إسلامهم، ولكن الله تبارك وتعالى عاتبه حتى لا تنكسر قلوب أهل الصفة، أو ليعلم أن المؤمن الفقير خير من الغني، وكان النظر إلى المؤمن أولى وإن كان فقيرا أصلح وأولى من الامر الآخر، وهو الإقبال على الأغنياء طمعا في إيمانهم، وإن كان ذلك أيضا نوعا من المصلحة، وعلى هذا يخرج قوله تعالى: ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى [الأنفال: 67] الآية على ما تقدم «1». وقيل: إنما قصد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تأليف الرجل، ثقة بما كان في قلب ابن أم مكتوم من الايمان، كما قال: [إني لأصل الرجل وغيره أحب إلي منه، مخافة أن يكبه الله في النار على وجهه [. الخامسة- قال ابن زيد: إنما عبس النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لابن أم مكتوم وأعرض عنه، لأنه أشار إلى الذي كان يقوده أن يكفه، فدفعه ابن أم مكتوم، وأبى إلا أن يكلم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى يعلمه، فكان في هذا نوع جفاء منه. ومع هذا أنزل الله في حقه على نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَبَسَ وَتَوَلَّى بلفظ الاخبار عن الغائب، تعظيما «2» له ولم يقل: عبست وتوليت. ثم أقبل عليه بمواجهة الخطاب تأنيسا له فقال: وَما يُدْرِيكَ أي يعلمك لَعَلَّهُ يعني ابن أم مكتوم يَزَّكَّى بما أستدعى منك تعليمه إياه من القرآن والدين، بأن يزداد طهارة في دينه، وزوال ظلمة الجهل عنه. وقيل: الضمير في لَعَلَّهُ للكافر يعني إنك إذا طمعت في أن يتزكى بالإسلام أو
يذكر، فتقربه الذكرى إلى قبول الحق
__________
(1). راجع ج 8 ص 45 فما بعدها.
(2). في أ، ح: تعليما.

أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10)

وما يدريك أن ما طمعت فيه كائن. وقرا الحسن" آأن «1» جاءه الأعمى" بالمد على الاستفهام ف- أَنْ متعلقة بفعل محذوف دل عليه عَبَسَ وَتَوَلَّى التقدير: آأن جاءه أعرض عنه وتولى؟ فيوقف على هذه القراءة على وَتَوَلَّى، ولا يوقف عليه على قراءة الخبر، وهي قراءة العامة. السادسة- نظير هذه الآية في العتاب قوله تعالى في سورة الانعام: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ [الانعام: 52] وكذلك قوله في سورة الكهف: وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا [الكهف: 28] وما كان مثله، والله أعلم. أَوْ يَذَّكَّرُ يتعظ بما تقول فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى أي العظة. وقراءة العامة (فتنفعه) بضم العين، عطفا على يَزَّكَّى. وقرا عاصم وابن أبي إسحاق وعيسى فَتَنْفَعَهُ نصبا. وهي قراءة السلمي وزر بن حبيش، على جواب لعل، لأنه غير موجب، كقوله تعالى: لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ [غافر: 36] ثم قال: فَاطَّلَعَ [الصافات: 55].

[سورة عبس (80): الآيات 5 الى 10]
أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَما عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى (8) وَهُوَ يَخْشى (9)
فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10)
قوله تعالى: (أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى ) أي كان ذا ثروة وغنى (فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى) أي تعرض له، وتصغى لكلامه. والتصدي: الإصغاء، قال الراعي:
تصدى لوضاح كأن جبينه ... سراج الدجي يحني إليه الأساور
«2» وأصله تتصدد من الصد، وهو ما استقبلك، وصار قبالتك، يقال: داري صدد داره أي قبالتها، نصب على الظرف. وقيل: من الصدي وهو العطش. أي تتعرض له كما يتعرض العطشان للماء، والمصاداة: المعارضة. وقراءة العامة (تصدى) بالتخفيف، على طرح التاء
__________ (1). قال الزمخشري وقرى (آأن) بهمزتين وألف بينهما.
(2). الأسوار (بكسر الهمزة وضمها) قائد الفرس وقيل: هو الجيد الرمي بالسهام وقيل: هو الجيد الثبات على ظهر الفرس والجمع أساورة وأساور.

كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16)

الثانية تخفيفا. وقرا نافع وابن محيصن بالتشديد على الإدغام. (وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى) أي لا يهتدي هذا الكافر ولا يؤمن، إنما أنت رسول، ما عليك إلا البلاغ. قوله تعالى: (وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى ) يطلب العلم لله (وَهُوَ يَخْشى ) أي يخاف الله. (فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى) أي تعرض عنه بوجهك وتشغل بغيره. وأصله تتلهى، يقال: لهيت عن الشيء ألهى: أي تشاغلت عنه. والتلهي: التغافل. ولهيت عنه وتليت: بمعنى.

[سورة عبس (80): الآيات 11 الى 16]
كَلاَّ إِنَّها تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15)
كِرامٍ بَرَرَةٍ (16)
قوله تعالى: (كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ) كَلَّا كلمة ردع وزجر، أي ما الامر كما تفعل مع الفريقين، أي لا تفعل بعدها مثلها: من إقبالك على الغني، وإعراضك عن المؤمن الفقير. والذي جرى من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان ترك الاولى كما تقدم، ولو حمل على صغيرة لم يبعد، قاله القشيري. والوقف على كَلَّا على هذا الوجه: جائز. ويجوز أن تقف على تَلَهَّى ثم تبتدئ كَلَّا على معنى حقا. إِنَّها أي السورة أو آيات القرآن تَذْكِرَةٌ أي موعظة وتبصرة للخلق (فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ) أي اتعظ بالقرآن. قال الجرجاني: إِنَّها أي القرآن، والقرآن مذكر إلا أنه لما جعل القرآن تذكرة، أخرجه على لفظ التذكرة، ولو ذكره لجاز، كما قال تعالى في موضع آخر: كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ. ويدل على أنه أراد القرآن قوله: فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ أي كان حافظا له غير ناس، وذكر الضمير، لان التذكرة في معنى الذكر والوعظ. وروى الضحاك عن ابن عباس في قول تعالى: فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ قال من شاء الله تبارك وتعالى ألهمه. ثم أخبر عن جلالته فقال: فِي صُحُفٍ جمع صحيفة مُكَرَّمَةٍ أي عند الله، قاله السدي. الطبري: مُكَرَّمَةٍ في الدين لما فيها من العلم والحكم. وقيل: مُكَرَّمَةٍ لأنها نزل بها كرام الحفظة، أو لأنها نازلة من اللوح المحفوظ. وقيل: مُكَرَّمَةٍ

لأنها نزلت من كريم، لان كرامة الكتاب من كرامة صاحبه. وقيل: المراد كتب الأنبياء، دليله: إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى . صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى [الأعلى: 19- 18]. مَرْفُوعَةٍ رفيعة القدر عند الله. وقيل: مرفوعة عنده تبارك وتعالى. وقيل: مرفوعة في السماء السابعة، قاله يحيى بن سلام. الطبري: مرفوعة الذكر والقدر. وقيل: مرفوعة عن الشبه والتناقض. مُطَهَّرَةٍ قال الحسن: من كل دنس. وقيل: مصانة «1» عن أن ينالها الكفار. وهو معنى قول السدي. وعن الحسن أيضا: مطهرة من أن تنزل على المشركين. وقيل: أي القرآن أثبت للملائكة في صحف يقرءونها فهي مكرمة مرفوعة مطهرة. (بِأَيْدِي سَفَرَةٍ) أي الملائكة الذين جعلهم الله سفراء بينه وبين رسله، فهم بررة لم يتدنسوا بمعصية. وروى أبو صالح عن ابن عباس قال: هي مطهرة تجعل التطهير لمن حملها بِأَيْدِي سَفَرَةٍ قال: كتبة. وقاله مجاهد أيضا. وهم الملائكة الكرام الكاتبون لاعمال العباد في الاسفار، التي هي الكتب، واحدهم: سافر، كقولك: كاتب وكتبة. ويقال: سفرت أي كتبت، والكتاب: هو السفر، وجمعه أسفار. قال الزجاج: وإنما قيل للكتاب سفر، بكسر السين، وللكاتب سافر، لان معناه أنه يبين الشيء ويوضحه. يقال: أسفر الصبح: إذا أضاء، وسفرت المرأة: إذا كشفت النقاب عن وجهها. قال: ومنه سفرت بين القوم أسفر سفارة: أصلحت بينهم. وقاله الفراء، وأنشد:
فما أدع السفارة بين قومي ... ولا أمشي بغش إن مشيت
والسفير: الرسول والمصلح بين القوم والجمع: سفراء، مثل فقيه وفقهاء. ويقال للوراقين سفراء، بلغة العبرانية. وقال قتادة: السفرة هنا: هم القراء، لأنهم يقرءون الاسفار. وعنه أيضا كقول ابن عباس. وقال وهب بن منبه: بِأَيْدِي سَفَرَةٍ. كِرامٍ بَرَرَةٍ هم أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال ابن العربي: لقد كان أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سفرة، كراما بررة، ولكن ليسوا بمرادين بهذه الآية، ولا قاربوا المرادين بها، بل هي لفظة مخصوصة بالملائكة عند الإطلاق، ولا يشاركهم فيها سواهم، ولا يدخل معهم في متناولها غيرهم. وروي
__________
(1). كذا في الأصول وهو مخالف لما في كتب اللغة. الصواب: (مصونة). انظر تاج العروس.

قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23)

في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: [مثل «1»] الذي يقرأ القرآن وهو حافظ له، مع السفرة الكرام البررة، ومثل الذي يقرؤه وهو يتعاهده، وهو عليه شديد، فله أجران" متفق عليه، واللفظ للبخاري. كِرامٍ أي كرام على ربهم، قاله الكلبي. الحسن: كرام عن المعاصي، فهم يرفعون أنفسهم عنها. وروى الضحاك عن ابن عباس في كِرامٍ قال: يتكرمون أن يكونوا مع ابن آدم إذا خلا بزوجته، أو تبرز لغائطه. وقيل: أي يؤثرون منافع غيرهم على منافع أنفسهم. بَرَرَةٍ جمع بار مثل كافر وكفرة، وساحر وسحرة، وفاجر وفجرة، يقال: بر وبار إذا كان أهلا للصدق، ومنه بر فلان في يمينة: أي صدق، وفلان يبر خالقه ويتبرره: أي يطيعه، فمعنى بَرَرَةٍ مطيعون لله، صادقون لله في أعمالهم. وقد مضى في سورة" الواقعة" قولة تعالى: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ. لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ «2» [الواقعة: 79- 77] أنهم الكرام البررة في هذه السورة.

[سورة عبس (80): الآيات 17 الى 23]
قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21)
ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ (23)
قوله تعالى: (قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ)؟ قُتِلَ أي لعن. وقيل: عذب. والإنسان الكافر. روى الأعمش عن مجاهد قال: ما كان في القرآن قُتِلَ الْإِنْسانُ فإنما عني به الكافر. وروى الضحاك عن ابن عباس قال: نزلت في عتبة بن أبي لهب، وكان قد آمن، فلما نزلت" والنجم" ارتد، وقال: أمنت بالقرآن كله إلا النجم، فأنزل الله جل ثناؤه فيه قُتِلَ الْإِنْسانُ أي لعن عتبة حيث كفر بالقرآن، ودعا عليه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1). الزيادة من صحيح البخاري
(2). راجع ج 17 ص 522

فقال: [اللهم سلط عليه كلبك أسد الغاضرة «1»] فخرج من فوره بتجارة إلى الشام، فلما انتهى إلى الغاضرة تذكر دعاء النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فجعل لمن معه ألف دينار إن هو أصبح حيا، فجعلوه في وسط الرفقة، وجعلوا المتاع حوله، فبينما هم على ذلك أقبل الأسد، فلما دنا من الرحال وثب، فإذا هو فوقه فمزقه، وقد كان أبوه ندبه وبكى وقال: ما قال محمد شيئا قط إلا كان. وروى أبو صالح عن ابن عباس ما أَكْفَرَهُ: أي شي أكفره؟ وقيل: ما تعجب، وعادة العرب إذا تعجبوا من شي قالوا: قاتله الله ما أحسنه! وأخزاه الله ما أظلمه، والمعنى: اعجبوا من كفر الإنسان لجميع ما ذكرنا بعد هذا. وقيل: ما أكفره بالله ونعمه مع معرفته بكثرة إحسانه إليه على التعجب أيضا، قال ابن جريج: أي ما أشد كفره! وقيل: ما استفهام أي أي شي دعاه إلى الكفر، فهو استفهام توبيخ. وما تحتمل التعجب، وتحتمل معنى أي، فتكون استفهاما. (مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) أي من أي شي خلق الله هذا الكافر فيتكبر؟ أي أعجبوا لخلقه. مِنْ نُطْفَةٍ أي من ماء يسير مهين جماد خَلَقَهُ فلم يغلط في نفسه؟! قال الحسن: كيف يتكبر من خرج من سبيل البول مرتين. فَقَدَّرَهُ في بطن أمه. كذا روى الضحاك عن ابن عباس: أي قدر يديه ورجليه وعينيه وسائر آرابه، وحسنا ودميما، وقصيرا وطويلا، وشقيا وسعيدا. وقيل: فَقَدَّرَهُ أي فسواه كما قال: أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا. وقال: الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ. وقيل: فَقَدَّرَهُ أطوارا أي من حال إلى حال، نطفة ثم علقة، إلى أن تم خلقه. (ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ) قال ابن عباس في رواية عطاء وقتادة والسدي ومقاتل: يسره للخروج من بطن أمه. مجاهد: يسره لطريق الخير والشر، أي بين له ذلك. دليله: إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ وهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ. وقاله الحسن وعطاء وابن عباس أيضا في رواية أبي صالح عنه. وعن مجاهد أيضا قال: سبيل
__________
(1). كذا لفظ الحديث في الأصول ورواية أبي حيان له: (اللهم ابعث عليه كلبك يأكله" ثم قال: فلما انتهى إلى الغاضرة ... إلخ.)

الشقاء والسعادة. ابن زيد: سبيل الإسلام. وقال أبو بكر بن طاهر: يسر على كل أحد ما خلقه له وقدره عليه، دليله قوله عليه السلام: [اعملوا فكل ميسر لما خلق له ]. (ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ) أي جعل له قبرا يواري فيه إكراما، ولم يجعله مما يلقي على وجه الأرض تأكله الطير والعوافي «1»، قاله الفراء. وقال أبو عبيدة: فَأَقْبَرَهُ: جعل له قبرا، وأمر أن يقبر. قال أبو عبيدة: ولما قتل عمر بن هبيرة صالح بن عبد الرحمن، قالت بنو تميم ودخلوا عليه: أقبرنا صالحا، فقال: دونكموه. وقال: فَأَقْبَرَهُ ولم يقل قبره، لان القابر هو الدافن بيده، قال الأعشى:
لو أسندت ميتا إلى نحرها ... عاش ولم ينقل إلى قابر
يقال: قبرت الميت: إذا دفنته، وأقبره الله: أي صيره بحيث يقبر، وجعل له قبرا، تقول العرب: بترت ذنب البعير، وأبتره الله، وعضبت قرن الثور، وأعضبه الله، وطردت فلانا، والله أطرده، أي صيره طريدا. (ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ) أي أحياه بعد موته. وقراءة العامة (أنشره) بالألف. وروى أبو حيوة عن نافع وشعيب بن أبي حمزة شاء نشره بغير ألف، لغتان فصيحتان بمعنى، يقال: أنشر الله الميت ونشره، قال الأعشى:
حتى يقول الناس مما رأوا ... يا عجبا للميت الناشر
قوله تعالى: (كَلَّا لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ) قال مجاهد وقتادة: لَمَّا يَقْضِ: لا يقضى أحد ما أمر به. وكان ابن عباس يقول: لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ لم يف بالميثاق الذي أخذ عليه في صلب آدم. ثم قيل: كَلَّا ردع وزجر، أي ليس الامر: كما يقول الكافر، فإن الكافر إذا أخبر بالنشور قال: وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى [فصلت: 50] ربما يقول قد قضيت ما أمرت به. فقال: كلا لم يقض شيئا بل هو كافر بي وبرسولي. وقال الحسن: أي حقا لم يقض: أي لم يعمل بما أمر به. ولَمَّا في قوله: لَمَّا عماد للكلام، كقول تعالى: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ [آل عمران: 159] وقوله: عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ [المؤمنون: 40].
__________
(1). العوافي: طلاب الرزق من الانس والدواب والطير والمراد هنا: الوحوش والبهائم.

فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32)

وقال الامام ابن فورك: أي: كلا لما يقض الله لهذا الكافر ما أمره به من الايمان، بل أمره بما لم يقض له. ابن الأنباري: الوقف على كَلَّا قبيح، والوقف على أَمَرَهُ وأَنْشَرَهُ جيد، ف- كَلَّا على هذا بمعنى حقا.

[سورة عبس (80): الآيات 24 الى 32]
فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا (27) وَعِنَباً وَقَضْباً (28)
وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً (29) وَحَدائِقَ غُلْباً (30) وَفاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (32)
قوله تعالى: (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ) لما ذكر جل ثناؤه ابتداء خلق الإنسان ذكر ما يسر من رزقه، أي فلينظر كيف خلق الله طعامه. وهذا النظر نظر القلب بالفكر، أي ليتدبر كيف خلق الله طعامه الذي هو قوام حياته، وكيف هيأ له أسباب المعاش، ليستعد بها للمعاد. وروى عن الحسن ومجاهد قالا: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ أي إلى مدخله ومخرجه. وروى ابن أبي خيثمة عن الضحاك بن سفيان الكلابي قال: قال لي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [يا ضحاك ما طعامك [قلت: يا رسول الله! اللحم واللبن، قال: [ثم يصير إلى ماذا [قلت إلى ما قد علمته، قال: [فإن الله ضرب ما يخرج من ابن آدم مثلا للدنيا [. وقال أبي بن كعب: قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [إن مطعم ابن آدم جعل مثلا للدنيا وإن قزحه «1» وملحه فانظر إلى ما يصير [. وقال أبو الوليد: سألت ابن عمر عن الرجل يدخل الخلاء فينظر ما يخرج منه، قال: يأتيه الملك فيقول انظر ما بخلت به إلى ما صار؟
__________
(1). قزحه: أي تبله من القزح وهو التابل الذي يطرح في القدر كالكمون والكزبرة ونحو ذلك. والمعنى: إن المطعم وإن تكلف الإنسان التنوق في صنعته وتطييبه فإنه عائد إلى حال يكره ويستقذر فكذلك الدنيا المحروص على عمارتها ونظم أسبابها راجعة إلى خراب وإدبار النهاية. [.....]

قوله تعالى: (أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا) قراءة العامة" إناء" بالكسر، على الاستئناف، وقرا الكوفيون ورويس عن يعقوب (أَنَّا) بفتح الهمزة، ف- أَنَّا في موضع خفض على الترجمة عن الطعام، فهو بدل منه، كأنه قال: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ إلى أَنَّا صَبَبْنَا فلا يحسن الوقف على طَعامِهِ من هذه القراءة. وكذلك إن رفعت أَنَّا بإضمار هو أنا صببنا، لأنها في حال رفعها مترجمة عن الطعام. وقيل: المعنى: لأنا صببنا الماء، فأخرجنا به الطعام، أي كذلك كان. وقرا الحسين «1» بن علي" أني" ممال، بمعنى كيف؟ فمن أخذ بهذه القراءة قال: الوقف على طَعامِهِ تام. ويقال: معنى" أنى" أين، إلا أن فيها كناية عن الوجوه، وتأويلها: من أي وجه صببنا الماء، قال الكميت:
أنى ومن أين آبك «2» الطرب ... من حيث لا صبوة ولا ريب
صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا: يعني الغيث والأمطار. (ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا): أي بالنبات (فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا) أي قمحا وشعيرا «3» وسلتا وسائر ما يحصد ويدخر (وَعِنَباً وَقَضْباً) وهو القت والعلف، عن الحسن: سمى بذلك لأنه يقضب أي يقطع بعد ظهوره مرة بعد مرة. قال القتبي وثعلب: واهل مكة يسمون القت القضب. وقال ابن عباس: هو الرطب لأنه يقضب من النخل: ولأنه ذكر العنب قبله. وعنه أيضا: أنه الفصفصة وهو القت الرطب. وقال الخليل: القضب الفصفصة الرطبة. وقيل: بالسين، فإذا يبست فهو قت. قال: والقضب: اسم يقع على ما يقضب من أغصان الشجرة، ليتخذ منها سهام أو قسي. ويقال: قضبا، يعني جميع ما يقضب، مثل القت والكراث وسائر البقول التي تقطع فينبت أصلها. وفي الصحاح: والقضبة والقضب الرطبة، وهي الاسفست بالفارسية، والموضع الذي ينبت فيه مقضبة. وَزَيْتُوناً وهي شجرة الزيتون وَنَخْلًا يعني النخيل وَحَدائِقَ أي
__________
(1). في ب، ز: قرأ بعض القراء.
(2). آبك: أتاك. الريب: صروغ الدهر.
(3). السلت (بالضم): ضرب من الشعير.

بساتين واحدها حديقة. قال الكلبي: وكل شي أحيط عليه من نخيل أو شجر فهو حديقة، وما لم يحط عليه فليس بحديقة. غُلْباً عظاما شجرها، يقال: شجرة غلباء، ويقال للأسد: الأغلب، لأنه مصمت العنق، لا يلتفت إلا جميعا، قال العجاج:
ما زلت يوم البين ألوي صلبي ... والرأس حتى صرت مثل الأغلب
ورجل أغلب بين الغلب إذا كان غليظ الرقبة. والأصل في الوصف بالغلب: الرقاب فاستعير، قال قال عمرو بن معدي كرب:
يمشي بها غلب الرقاب كأنهم ... بزل كسين من الكحيل جلالا «1»

وحديقة غلباء: ملتفة وحدائق غلب. وأغلولب العشب: بلغ والتف البعض بالبعض. قال ابن عباس: الغلب: جمع أغلب وغلباء وهي الغلاظ. وعنه أيضا الطوال. قتادة وابن زيد: الغلب: النخل الكرام. وعن ابن زيد أيضا وعكرمة: عظام الأوساط والجذوع. مجاهد: ملتفة. وَفاكِهَةً أي ما تأكله الناس من ثمار الأشجار كالتين والخوخ وغيرهما وَأَبًّا هو ما تأكله البهائم من العشب، قال ابن عباس والحسن: الأب: كل ما أنبتت الأرض، مما لا يأكله الناس، ما يأكله الآدميون هو الحصيد، ومنه قول الشاعر في مدح النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
له دعوة ميمونة ريحها الصبا ... بها ينبت الله الحصيدة والأبا
وقيل: إنما سمي أبا، لأنه يؤب أي يؤم وينتجع. والأب والام: أخوان، قال:
جذمنا قيس ونجد دارنا ... ولنا الأب به والمكرع»
وقال الضحاك: والأب: كل شي ينبت على وجه الأرض. وكذا قال أبو رزين: هو النبات. يدل عليه قول ابن عباس قال: الأب: ما تنبت الأرض مما يأكل الناس والانعام.
__________
(1). الكحيل: نوع من القطران تطلى به الإبل للجرب ولا يستعمل إلا مصغرا. وجل الدابة: الذي تلبسه لتصان به والجمع جلال وإجلال.
(2). الجذم (بكسر الجيم): الأصل. والمكرع: مفعل من الكرع أراد به الماء الصالح للشرب.

فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)

وعن ابن عباس أيضا وابن أبي طلحة: الأب: الثمار الرطبة. وقال الضحاك: هو التين خاصة. وهو محكي عن ابن عباس أيضا، قال الشاعر:
فما لهم مرتع للسوا «1» ... م والأب عندهم يقدر
الكلبي: هو كل نبات سوى الفاكهة. وقيل: الفاكهة: رطب الثمار، والأب يابسها. وقال إبراهيم التيمي: سئل أبو بكر الصديق رضى الله عنه عن تفسير الفاكهة والأب فقال: أي سماء تظلني وأى أرض تقلني إذا قلت: في كتاب الله ما لا أعلم. وقال أنس: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه قرأ هذه الآية ثم قال: كل هذا قد عرفناه، فما الأب؟ ثم رفع عصا كانت بيده وقال: هذا لعمر الله التكلف، وما عليك يا بن أم عمر ألا تدري ما الأب؟ ثم قال: اتبعوا ما بين لكم من هذا الكتاب، وما لا فدعوه. وروى عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: [خلقتم من سبع، ورزقتم من سبع، فاسجدوا لله على سبع [. وإنما أراد بقوله: [خلقتم من سبع [يعني مِنْ نُطْفَةٍ، ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ، ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ [الحج: 5] الآية، والرزق من سبع، وهو قوله تعالى: فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا وَعِنَباً إلى قوله: وَفاكِهَةً ثم قال: وَأَبًّا وهو يدل على أنه ليس برزق لابن آدم، وأنه مما تختص به البهائم. والله أعلم. مَتاعاً لَكُمْ نصب على المصدر المؤكد، لان إنبات هذه الأشياء إمتاع لجميع الحيوانات. وهذا ضرب مثل ضربه الله تعالى لبعث الموتى من قبورهم، كنبات الزرع بعد دثوره، كما تقدم بيانه في غير موضع. ويتضمن امتنانا عليهم بما أنعم به، وقد مضى في غير موضع أيضا.

[سورة عبس (80): الآيات 33 الى 42]
فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37)
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُها قَتَرَةٌ (41) أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)
__________
(1). السوام والسائمة: المال الراعي من الإبل والغنم وغيرهما.

قوله تعالى: (فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ) لما ذكر أمر المعاش ذكر أمر المعاد، ليتزودوا له بالأعمال الصالحة، وبالإنفاق مما أمتن به عليهم. والصاخة: الصيحة التي تكون عنها القيامة، وهي النفخة الثانية، تصخ الاسماع: أي تصمها فلا تسمع إلا ما يدعى به للاحياء. وذكر ناس من المفسرين قالوا: تصيخ لها الاسماع، من قولك: أصاخ إلى كذا: أي استمع إليه، ومنه الحديث: [ما من دابة إلا وهي مصيخة يوم الجمعة شفقا من الساعة إلا الجن والانس [. وقال الشاعر:
يصيخ للنبأة أسماعه ... إصاخة المنشد للمنشد
قال بعض العلماء: وهذا يؤخذ على جهة التسليم للقدماء، فأما اللغة فمقتضاها القول الأول، قال الخليل: الصاخة: صيحة تصخ الآذان (صخا)؟ أي تصمها بشدة وقعتها. واصل الكلمة في اللغة: الصك الشديد. وقيل: هي مأخوذة من صخة بالحجر: إذا صكة قال الراجز:
يا جارتي هل لك أن تجالدي ... جلادة كالصك بالجلامد
ومن هذا الباب قول العرب: صختهم الصاخة وباتتهم البائتة، وهي الداهية. الطبري: وأحسبه من صخ فلان فلانا: إذا أصماه. قال ابن العربي «1»: الصاخة التي تورث الصمم، وإنها لمسمعة، وهذا من بديع الفصاحة، حتى لقد قال بعض حديثي الأسنان حديثي الأزمان:
أصم بك، الناعي وإن كان اسمعا

وقال آخر:
أضمني سرهم أيام فرقتهم ... فهل سمعتم بسر يورث الصمما

لعمر الله إن صيحة القيامة لمسمعة تصم عن الدنيا، وتسمع أمور الآخرة. قوله تعالى: (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ) أي يهرب، أي تجئ الصاخة في هذا اليوم الذي يهرب فيه من أخيه، أي من موالاة أخيه ومكالمته، لأنه لا يتفرغ لذلك، لاشتغاله بنفسه، كما قال بعده: لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ أي يشغله عن غيره. وقيل: إنما يفر حذرا من مطالبتهم إياه، لما بينهم من التبعات. وقيل: لئلا يروا ما هو
__________
(1). لم نجد كلام ابن العربي هذا في النسخة المطبوعة بمطبعة السعادة من كتابه (أحكام القرآن).

فيه من الشدة. وقيل: لعلمه أنهم لا ينفعونه ولا يغنون عنه شيئا، كما قال: يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً [الدخان: 41]. وقال عبد الله بن طاهر الأبهري: يفر منهم لما تبين له من عجزهم وقلة حيلتهم، إلى من يملك كشف تلك الكروب والهموم عنه، ولو ظهر له ذلك في الدنيا لما اعتمد شيئا سوى ربه تعالى. (وَصاحِبَتِهِ) أي زوجته. (وَبَنِيهِ) أي أولاده. وذكر الضحاك عن ابن عباس قال: يفر قابيل من أخيه هابيل، ويفر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أمه، وإبراهيم عليه السلام من أبيه، ونوح عليه السلام من ابنه، ولوط من امرأته، وآدم من سوأة بنيه. وقال الحسن: أول من يفر يوم القيامة من، أبيه: إبراهيم، وأول من يفر من ابنه نوح، وأول من يفر من امرأته لوط. قال: فيرون أن هذه الآية نزلت فيهم وهذا فرار التبرؤ. (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ). في صحيح مسلم عن عائشة رضى الله عنها قالت: سمعت رسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: [يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلا] قلت، يا رسول الله! الرجال والنساء جميعا ينظر بعضهم إلى بعض؟ قال: [يا عائشة، الامر أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض ]. خرجه الترمذي عن ابن عباس: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: [يحشرون حفاة عراة غرلا] فقالت امرأة: أينظر بعضنا، أو يرى بعضنا عورة بعض؟ قال: [يا فلانة] لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ. قال: حديث حسن صحيح. وقراءة العامة بالغين المعجمة، أي حال يشغله عن الأقرباء. وقرا ابن محيصن وحميد" يعنيه" بفتح الياء، وعين غير معجمة، أي يعنيه أمره. وقال القتبي: يعنيه: يصرفه ويصده عن قرابته، ومنه يقال: أعن عني وجهك: أي أصرفه وأعن عن السفيه، قال خفاف:
سيعنيك حرب بني مالك ... عن الفحش والجهل في المحفل
قوله تعالى: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ): أي مشرقة مضيئة، قد علمت مالها من الفوز والنعيم، وهي وجوه المؤمنين. ضاحِكَةٌ أي مسرورة فرحة. مُسْتَبْشِرَةٌ: أي بما

آتاها الله من الكرامة. وقال عطاء الخراساني: مُسْفِرَةٌ من طول ما اغبرت في سبيل الله جل ثناؤه. ذكره أبو نعيم. الضحاك: من آثار الوضوء. ابن عباس: من قيام الليل، لما روى في الحديث: [من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار [يقال: أسفر الصبح إذا أضاء. (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ) أي غبار ودخان تَرْهَقُها أي تغشاها قَتَرَةٌ أي كسوف وسواد. كذا قال ابن عباس. وعنه أيضا: ذلة وشدة. والقتر في كلام العرب: الغبار، جمع القترة، عن أبي عبيد، وأنشد الفرزدق:
متوج برداء الملك يتبعه ... موج ترى فوقه الرايات والقترا
وفي الخبر: إن البهائم إذا صارت ترابا يوم القيامة حول ذلك التراب في وجوه الكفار. وقال زيد بن أسلم، القترة: ما ارتفعت إلى السماء، والغبرة: ما انحطت إلى الأرض، والغبار والغبرة: واحد. أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ جمع كافر الْفَجَرَةُ جمع فاجر، وهو الكاذب المفترى على الله تعالى. وقيل: الفاسق، [يقال [: فجر فجورا: أي فسق، وفجر: أي كذب. وأصله: الميل، والفاجر: المائل. وقد مضى بيانه والكلام فيه. والحمد لله وحده.

[تفسير سورة التكوير]
سورة التكوير مكية في قول الجميع. وهي تسع وعشرون آية وفي الترمذي: عن ابن عمر قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (من سره أن ينظر إلي يوم القيامة] كأنه رأى عين [فليقرأ إذا الشمس كورت، وإذا السماء انفطرت، وإذا السماء انشقت (. قال: هذا حديث حسن [غريب «1»].
__________
(1). الزيادة من صحيح الترمذي.

إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (14)

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة التكوير (81): الآيات 1 الى 14]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ (4)
وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9)
وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ (14)
قوله تعالى: (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) قال ابن عباس: تكويرها: إدخالها في العرش. والحسن: ذهاب ضوئها. وقاله قتادة ومجاهد: وروى عن ابن عباس أيضا. سعيد بن جبير: عورت. أبو عبيدة: كورت مثل تكوير العمامة، تلف فتمحى. وقال الربيع بن خيثم: كُوِّرَتْ رمى بها، ومنه: كورته فتكور، أي سقط. قلت: واصل التكوير: الجمع، مأخوذ من كار العمامة على رأسه يكورها أي لاثها وجمعها فهي تكور ويمحى ضوءها، ثم يرمى بها في البحر. والله أعلم. وعن أبي صالح: كورت: نكست. (وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ) أي تهافتت وتناثرت. وقال أبو عبيدة: أنصبت كما تنصب العقاب إذا انكسرت. قال العجاج يصف صقرا «1»:
أبصر خربان فضاء فانكدر ... تقضي البازي إذا البازي كسر
__________
(1). هكذا البيت في نسخ الأصل التي بأيدينا والذي في ديوان العجاج رواية الأصمعي نسخة الشنقيطي: قال يمدح عمرو بن عبيد الله بن معمر: قد جبر الدين الاله فجبر. إلى أن قال:
دانى جناحيه من الطور فمر ... تقضى البازي إذا البازي كسر
أبصر خربان فضاء فانكدر ... اشكى الكلاليب إذا أهوى اطفر
الطور: الجبل وعنى هنا الشام يقول: انقض ابن معمر انقضاضة من الشام انقضاض البازي ضم جناحيه. وخربان: جمع خرب وهو ذكر الحبارى والكلاليب المخالب واطفر: أصله اظتفر فأبدلت التاء طاء فأدغمت في الظاء.

وروى أبو صالح عن ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لا يبقى في السماء يومئذ نجم إلا سقط في الأرض، حتى يفزع أهل الأرض السابعة مما لقيت وأصاب العليا)، يعني الأرض. وروى الضحاك عن ابن عباس قال: تساقطت، وذلك أنها قناديل معلقة بين السماء والأرض بسلاسل من نور، وتلك السلاسل بأيدي ملائكة من نور، فإذا جاءت النفخة الاولى مات من في الأرض ومن في السموات، فتناثرت تلك الكواكب وتساقطت السلاسل من أيدي الملائكة، لأنه مات من كان يمسكها. ويحتمل أن يكون انكدارها طمس آثارها. وسميت النجوم نجوما لظهورها في السماء بضوئها. وعن ابن عباس أيضا: انكدرت تغيرت فلم يبق لها ضوء لزوالها «1» عن أماكنها. والمعنى متقارب. (وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ) يعني قلعت من الأرض، وسيرت في الهواء، وهو مثل قوله تعالى: وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً [الكهف: 47]. وقيل: سيرها تحولها عن منزلة الحجارة، فتكون كثيبا مهيلا أي رملا سائلا وتكون كالعهن، وتكون هباء منثورا، وتكون سرابا، مثل السراب الذي ليس بشيء. وعادت الأرض قاعا صفصفا لا ترى فيها عوجا ولا أمتا. وقد تقدم «2» في غير موضع والحمد لله. (وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ) أي النوق الحوامل التي في بطونها أولادها، الواحدة عشراء أو التي أتى عليها في الحمل عشرة أشهر، ثم لا يزال ذلك اسمها حتى تضع، وبعد ما تضع أيضا. ومن عادة العرب أن يسموا الشيء باسمه المتقدم وإن كان قد جاوز ذلك، يقول الرجل لفرسه وقد قرح: هاتوا مهري وقربوا مهري، يسميه بمتقدم اسمه، قال عنترة:
لا تذكري مهري وما أطمعته ... فيكون جلدك مثل جلد الأجرب
وقال أيضا:
وحملت مهري وسطها فمضاها «3»

وإنما خص العشار بالذكر، لأنها أعز ما تكون على العرب، وليس يعطلها أهلها إلا حال القيامة. وهذا على وجه المثل، لان في القيامة لا تكون ناقة عشراء، ولكن أراد به المثل، أن هول
__________
(1). في ا، ح، و: لزلزالها.
(2). راجع ج 11 ص 245.
(3). صدره:
وضرمت قرني كبشها فتجدلا

يوم القيامة بحال لو كان للرجل ناقة عشراء لعطلها واشتغل بنفسه. وقيل: إنهم إذا قاموا من قبورهم، وشاهد بعضهم بعضا، ورأوا الوحوش والدواب محشورة، وفيها عشارهم التي كانت أنفس أموالهم، لم يعبئوا بها، ولم يهمهم أمرها. وخوطبت العرب بأمر العشار، لان مالها وعيشها أكثره من الإبل. وروى الضحاك عن ابن عباس: عطلت: عطلها أهلها، لاشتغالهم بأنفسهم. وقال الأعشى:
هو الواهب المائة المصطفا ... ة إما مخاضا وإما عشارا
وقال آخر:
ترى المرء مهجورا إذا قل ماله ... وبئت الغني يهدي له ويزار
وما ينفع الزوار مال مزورهم ... إذا سرحت شول «1» له وعشار
يقال: ناقة عشراء، وناقتان عشراوان، ونوق عشار وعشراوات، يبدلون من همزة التأنيث واوا. وقد عشرت الناقة تعشيرا: أي صارت عشراء. وقيل: العشار: السحاب يعطل مما يكون فيه وهو الماء فلا يمطر، والعرب تشبه السحاب بالحامل. وقيل: الديار تعطل فلا تسكن. وقيل: الأرض التي يعشر زرعها تعطل فلا تزرع. والأول أشهر، وعليه من الناس الأكثر. (وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ) أي جمعت والحشر: الجمع. عن الحسن وقتادة وغيرهما. وقال ابن عباس: حشرها: موتها. رواه عنه عكرمة. وحشر كل شي: الموت غير الجن والانس، فإنهما يوافيان يوم القيامة. وعن ابن عباس أيضا قال: يحشر كل شي حتى الذباب. قال ابن عباس: تحشر الوحوش غدا: أي تجمع حتى يقتص لبعضها من بعض، فيقتص للجماء من القرناء، ثم يقال لها كوني ترابا فتموت. وهذا أصح مما رواه عنه عكرمة، وقد بيناه في كتاب" التذكرة" مستوفى، ومضى في سورة" الانعام" «2» بعضه. أي إن الوحوش إذا كانت هذه حالها فكيف ببني آدم. وقيل: عني بهذا أنها مع نفرتها اليوم من الناس وتنددها
__________
(1). في ط: بزل.
(2). راجع ج 6 ص 421. [.....]

في الصحاري، تنضم غدا إلى الناس من أهوال ذلك اليوم. قال معناه أبي بن كعب. (وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ) أي ملئت من الماء، والعرب تقول: سجرت الحوض أسجره سجرا: إذا ملأته، وهو مسجور والمسجور والساجر في اللغة: الملآن. وروى الربيع بن خيثم: سجرت: فاضت وملئت. وقاله الكلبي ومقاتل والحسن والضحاك. قال ابن أبي زمنين: سجرت: حقيقته ملئت، فيفيض بعضها إلى بعض فتصير شيئا واحدا. وهو معنى قول الحسن. وقيل: أرسل عذبها على مالحها ومالحها على عذبها، حتى امتلأت. عن الضحاك ومجاهد: أي فجرت فصارت بحرا واحدا. القشيري: وذلك بأن يرفع الله الحاجز الذي ذكره في قوله تعالى: بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ [الرحمن: 20]، فإذا رفع ذلك البرزخ تفجرت مياه البحار، فعمت الأرض كلها، وصارت البحار بحرا واحدا. وقيل: صارت بحرا واحدا من الحميم لأهل النار. وعن الحسن أيضا وقتادة وابن حيان: تيبس فلا يبقى من مائها قطرة. القشيري: وهو من سجرت التنور أسجره سجرا: إذا أحميته وإذا سلط عليه الإيقاد نشف ما فيه من الرطوبة وتسير الجبال حينئذ وتصير البحار والأرض كلها بساطا واحدا، بأن يملأ مكان البحار بتراب الجبال. وقال النحاس: وقد تكون الأقوال متفقة، يكون تيبس من الماء بعد أن يفيض، بعضها إلى بعض، فتقلب نارا. قلت: ثم تسير الجبال حينئذ، كما ذكر القشيري، والله أعلم. وقال ابن زيد وشمر وعطية وسفيان ووهب وأبي وعلي بن أبي طالب وابن عباس في رواية الضحاك عنه: أوقدت فصارت نارا. قال ابن عباس: يكور الله الشمس والقمر والنجوم في البحر، ثم يبعث الله عليها ريحا دبورا، فتنفخه حتى يصير نارا. وكذا في بعض الحديث: (يأمر الله جل ثناؤه الشمس والقمر والنجوم فينتثرون في البحر، ثم يبعث الله جل ثناؤه الدبور فيسجرها نارا، فتلك نار الله الكبرى، التي يعذب بها الكفار (. قال القشيري: قيل في تفسير قول ابن عباس سُجِّرَتْ أوقدت، يحتمل أن تكون جهنم في قعور من البحار، فهي الآن غير مسجورة لقوام الدنيا، فإذا أنقضت الدنيا سجرت، فصارت كلها نارا يدخلها الله أهلها. ويحتمل أن تكون تحت البحر نار، ثم يوقد الله البحر كله فيصير نارا. وفي الخبر: البحر نار في نار.

وقال معاوية بن سعيد: بحر الروم وسط الأرض، أسفله آبار مطبقة بنحاس يسجر نارا يوم القيامة. وقيل: تكون الشمس في البحر، فيكون البحر نارا بحر الشمس. ثم جميع ما في هذه الآيات يجوز أن يكون في الدنيا قبل يوم القيامة ويكون من أشراطها، ويجوز أن يكون يوم «1» القيامة، وما بعد هذه الآيات فيكون في يوم القيامة. قلت: روي عن عبد الله بن عمرو: لا يتوضأ بماء البحر لأنه طبق جهنم. وقال أبي بن كعب: ست آيات من قبل يوم القيامة: بينما الناس في أسواقهم ذهب ضوء الشمس وبدت النجوم فتحيروا ودهشوا، فبينما هم كذلك ينظرون إذ تناثرت النجوم وتساقطت، فبينما هم كذلك إذ وقعت الجبال على وجه الأرض، فتحركت واضطربت واحترقت، فصارت هباء منثورا، ففزعت الانس إلى الجن والجن إلى الانس، واختلطت الدواب والوحوش والهوام والطير، وماج بعضها في بعض، فذلك قوله تعالى: وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ ثم قالت الجن للانس: نحن نأتيكم بالخبر، فانطلقوا إلى البحار فإذا هي نار تأجج، فبينما هم كذلك تصدعت الأرض صدعه واحدة إلى الأرض السابعة السفلى، وإلى السماء السابعة العليا، فبينما هم كذلك إذ جاءتهم ريح فأماتتهم. وقيل: معنى سُجِّرَتْ: هو حمرة مائها، حتى تصير كالدم، مأخوذ من قولهم: عين سجراء: أي حمراء. وقرا ابن كثير سُجِّرَتْ وأبو عمرو أيضا، إخبارا عن حالها مرة واحدة. وقرا الباقون بالتشديد إخبارا عن حالها في تكرير ذلك منها مرة بعد أخرى. قوله تعالى: (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ) قال النعمان بن بشير: قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ قال: (يقرن كل رجل مع كل قوم كانوا يعملون كعمله). وقال عمر بن الخطاب: يقرن الفاجر مع الفاجر، ويقرن الصالح مع الصالح. وقال ابن عباس: ذلك حين يكون الناس أزواجا ثلاثة، السابقون زوج- يعني صنفا- وأصحاب اليمين زوج، وأصحاب الشمال زوج. وعنه أيضا قال: زوجت نفوس المؤمنين بالحور العين، وقرن الكافر
__________
(1). يوم: ساقطة من ب، ز، ط.

بالشياطين، وكذلك المنافقون. وعنه أيضا: قرن كل شكل بشكله من أهل الجنة واهل النار، فيضم المبرز في الطاعة إلى مثله، والمتوسط إلى مثله، واهل المعصية إلى مثله، فالتزويج أن يقرن الشيء بمثله، والمعنى: وإذا النفوس قرنت إلى أشكالها في الجنة والنار. وقيل: يضم كل رجل إلى من كان يلزمه من ملك وسلطان، كما قال تعالى: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ [الصافات: 22]. وقال عبد الرحمن بن زيد: جعلوا أزواجا على أشباه أعمالهم ليس بتزويج، أصحاب اليمين زوج، وأصحاب الشمال زوج، والسابقون زوج، وقد قال جل ثناؤه: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ [الصافات: 22] أي أشكالهم. وقال عكرمة: وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ قرنت الأرواح بالأجساد، أي ردت إليها. وقال الحسن: ألحق كل امرئ بشيعته: اليهود باليهود، والنصارى بالنصارى، والمجوس بالمجوس، وكل من كان يعبد شيئا من دون الله يلحق بعضهم ببعض، والمنافقون بالمنافقين، والمؤمنون بالمؤمنين. وقيل: يقرن الغاوي بمن أغواه من شيطان أو إنسان، على جهة البغض والعداوة، ويقرن المطيع بمن دعاه إلى الطاعة من الأنبياء والمؤمنين. وقيل: قرنت النفوس بأعمالها، فصارت لاختصاصها به كالتزويج. قوله تعالى: (وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ. بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) الموءودة المقتولة، وهي الجارية تدفن وهي حية، سميت بذلك لما يطرح عليها من التراب، فيوءودها أي يثقلها حتى تموت، ومنه قوله تعالى: وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما [البقرة: 255] أي لا يثقله، وقال متمم بن نويرة:
وموءودة مقبورة في مفازة ... بآمتها موسودة لم تمهد «1»
وكانوا يدفنون بناتهم أحياء لخصلتين: إحداهما كانوا يقولون إن الملائكة بنات الله، فألحقوا البنات به. الثانية إما مخافة الحاجة والإملاق، وإما خوفا من السبي والاسترقاق. وقد مضى
__________
(1). كذا روى البيت ونسب إلى متمم بن نويرة في الأصول ونسبه اللسان وشرح القاموس مادة (عوز) إلى حسان رضى الله عنه وروى فيهما:
وموءودة مقرورة في معاوز ... بآمتها مرموسة لم توسد
والآمة: ما يعلق بسرة المولود إذا سقط من بطن أمه. والمعاوز: خرق يلف بها الصبي.

في سورة" النحل" «1» هذا المعنى، عند قوله تعالى: أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ [النحل: 59] مستوفى. وقد كان ذوو الشرف منهم يمتنعون من هذا ويمنعون منه، حتى افتخر به الفرزدق، فقال:
ومنا «2» الذي منع الوائدات ... فأحيا الوئيد فلم يوأد
يعني جده صعصعة كان يشتريهن من آبائهن. فجاء الإسلام وقد أحيا سبعين موءودة. وقال ابن عباس: كانت المرأة في الجاهلية إذا حملت حفرت حفرة، وتمخضت على رأسها، فإن ولدت جارية رمت بها في الحفرة، وردت التراب عليها، وإن ولدت غلاما حبسته، ومنه قول الراجز:
سميتها إذ ولدت تموت ... والقبر صهر ضامن زميت
الزميت الوقور، والزميت مثال الفسيق أوقر من الزميت، وفلان أزمت الناس أي أوقرهم، وما أشد تزمته، عن الفراء. وقال قتادة: كانت الجاهلية يقتل أحدهم ابنته، ويغذو كلبه، فعاتبهم الله على ذلك، وتوعدهم بقوله: وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ قال عمر في قوله تعالى: وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ قال: جاء قيس بن عاصم إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله! إني وأدت ثمان بنات كن لي في الجاهلية، قال: (فأعتق عن كل واحدة منهن رقبة) قال: يا رسول الله إني صاحب إبل، قال: (فأهد عن كل واحدة منهن بدنه إن شئت). وقوله تعالى: سُئِلَتْ سؤال الموءودة سؤال توبيخ لقاتلها، كما يقال للطفل إذا ضرب: لم ضربت؟ وما ذنبك؟ قال الحسن: أراد الله أن يوبخ قاتلها، لأنها قتلت بغير ذنب. وقال ابن أسلم: بأي ذنب ضربت، وكانوا يضربونها. وذكر بعض أهل العلم في قوله تعالى: سُئِلَتْ قال: طلبت، كأنه يريد كما يطلب بدم القتيل. قال: وهو كقوله: وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلًا [الأحزاب: 15] أي مطلوبا. فكأنها طلبت منهم، فقيل أين أولادكم؟ وقرا الضحاك وأبو الضحا عن جابر بن زيد وأبي صالح وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ فتتعلق الجارية بأبيها، فتقول: بأي ذنب
__________
(1). راجع ج 10 ص (117)
(2). ويروى: وجدي الذي منع الوائدات ... إلخ.

قتلتني؟! فلا يكون له عذر، قاله ابن عباس وكان يقرأ وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ وكذلك هو في مصحف أبي. وروى عكرمة عن ابن عباس عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (إن المرأة التي تقتل ولدها تأتي يوم القيامة متعلقا ولدها بثدييها، ملطخا بدمائه، فيقول يا رب، هذه أمي، وهذه قتلتني (. والقول الأول عليه الجمهور، وهو مثل قوله تعالى لعيسى: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ، على جهة التوبيخ والتبكيت لهم، فكذلك سؤال الموءودة توبيخ لوائدها، وهو أبلغ من سؤالها عن قتلها، لان هذا مما لا يصح إلا بذنب، فبأي ذنب كان ذلك، فإذا ظهر أنه لا ذنب لها، كان أعظم في البلية وظهور الحجة على قاتلها. والله أعلم. وقرى" قتلت" بالتشديد، وفية دليل بين على أن أطفال المشركين لا يعذبون، وعلى أن التعذيب لا يستحق إلا بذنب. قوله تعالى: (وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ) أي فتحت بعد أن كانت مطوية، والمراد صحف الأعمال التي كتبت الملائكة فيها ما فعل أهلها من خير وشر، تطوى بالموت، وتنشر في يوم القيامة، فيقف كل إنسان على صحيفته، فيعلم ما فيها، فيقول: مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها [الكهف: 49]. وروى مرثد بن وداعة قال: إذا كان يوم القيامة تطايرت الصحف من تحت العرش، فتقع صحيفة المؤمن في يده فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ [الحاقة: 22] إلى قوله: الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ [الحاقة: 24] وتقع صحيفة الكافر في يده فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ إلى قوله: وَلا كَرِيمٍ [الواقعة: 44- 42]. وروى عن أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة) فقلت: يا رسول الله فكيف بالنساء؟ قال: (شغل الناس يا أم سلمة). قلت: وما شغلهم؟ قال: (نشر الصحف فيها مثاقيل الذر ومثاقيل الخردل). وقد مضى في سورة" سبحان" «1» قول أبي الثوار العدوي: هما نشرتان وطية، أما ما حييت يا ابن آدم فصحيفتك المنشورة فأمل فيها ما شئت، فإذا مت طويت، حتى إذا بعثت نشرت اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً [الاسراء: 14]. وقال مقاتل: إذا مات المرء طويت صحيفة عمله، فإذا كان يوم القيامة نشرت. وعن عمر رضى الله عنه أنه كان إذا قرأها قال: إليك يساق
__________
(1). راجع ج 10 ص 230.

الامر يا بن آدم. وقرا نافع وابن عامر وعاصم وأبو عمرو نُشِرَتْ مخففة، على نشرت مرة واحدة، لقيام الحجة. الباقون بالتشديد، على تكرار النشر، للمبالغة في تقريع العاصي، وتبشير المطيع. وقيل: لتكرار ذلك من الإنسان والملائكة الشهداء عليه. قوله تعالى: (وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ): الكشط: قلع عن شدة التزاق، فالسماء تكشط كما يكشط الجلد عن الكبش وغيره والقشط: لغة فيه. وفي قراءة عبد الله" وإذا السماء قشطت" وكشطت البعير كشطا: نزعت جلده ولا يقال سلخته، لان العرب لا تقول في البعير إلا كشطته أو جلدته، وانكشط: أي ذهب، فالسماء تنزع من مكانها كما ينزع الغطاء عن الشيء. وقيل: تطوى كما قال تعالى: يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ [الأنبياء: 104] فكأن المعنى: قلعت فطويت. والله أعلم. قوله تعالى: (وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ) أي أوقدت فأضرمت للكفار وزيد في أحمائها. يقال: سعرت النار وأسعرتها. وقراءة العامة بالتخفيف من السعير. وقرا نافع وابن ذكوان ورويس بالتشديد لأنها أوقدت مدة بعد مرة. قال قتادة: سعرها غضب الله وخطايا بني آدم. وفي الترمذي عن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (أوقد على النار ألف سنة حتى احمرت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى ابيضت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى اسودت، فهي سوداء مظلمة" وروى موقوفا. قوله تعالى: (وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ) أي دنت وقربت من المتقين. قال الحسن: إنهم يقربون منها، لا أنها تزول عن موضعها. وكان عبد الرحمن بن زيد يقول: زينت: «1» أزلفت؟ والزلفى في كلام العرب: القربة قال الله تعالى: وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ [الشعراء: 90]، وتزلف فلان تقرب. قوله تعالى: (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ) يعني ما عملت من خير وشر. وهذا جواب إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وما بعدها. قال عمر رضي الله عنه لهذا أجرى الحديث. وروى
__________
(1). في ز: أدنيت.

فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22)

عن ابن عباس وعمر رضي الله عنهما أنهما قرأها، فلما بلغا عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ قالا لهذا أجريت القصة، فالمعنى على هذا إذا الشمس كورت وكانت هذه الأشياء، علمت نفس ما أحضرت من عملها. وفي الصحيحين عن عدي بن حاتم قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ما منكم من أحد إلا وسيكلمه الله ما بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدمه [وينظر «1» أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم ] بين يديه، فتستقبله النار، فمن استطاع منكم أن يتقي النار ولو بشق تمرة فليفعل) وقال الحسن: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ قسم وقع على قوله: عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ كما يقال: إذا نفر زيد نفر عمرو. والقول الأول أصح. وقال ابن زيد عن ابن عباس في قوله تعالى: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ إلى قوله: وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ أثنتا عشرة خصلة: ستة في الدنيا، وستة في الآخرة، وقد بينا الستة الاولى بقول أبي بن كعب.

[سورة التكوير (81): الآيات 15 الى 22]
فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19)
ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22)
قوله تعالى: (فَلا أُقْسِمُ) أي أقسم، وفَلا زائدة، كما تقدم. (بِالْخُنَّسِ الْجَوارِ الْكُنَّسِ) هي الكواكب الخمسة الدراري: زحل والمشتري وعطارد والمريخ والزهرة، فيما ذكر أهل التفسير. والله أعلم. وهو مروي عن علي كرم الله وجهه. وفي تخصيصها بالذكر من بين سائر النجوم وجهان: أحدهما: لأنها تستقبل الشمس، قاله بكر بن عبد الله المزني. الثاني: لأنها تقطع المجرة، قاله ابن عباس. وقال الحسن وقتادة: هي النجوم التي تخنس
__________
(1). الزيادة من صحيح مسلم.

بالنهار وإذا غربت، وقاله علي رضى الله عنه، قال: هي النجوم تخنس بالنهار، وتظهر بالليل، وتكنس في وقت غروبها أي تتأخر عن البصر لخفائها، فلا ترى. وفي الصحاح: وبِالْخُنَّسِ: الكواكب كلها. لأنها تخنس في المغيب، أو لأنها تخنس نهارا. ويقال: الكواكب السيارة منها دون الثابتة. وقال الفراء في قوله تعالى: فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ. الْجَوارِ الْكُنَّسِ: إنها النجوم الخمسة، زحل والمشتري والمريخ والزهرة وعطارد، لأنها تخنس في مجراها، وتكنس، أي تستتر كما تكنس الظباء في المغار، وهو الكناس. ويقال: سميت خنسا لتأخرها، لأنها الكواكب المتحيرة التي ترجع وتستقيم، يقال: خنس عنه يخنس بالضم خنوسا: تأخر، وأخنسه غيره: إذا خلفه ومضى عنه. والخنس تأخر الأنف عن الوجه مع ارتفاع قليل في الأرنبة، والرجل أخنس، والمرأة خنساء، والبقر كلها خنس. وقد روى عن عبد الله بن مسعود في قوله تعالى: فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ هي بقر الوحش. روى هشيم عن زكريا عن أبي إسحاق عن أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل قال: قال لي عبد الله ابن مسعود: إنكم قوم عرب فما الخنس؟ قلت: هي بقر الوحش، قال: وأنا أرى ذلك. وقاله إبراهيم وجابر بن عبد الله. وروي عن ابن عباس: إنما أقسم الله ببقر الوحش. وروى عنه عكرمة قال: بِالْخُنَّسِ: البقر والْكُنَّسِ: هي الظباء، فهي خنس إذا رأين الإنسان خنسن وأنقبضن وتأخرن ودخلن كناسهن. القشيري: وقيل على هذا بِالْخُنَّسِ من الخنس في الأنف، وهو تأخر الأرنبة وقصر القصبة، وأنوف البقر والظباء خنس. والأصح الحمل على النجوم، لذكر الليل والصبح بعد هذا، فذكر النجوم أليق بذلك. قلت: لله أن يقسم بما شاء من مخلوقاته من حيوان وجماد، وإن لم يعلم وجه الحكمة في ذلك. وقد جاء عن ابن مسعود وجابر بن عبد الله وهما صحابيان والنخعي أنها بقر الوحش. وعن ابن عباس وسعيد بن جبير أنها الظباء. وعن الحجاج بن منذر قال: سألت جابر بن زيد عن الجواري الكنس، فقال: الظباء والبقر، فلا يبعد أن يكون المراد

النجوم. وقد قيل: إنها الملائكة، حكاه الماوردي. والكنس الغيب، مأخوذة من الكناس، وهو كناس الوحش الذي يختفي فيه. قال أوس بن حجر:
ألم تر أن الله أنزل مزنة ... وغفر الظباء في الكناس تقمع «1»
وقال طرفة:
كأن كناسي ضالة يكنفانها ... وأطر قسي تحت صلب مؤيد «2»
وقيل: الكنوس أن تأوي إلى مكانسها، وهي المواضع التي تأوي إليها الوحوش والظباء. قال الأعشى:
فلما أتينا الحي أتلع أنس ... كما أتلعت تحت المكانس ربرب
يقال: تلع. النهار ارتفع وأتلعت الظبية من كناسها: أي سمت بجيدها. وقال امرؤ القيس:
تعشى «3» قليلا ثم أنحى ظلوفه ... يثير التراب عن مبيت ومكنس
والكنس: جمع كانس وكانسة، وكذا الخنس جمع خانس وخانسة. والجواري: جمع جارية من جرى يجري. (وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ) قال الفراء: أجمع المفسرون على أن معنى عسعس أدبر، حكاه الجوهري. وقال بعض أصحابنا: إنه دنا من أوله وأظلم وكذلك السحاب إذا دنا من الأرض. المهدوي: وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ أدبر بظلامه، عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما. وروى عنهما أيضا وعن الحسن وغيره: أقبل بظلامه. زيد بن أسلم: عَسْعَسَ ذهب. الفراء: العرب تقول عسعس وسعسع إذا لم يبق منه إلا اليسير. الخليل وغيره: عسعس الليل إذا أقبل أو أدبر. المبرد: هو من الأضداد، والمعنيان يرجعان إلى شي واحد، وهو ابتداء الظلام في أوله، وإدباره في آخره، وقال علقمة بن قرط:
حتى إذا الصبح لها تنفسا ... وأنجاب عنها ليلها وعسعسا
__________
(1). تقمع: تحرك رءوسها من القمعة وهي ذباب أزرق يدخل في أنوف الدواب أو يقع عليها فيلسعها.
(2). قال: (كناسى) لان الحيوان يستكن بالغداة في ظلها وبالعشي في فيئها. والضال: السدر البري الواحدة ضالة. والاطر: العطف. والمؤيد: المقوي. يقول الشاعر:
كأن كناسى ضالة يكنفان هذه ... الناقة لسعة ما بين مرفقيها وزورها.
(3). تعشى: دخل في العشاء وهو أول الليل. ظلوفه: حوافره.

وقال روبة:
يا هند ما أسرع ما تسعسعا ... من بعد ما كان فتى سرعرعا «1»
وهذه حجة الفراء. وقال امرؤ «2» القيس:
عسعس حتى لو يشاء آدنا ... كان لنا من ناره مقبس
فهذا يدل على الدنو. وقال الحسن ومجاهد: عسعس: أظلم، قال الشاعر:
حتى إذا ما ليلهن عسعسا ... ركبن من حد الظلام حندسا
الماوردي: واصل العس الامتلاء، ومنه قيل للقدح الكبير عس لامتلائه بما فيه، فأطلق على إقبال الليل لابتداء امتلائه، وأطلق على إدباره لانتهاء امتلائه على ظلامه، لاستكمال امتلائه به. وأما قول امرئ القيس:
ألما على الربع القديم بعسعسا «3»

فموضع بالبادية. وعسعس أيضا اسم رجل، قال الراجز:
وعسعس نعم الفتى تبياه

أي تعتمده. ويقال للذئب العسعس والعسعاس والعساس، لأنه يعس بالليل ويطلب. ويقال للقنافذ العساعس لكثرة ترددها بالليل. قال أبو عمرو: والتعسعس الشم، وأنشد:
كمنخر الذنب إذا تعسعسا
والتعسعس أيضا: طلب الصيد [بالليل «4»].
__________
(1). تسعسعا: أدبر وفني والسرعرع: الشاب الناعم.
(2). كذا في الأصول كلها ولم نجده في ديوانه. وفي السان: كان له من ضوئه مقبس. ثم قال: أنشده أبو البلاد النحوي وقال: وكانوا يرون أن هذا البيت مصنوع. وأدنا أصله: إذ دنا فأدغم.
(3). تمامه،
كأني أنادى أو إكام أخرسا

(4). الزيادة من الصحاح. [.....]

قوله تعالى: (وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ) أي أمتد حتى يصير نهارا واضحا، يقال للنهار إذا زاد: تنفس. وكذلك الموج إذا نضح الماء. ومعنى التنفس: خروج النسيم من الجوف. وقيل: إِذا تَنَفَّسَ أي انشق وانفلق، ومنه تنفست القوس «1» أي تصدعت. (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) هذا جواب القسم. والرسول الكريم جبريل، قاله الحسن وقتادة والضحاك. والمعنى إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ عن الله كَرِيمٍ على الله. وأضاف الكلام إلى جبريل عليه السلام، ثم عداه عنه بقوله تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ [الواقعة: 80] ليعلم أهل التحقيق في التصديق، أن الكلام لله عز وجل. وقيل: هو محمد عليه الصلاة والسلام (ذِي قُوَّةٍ) من جعله جبريل فقوته ظاهرة فروى الضحاك عن ابن عباس قال: من قوته قلعه مدائن قوم لوط بقوادم جناحه. (عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ) أي عند الله جل ثناؤه (مَكِينٍ) أي ذي منزلة ومكانة، فروي عن أبي صالح قال: يدخل سبعين سرادقا بغير إذن. (مُطاعٍ ثَمَّ): أي في السموات، قال ابن عباس: من طاعة الملائكة جبريل، أنه لما أسري برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال جبريل عليه السلام لرضوان خازن الجنان: افتح له، ففتح، فدخل وراي ما فيها، وقال لمالك خازن النار: أفتح له جهنم حتى ينظر إليها، فأطاعه وفتح له. (أَمِينٍ) أي مؤتمن على الوحي الذي يجئ به. ومن قال: إن المراد محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فالمعنى ذِي قُوَّةٍ على تبليغ الرسالة مُطاعٍ أي يطيعه من أطاع الله عز وجل. (وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ) يعني محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليس بمجنون حتى يتهم في قوله. وهو من جواب القسم. وقيل: أراد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يرى جبريل في الصورة التي يكون بها عند ربه جل وعز فقال: ما ذاك إلي، فإذن له الرب جل ثناؤه، فأتاه وقد سد الأفق، فلما نظر إليه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خر مغشيا عليه، فقال المشركون: إنه مجنون، فنزلت: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ وإنما رأى جبريل على صورته فهابه، وورد عليه ما لم تحتمل بنيته، فخر مغشيا عليه.
__________
(1). في نسخ الأصل (تنفست القوس والنفوس: أي تصدعت. واللغة لا ذكر فيها لكلمة النفوس ولعلها زيادة من الناسخ.)

وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)

[سورة التكوير (81): الآيات 23 الى 29]
وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (27)
لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (29)
قوله تعالى: (وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ) أي رأى جبريل في صورته، له ستمائة جناح. بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ أي بمطلع الشمس من قبل المشرق، لان هذا الأفق إذا كان منه تطلع الشمس فهو مبين. أي من جهته ترى الأشياء. وقيل: الأفق المبين: أقطار السماء ونواحيها، قال الشاعر:
أخذنا بآفاق السماء عليكم ... لنا قمراها والنجوم الطوالع
الماوردي: فعلى هذا، فيه ثلاثة أقاويل أحدها: أنه رآه في أفق السماء الشرقي، قاله سفيان. الثاني: في أفق السماء الغربي، حكاه ابن شجرة. الثالث: أنه رآه نحو أجياد، وهو مشرق مكة، قاله مجاهد. وحكى الثعلبي عن ابن عباس، قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لجبريل:" إني أحب أن أراك في صورتك التي تكون فيها في السماء" قال: لن تقدر على ذلك. قال:" بلى" قال: فأين تشاء أن أتخيل لك؟ قال:" بالأبطح" قال: لا يسعني. قال:" فبمنى" قال: لا يسعني. قال:" فبعرفات" قال: ذلك بالحري أن يسعني. قواعده فخرج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للوقت، فإذا هو قد أقبل بخشخشة وكلكلة من جبال عرفات، قد ملا ما بين المشرق والمغرب، ورأسه في السماء ورجلاه في الأرض، فلما رآه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خر مغشيا عليه، فتحول جبريل في صورته، وضمة إلى صدره. وقال: يا محمد لا تخف، فكيف لو رأيت إسرافيل ورأسه من تحت العرش ورجلاه في تخوم الأرض السابعة، وإن العرش على كاهله، وإنه ليتضاءل أحيانا من خشية الله، حتى يصير مثل الوصع «1»- يعني العصفور- حتى ما يحمل عرش ربك إلا عظمته. وقيل: إن محمدا
__________
(1). في (اللسان: وصع) الوصع: هو العصفور الصغير.

عليه السلام رأى ربه عز وجل بالأفق المبين. وهو معنى قول ابن مسعود. وقد مضى القول في هذا في" والنجم" «1» مستوفى، فتأمله هناك. وفي الْمُبِينِ قولان: أحدهما أنه صفة الأفق، قاله الربيع. الثاني أنه صفة لمن رآه، قاله مجاهد. (وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ): بالظاء، قراءة ابن كثير وأبي عمرو والكسائي، أي بمتهم، والظنة التهمة، قال الشاعر:
أما وكتاب الله لا عن سناءه ... هجرت ولكن الظنين ظنين
وأختاره أبو عبيد، لأنهم لم يبخلوه ولكن كذبوه، ولان الأكثر من كلام العرب: ما هو بكذا، ولا يقولون: ما هو على كذا، إنما يقولون: ما أنت على هذا بمتهم. وقرا الباقون بِضَنِينٍ بالضاد: أي ببخيل من ضننت بالشيء أضن ضنا [فهو] ضنين. فروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: لا يضن عليكم بما يعلم، بل يعلم الخلق كلام الله وأحكامه. وقال الشاعر:
أجود بمكنون الحديث وإنني ... بسرك عمن سألني لضنين
والغيب: القرآن وخبر السماء. ثم هذا صفة محمد عليه السلام. وقيل: صفة جبريل عليه السلام. وقيل: بظنين: بضعيف. حكاه الفراء والمبرد، يقال: رجل ظنين: أي ضعيف. وبئر ظنون: إذا كانت قليلة الماء، قال الأعشى:
ما جعل الجد «2» الظنون الذي ... جنب صوب اللجب الماطر
مثل الفراتي إذا ما طما ... يقذف بالبوصي والماهر
والظنون: الدين الذي لا يدري أيقضيه آخذه أم لا؟ ومنه حديث علي عليه السلام في الرجل يكون له الدين الظنون، قال: يزكيه لما مضى إذا قبضه إن كان صادقا. والظنون: الرجل السيئ الخلق، فهو لفظ مشترك. (وَما هُوَ) يعني القرآن (بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ) أي مرجوم ملعون، كما قالت قريش. قال عطاء: يريد بالشيطان الأبيض الذي كان
__________
(1). راجع ج 17 ص 94 وقول ابن مسعود هناك هو: أن محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى جبريل والذي قال بأنه رأى ربه هو ابن عباس رضى الله عنهما.
(2). الجد: البئر تكون في موضع كثير الكلا. الفراتي: المنسوب إلى الفرات. والبوصى: ضرب من سفن البحر والملاح أيضا. والماهر: السابح.

يأتي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في صورة جبريل يريد أن يفتنه. (فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ) قال قتادة: فإلى أين تعدلون عن هذا القول وعن طاعته. كذا روى معمر عن قتادة، أي أين تذهبون عن كتابي وطاعتي. وقال الزجاج: فأي طريقة تسلكون أبين من هذه الطريقة التي بينت لكم. ويقال: أين تذهب؟ وإلى أين تذهب؟ وحكى الفراء عن العرب: ذهبت الشام وخرجت العراق وانطلقت السوق: أي إليها. قال: سمعناه في هذه الأحرف الثلاثة، وأنشدني بعض بني عقيل:
تصيح بنا حنيفة إذ رأتنا ... وأى الأرض تذهب بالصياح
يريد إلى أي أرض تذهب، فحذف إلى. وقال الجنيد: معنى الآية مقرون بآية أخرى، وهي قوله تعالى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ [الحجر: 21] المعنى: أي طريق تسلكون أبين من الطريق الذي بينه الله لكم. وهذا معنى قول الزجاج. (إِنْ هُوَ) يعني القرآن (إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) أي موعظة وزجر. وإِنْ بمعنى" ما". وقيل: ما محمد إلا ذكر. (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ) أي يتبع الحق ويقيم عليه. وقال أبو هريرة وسليمان بن موسى: لما نزلت لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ قال أبو جهل: الامر إلينا، إن شئنا استقمنا، وإن شئنا لم نستقم- وهذا هو القدر، وهو رأس القدرية- فنزلت: وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ، فبين بهذا أنه لا يعمل العبد خيرا إلا بتوفيق الله، ولا شرا إلا بخذلانه. وقال الحسن: والله ما شاءت العرب الإسلام حتى شاءه الله لها. وقال وهب بن منبه: قرأت في سبعة «1» وثمانين كتابا مما أنزل الله على الأنبياء: من جعل إلى نفسه شيئا من المشيئة فقد كفر. وفي التنزيل: وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ [الانعام: 111]. وقال تعالى: وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [يونس: 100]. وقال تعالى: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [القصص: 56] والآي في هذا كثير، وكذلك الاخبار، وأن الله سبحانه هدى بالإسلام، وأضل بالكفر، كما تقدم في غير موضع. ختمت السورة والحمد لله.
__________
(1). في تفسير الثعلبي: بضعة وثمانين.

إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5)

[تفسير سورة الانفطار]
سورة الانفطار مكية عند الجميع وهي تسع عشرة آية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الانفطار (82): الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4)
عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5)
قوله تعالى: (إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ) أي تشققت بأمر الله، لنزول الملائكة، كقوله: وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا [الفرقان: 25]. وقيل: تفطرت لهيبة الله تعالى. والفطر: الشق، يقال: فطرته فانفطر، ومنه فطر ناب البعير: طلع، فهو بعير فاطر، وتفطر الشيء: شقق، وسيف فطار أي فيه شقوق، قال عنترة:
وسيفي كالعقيقة وهو كمعي ... سلاحي لا أفل ولا فطارا «1»
وقد تقدم في غير موضع «2». (وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ) أي تساقطت، نثرت الشيء انثره نثرا، فانتثر، والاسم النثار. والنثار بالضم: ما تناثر من الشيء، ودر منثر، شدد للكثرة. (وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ) أي فجر بعضها في بعض، فصارت بحرا واحدا، على ما تقدم. قال الحسن: فجرت: ذهب ماؤها ويبست، وذلك أنها أولا راكدة مجتمعة، فإذا فجرت تفرقت، فذهب ماؤها. وهذه الأشياء بين يدي الساعة، على ما تقدم في إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ [التكوير: 1]. (إِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ) أي قلبت وأخرج ما فيها من أهلها أحياء، يقال: بعثرت المتاع: قلبته ظهرا لبطن، وبعثرت الحوض وبحثرته: إذا هدمته وجعلت أسفله أعلاه. وقال قوم منهم الفراء: بُعْثِرَتْ: أخرجت ما في بطنها من الذهب والفضة. وذلك من أشراط الساعة: أن تخرج الأرض
__________
(1). العقيقة: شعاع البرق الذي يبد وكالسيف. والكمع: الضجيع.
(2). راجع ج 16 ص 4

يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8) كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9)

ذهبها وفضتها. عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ مثل: يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ
[القيامة: 13]. وتقدم. وهذا جواب إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ لأنه قسم في قول الحسن وقع على قوله تعالى: عَلِمَتْ نَفْسٌ يقول: إذا بدت هذه الأمور من أشراط الساعة ختمت الأعمال فعلمت كل نفس ما كسبت، فإنها لا ينفعها عمل بعد ذلك. وقيل: أي إذا كانت هذه الأشياء قامت القيامة، فحوسبت كل نفس بما عملت، وأوتيت كتابها بيمينها أو بشمالها، فتذكرت عند قراءته جميع أعمالها. وقيل: هو خبر، وليس بقسم، وهو الصحيح إن شاء الله تعالى.

[سورة الانفطار (82): الآيات 6 الى 9]
يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ (8) كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ) خاطب بهذا منكري البعث. وقال ابن عباس: الإنسان هنا: الوليد بن المغيرة. وقال عكرمة: أبي بن خلف. وقيل: نزلت في أبي الأشد بن كلدة الجمحي. عن ابن عباس أيضا: (ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) أي ما الذي غرك حتى كفرت؟ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ أي المتجاوز عنك. قال قتادة: غرة شيطانه المسلط عليه. الحسن: غره شيطانه الخبيث. وقيل: حمقه وجهله. رواه الحسن عن عمر رضي الله عنه. وروى غالب الحنفي قال: لما قرأ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ [الانفطار: 6] قال:" غره الجهل" وقال صالح بن مسمار: بلغنا أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قرأ يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ؟ فقال:" غره جهله". وقال عمر رضي الله عنه: كما قال الله تعالى إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا [الأحزاب: 72]. وقيل: غره عفو الله، إذ لم يعاقبه في أول مرة. قال إبراهيم بن الأشعث: قيل: للفضيل بن عياض: لو أقامك الله تعالى

يوم القيامة بين يديه، فقال لك: ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ؟ [الانفطار: 6] ماذا كنت تقول؟ قال: كنت أقول غرني ستورك المرخاة، لان الكريم هو الستار. نظمه ابن السماك فقال:
يا كاتم الذنب أما تستحي ... والله في الخلوة ثانيكا
غرك من ربك إمهاله ... وستره طول مساويكا
وقال ذو النون المصري: كم من مغرور تحت الستر وهو لا يشعر. وأنشد أبو بكر بن طاهر الأبهري:
يأمن غلا في العجب والتيه ... وغرة طول تماديه
أملى لك الله فبارزته ... ولم تخف غب معاصيه
وروى عن علي رضي الله عنه أنه صاح بغلام له مرات فلم يلبه فنظر فإذا هو بالباب، فقال: مالك لم تجبني؟ فقال. لثقتي بحلمك، وأمني من عقوبتك. فاستحسن جوابه فأعتقه. وناس يقولون: ما غرك: ما خدعك وسول لك، حتى أضعت ما وجب عليك؟ وقال ابن مسعود: ما منكم من أحد إلا وسيخلو الله به يوم القيامة، فيقول له: يا ابن آدم ماذا غرك بي؟ يا ابن آدم ماذا عملت فيما علمت؟ يا ابن آدم ماذا أجبت المرسلين؟ (الَّذِي خَلَقَكَ) أي قدر خلقك من نطفة (فَسَوَّاكَ) في بطن أمك، وجعل لك يدين ورجلين وعينين وسائر أعضائك (فَعَدَلَكَ) أي جعلك معتدلا سوى الخلق، كما يقال: هذا شي معدل. وهذه قراءة العامة وهي اختيار أبي عبيد وأبي حاتم، قال الفراء: وأبو عبيد: يدل عليه قوله تعالى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [التين: 4]. وقرا الكوفيون: عاصم وحمزة والكسائي: فَعَدَلَكَ مخففا أي: أمالك وصرفك إلى أي صورة شاء، إما حسنا وإما قبيحا، وإما طويلا وإما قصيرا. وقال [موسى بن علي ابن أبي رباح اللخمي عن أبيه عن جده «1»] قال: قال لي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" إن النطفة
__________
(1). الزيادة من تفسير الثعلبي والطبري والدر المنثور. والحديث كما رواه الثعلبي بعد السند: قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لجده (ما ولد لك)؟ قال: يا رسول الله وما عسى أن يولد لي إما غلاما أو جارية. قال (فمن يشبه) قال: فمن يشبه أمه أو أباه فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (لا تقل هكذا إن النطفة ... الحديث).

وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12)

إذا استقرت في الرحم أحضرها الله كل نسب بينها وبين آدم". أما قرأت هذه الآية (فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ): (فيما بينك وبين آدم)، [وقال عكرمة وأبو صالح: فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ ]: إن شاء في صورة إنسان، وإن شاء في صورة حمار، وإن شاء في صورة قرد، وإن شاء في صورة خنزير. وقال مكحول: إن شاء ذكرا، وإن شاء أنثى. قال مجاهد: فِي أَيِّ صُورَةٍ أي في أي شبه من أب أو أم أو عم أو خال أو غيرهم. وفِي متعلقة ب"- كبك"، ولا تتعلق ب فَعَدَلَكَ، على قراءة من خفف، لأنك تقول عدلت إلى كذا، ولا تقول عدلت في كذا، ولذلك منع الفراء التخفيف، لأنه قدر فِي متعلقة ب- فَعَدَلَكَ، وما يجوز أن تكون صلة مؤكدة، أي في أي صورة شاء ركبك. ويجوز أن تكون شرطية أي إن شاء ركبك في غير صورة الإنسان من صورة قرد أو حمار أو خنزير، ف- ما بمعنى الشرط والجزاء، أي في صورة ما شاء يركبك ركبك. قوله تعالى: (كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ) يجوز أن تكون كَلَّا بمعنى حقا و(ألا) فيبتدأ بها. ويجوز أن تكون بمعنى (لا)، على أن يكون المعنى ليس الامر كما تقولون من أنكم في عبادتكم غير الله محقون. يدل على ذلك قوله تعالى: ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ [الانفطار: 6] وكذلك يقول الفراء: يصير المعنى: ليس كما غررت به. وقيل: أي ليس الامر كما تقولون، من أنه لا بعث. وقيل: هو بمعنى الردع والزجر. أي لا تغتروا بحلم الله وكرمه، فتتركوا التفكر في آياته. ابن الأنباري: الوقف الجيد على بِالدِّينِ، وعلى رَكَّبَكَ، والوقف على كَلَّا قبيح. بَلْ تُكَذِّبُونَ يا أهل مكة بِالدِّينِ أي بالحساب، وبَلْ لنفي شي تقدم وتحقيق غيره. وإنكارهم للبعث كان معلوما، وإن لم يجر له ذكر في هذه السورة.

[سورة الانفطار (82): الآيات 10 الى 12]
وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ (10) كِراماً كاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ (12)
قوله تعالى: (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ) أي رقباء من الملائكة (كِراماً) أي علي، كقوله: كِرامٍ بَرَرَةٍ [عبس: 16]. وهنا ثلاث مسائل:

الاولى- روى عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أكرموا الكرام الكاتبين الذين لا يفارقونكم إلا عند حدى حالتين: الخراءة»
أو الجماع، فإذا اغتسل أحدكم فليستتر بجرم [حائط «2»] أو بغيره، أو ليستره أخوه). وروي عن علي رضي الله عنه قال: (لا يزال الملك موليا عن العبد ما دام بادي العورة) وروي (إن العبد إذا دخل الحمام بغير مئزر لعنه ملكاه). الثانية- وأختلف الناس في الكفار هل عليهم حفظة أم لا؟ فقال بعضهم: لا، لان أمرهم ظاهر، وعملهم واحد، قال الله تعالى: يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ [الرحمن: 41]. وقيل: بل عليهم حفظة، لقوله تعالى: كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ. وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ. كِراماً كاتِبِينَ. يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ [الانفطار: 12- 9]. وقال: وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ [الحاقة: 25] وقال: وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ [الانشقاق: 10]، فأخبر أن الكفار يكون لهم كتاب، ويكون عليهم حفظة. فإن قيل: الذي على يمينه أي شي يكتب ولا حسنة له؟ قيل له: الذي يكتب عن شماله يكون بإذن صاحبه، ويكون شاهدا على ذلك وإن لم يكتب. والله أعلم. الثالثة- سئل سفيان: كيف تعلم الملائكة أن العبد قد هم بحسنة أو سيئة؟ قال: إذا هم العبد بحسنة وجدوا منه ريح المسك، وإذا هم بسيئة وجدوا منه ريح النتن. وقد مضى في" ق" «3» عند قوله: ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق: 18] زيادة بيان لمعنى هذه الآية. وقد كره العلماء الكلام عند الغائط والجماع، لمفارقة الملك العبد عند ذلك. وقد مضى في آخر" آل عمران" «4» القول في هذا. وعن الحسن: يعلمون لا يخفى عليهم شي من أعمالكم. وقيل: يعلمون ما ظهر منكم دون ما حدثتم به أنفسكم. والله أعلم.
__________
(1). في ا، ب ح، ط، ل: الخزاية ورواية روح المعاني (ح 9 ص 317): لا يفارقونكم إلا عند إحدى الغائط والجنابة والغسل.
(2). الزيادة من الدر المنثور وفية. سبب ورود الحديث أنه عليه السلام رأى رجلا يغتسل بفلاة من الأرض ...... إلخ.
(3). راجع ج 17 ص (11)
(4). راجع 4 ص 310 فما بعدها.

إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ (15) وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ (16) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)

[سورة الانفطار (82): الآيات 13 الى 19]
إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ (15) وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ (16) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (17)
ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)
قوله تعالى: (إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ. وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ) تقسيم مثل قوله: فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ [الشورى: 7] وقال: يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ [الروم: 43]. فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا الآيتين. (يَصْلَوْنَها) أي يصيبهم لهبها وحرها (يَوْمَ الدِّينِ) أي يوم الجزاء والحساب، وكرر ذكره تعظيما لشأنه، نحو قوله تعالى: الْقارِعَةُ مَا الْقارِعَةُ؟ وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ
[القارعة: 3- 1] وقال ابن عباس فيما روى عنه: كل شي من القرآن من قوله: وَما أَدْراكَ؟ فقد أدراه. وكل شي من قوله" وما يدريك" فقد طوي عنه. (يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ) قرأ ابن كثير وأبو عمرو (يَوْمُ) بالرفع على البدل من يَوْمُ الدِّينِ أو ردا على اليوم الأول، فيكون صفة ونعتا ل- يَوْمُ الدِّينِ. ويجوز أن يرفع بإضمار هو. الباقون بالنصب على أنه في موضع رفع إلا أنه، نصب، لأنه مضاف غير متمكن، كما تقول: أعجبني يوم يقوم زيد. وأنشد المبرد:
من أي يومي من الموت أفر ... أيوم لم يقدر أم يوم قدر
فاليومان الثانيان مخفوضان بالإضافة، عن الترجمة عن اليومين الأولين، إلا أنهما نصبا في اللفظ، لأنهما أضيفا إلى غير محض. وهذا اختيار الفراء والزجاج. وقال قوم: اليوم الثاني منصوب على المحل، كأنه قال في يوم لا تملك نفس لنفس شيئا. وقيل: بمعنى: إن هذه الأشياء تكون يوم، أو على معنى يدانون يوم، لان الدين يدل عليه، أو بإضمار اذكر. (وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) لا ينازعه فيه أحد، كما قال: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ؟ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ. الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ [غافر: 17- 16]. تمت السورة والحمد لله.

وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3)

[تفسير سورة المطففين ]
سورة المطففين مكية في قول ابن مسعود والضحاك ومقاتل. ومدنية في قول الحسن وعكرمة. وهي ست وثلاثون آية قال مقاتل: وهي أول سورة نزلت بالمدينة. وقال ابن عباس وقتادة: مدنية إلا ثمان آيات من قوله: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا إلى آخرها، مكي. وقال الكلبي وجابر بن زيد: نزلت بين مكة والمدينة.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة المطففين (83): الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3)
فيه أربع مسائل: الاولى- روى النسائي عن ابن عباس قال: لما قدم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة كانوا من أخبث الناس كيلا، فأنزل الله تعالى: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ فأحسنوا الكيل بعد ذلك. قال الفراء: فهم من أوفى الناس كيلا إلى يومهم هذا. وعن ابن عباس أيضا قال: هي: أول سورة نزلت على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ساعة نزل المدينة، وكان هذا فيهم، كانوا إذا اشتروا استوفوا بكيل راجح، فإذا باعوا بخسوا المكيال والميزان، فلما نزلت هذه السورة انتهوا، فهم أوفى الناس كيلا إلى يومهم هذا. وقال قوم: نزلت في رجل يعرف بأبي جهينة، واسمه عمرو، كان له صاعان يأخذ بأحدهما، ويعطي بالآخر، قال أبو هريرة رضي الله عنه. الثانية- قوله تعالى: وَيْلٌ أي شدة عذاب في الآخرة. وقال ابن عباس: إنه واد في جهنم يسيل فيه صديد أهل النار، فهو قوله تعالى: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ أي الذين ينقصون مكاييلهم وموازينهم. وروى عن ابن عمر قال: المطفف: الرجل يستأجر المكيال

وهو يعلم أنه يحيف في كيله فوزره عليه. وقال آخرون: التطفيف في الكيل والوزن والوضوء والصلاة والحديث. وفي الموطأ قال مالك: ويقال لكل شي وفاء وتطفيف. وروى عن سالم ابن أبي الجعد قال: الصلاة بمكيال، فمن أوفى له ومن طفف فقد علمتم ما قال الله عز وجل في ذلك: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ. الثالثة- قال أهل اللغة: المطفف مأخوذ من الطفيف، وهو القليل، والمطفف هو المقل حق صاحبه بنقصانه عن الحق، في كيل أو وزن. وقال الزجاج: إنما قيل للفاعل من هذا مطفف، لأنه لا يكاد يسرق من المكيال والميزان إلا الشيء الطفيف الخفيف، وإنما أخذ من طف الشيء وهو جانبه. وطفاف المكوك وطفافه بالكسر والفتح: ما ملا أصباره، وكذلك طف المكوك وطففه، وفي الحديث: (كلكم بنو آدم طف الصاع لم تملئوه). وهو أن يقرب أن يمتلئ فلا يفعل، والمعنى بعضكم من بعض قريب، فليس لاحد على أحد فضل إلا بالتقوى. والطفاف والطفافة بالضم: ما فوق المكيال. وإناء طفاف: إذا بلغ الملء طفافه، تقول منه: أطففت. والتطفيف: نقص المكيال وهو ألا تملأه إلى أصباره، أي جوانبه، يقال: أدهقت الكأس إلى أصبارها أي إلى رأسها. وقول ابن عمر حين ذكر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سبق الخيل: كنت فارسا يومئذ فسبقت الناس حتى طفف بي الفرس مسجد بني زريق، حتى كاد يساوي المسجد. يعني: وثب بي. الرابعة- المطفف: هو الذي يخسر في الكيل والوزن، ولا يوفى حسب ما بيناه، وروى ابن القاسم عن مالك: أنه قرأ وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ فقال: لا تطفف ولا تخلب «1»، ولكن أرسل وصب عليه صبا، حتى إذا استوفى «2» أرسل يدك ولا تمسك. وقال عبد الملك بن الماجشون: نهى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن مسح الطفاف، وقال: إن البركة في رأسه. قال: وبلغني أن كيل فرعون كان مسحا بالحديد.
__________
(1). كذا في الأصول: أي لا تغش وفي ابن العربي (ولا تجلب).
(2). في ا، ح، ز، ط، ل، وابن العربي: (استوى). [.....]

قوله تعالى: (الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ) قال الفراء: أي من الناس يقال: اكتلت منك: أي استوفيت منك ويقال اكتلت ما عليك: أي أخذت ما عليك. وقال الزجاج: أي إذا اكتالوا من الناس استوفوا عليهم الكيل، والمعنى: الذين إذا استوفوا أخذوا الزيادة، وإذا أوفوا أو وزنوا لغيرهم نقصوا، فلا يرضون للناس ما يرضون لأنفسهم. الطبري: عَلَى بمعنى عند. قوله تعالى: (وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) فيه مسألتان: الاولى- قوله تعالى: وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ: أي كالوا لهم أو وزنوا لهم فحذفت اللام، فتعدى الفعل فنصب، ومثله نصحتك ونصحت لك، وأمرتك به وأمرتكه، قاله الأخفش والفراء. قال الفراء: وسمعت أعرابية تقول إذا صدر الناس أتينا التاجر فيكيلنا المد والمدين إلى الموسم المقبل. وهو من كلام أهل الحجاز ومن جاورهم من قيس. قال الزجاج: لا يجوز الوقف على" كالوا" و" وزنوا"؟ حتى تصل به" هم" قال: ومن الناس من يجعلها توكيدا، ويجيز الوقف على" كالوا" و" وزنوا" والأول الاختيار، لأنها حرف واحد. هو قول الكسائي. قال أبو عبيد: وكان عيسى بن عمر يجعلها حرفين، ويقف على" كالوا" و" وزنوا" ويبتدئ" هم يجسرون" قال: وأحسب قراءة حمزة كذلك أيضا. قال أبو عبيد: والاختيار أن يكونا كلمة واحدة من جهتين: إحداهما: الخط، وذلك أنهم كتبوهما بغير ألف، ولو كانتا مقطوعتين لكانتا" كالوا" و" وزنوا" بالألف، والأخرى: أنه يقال: كلتك ووزنتك بمعنى كلت لك، ووزنت لك، وهو كلام عربي، كما يقال: صدتك وصدت لك، وكسبتك وكسبت لك، وكذلك شكرتك ونصحتك ونحو ذلك. قوله: يُخْسِرُونَ: أي ينقصون، والعرب تقول: أخسرت الميزان وخسرته. و(هم) في موضع نصب، على قراءة العامة، راجع إلى الناس، تقديره (وإذا كالوا) الناس (أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) وفية وجهان: أحدهما أن يراد كالوا لهم أو وزنوا لهم، فحذف الجار، وأوصل الفعل، كما قال:
ولقد جنيتك أكمؤا وعساقلا ... ولقد نهيتك عن بنات الاوبر

أراد: جنيت لك، والوجه الآخر: أن يكون على حذف المضاف، وإقامة المضاف إليه مقامه، والمضاف هو المكيل والموزون. وعن ابن عباس رضي الله عنه: إنكم معاشر الأعاجم وليتم أمرين بهما هلك من كان قبلكم: المكيال والميزان. وخص الأعاجم، لأنهم كانوا يجمعون الكيل والوزن جميعا، وكانا مفرقين في الحرمين، كان أهل مكة يزنون، واهل المدينة يكيلون. وعلى القراءة الثانية" هم" في موضع رفع بالابتداء، أي وإذا كالوا للناس أو وزنوا لهم فهم يخسرون. ولا يصح، لأنه تكون الاولى ملغاة، ليس لها خبر، وإنما كانت تستقيم لو كان بعدها: وإذا كالوا هم ينقصون، أو وزنوا هم يخسرون. الثانية- قال ابن عباس قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (خمس بخمس: ما نقض قوم العهد إلا سلط الله عليهم عدوهم، ولا حكموا بغير ما أنزل الله إلا فشا فيهم الفقر، وما ظهرت الفاحشة فيهم إلا ظهر فيهم الطاعون، وما طففوا الكيل إلا منعوا النبات، وأخذوا بالسنين، ولا منعوا الزكاة إلا حبس الله عنهم المطر) خرجه أبو بكر البزار بمعناه، ومالك بن أنس أيضا من حديث ابن عمر. وقد ذكرناه في كتاب التذكرة. وقال مالك بن دينار: دخلت على جار لي قد نزل به الموت، فجعل يقول: جبلين من نار! جبلين من نار! فقلت: ما تقول؟ أتهجر؟ «1» قال: يا أبا يحيى، كان لي مكيالان، أكيل بأحدهما، واكتال بالآخر فقمت فجعلت أضرب أحدهما بالآخر حتى كسرتها فقال: يا أبا يحيى، كلما ضربت أحدهما بالآخر ازداد عظما، فمات من وجعه. وقال عكرمة: أشهد على كل كيال أو وزان أنه في النار. قيل له: فإن ابنك كيال أو وزان. فقال: أشهد أنه في النار. قال الأصمعي: وسمعت أعرابية تقول: لا تلتمس المروءة ممن مروءته في رءوس المكاييل، ولا ألسنة الموازين. وروى ذلك عن علي رضي الله عنه، وقال عبد خير: مر علي رضي الله عنه على رجل وهو يزن الزعفران وقد أرجح، فأكفأ الميزان، ثم قال: أقم الوزن بالقسط، ثم أرجح بعد ذلك ما شئت. كأنه أمره بالتسوية أولا ليعتادها، ويفضل الواجب من النفل. وقال نافع: كان ابن عمر يمر بالبائع فيقول: أتق الله وأوف الكيل
__________
(1). هجر في نومه ومرضه يهجر هجرا: هذى.

أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)

والوزن بالقسط، فإن المطففين يوم القيامة يوقفون حتى إن العرق ليلجمهم إلى أنصاف آذانهم. وقد روى أن أبا هريرة قدم المدينة وقد خرج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى خيبر واستخلف على المدينة سباع بن عرفطة، فقال أبو هريرة: فوجدناه في صلاة الصبح فقرأ في الركعة الاولى كهيعص وقرا في الركعة الثانية وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ قال أبو هريرة: فأقول في صلاتي: ويل لابي فلان، كان له مكيالان إذا اكتال اكتال بالوافي، وإذا كال كال بالناقص.

[سورة المطففين (83): الآيات 4 الى 6]
أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (6)
إنكار وتعجيب عظيم من حالهم، في الاجتراء على التطفيف، كأنهم لا يخطرون التطفيف ببالهم، ولا يخمنون تخمينا (أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ) فمسئولون عما يفعلون. والظن هنا بمعنى اليقين، أي ألا يوقن أولئك، ولو أيقنوا ما نقصوا في الكيل والوزن. وقيل: الظن بمعنى التردد، أي إن كانوا لا يستيقنون بالبعث، فهلا ظنوه، حتى يتدبروا ويبحثوا عنه، ويأخذوا بالأحوط (لِيَوْمٍ عَظِيمٍ) شأنه وهو يوم القيامة. قوله تعالى: (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) فيه أربع مسائل: الاولى: العامل في يَوْمَ فعل مضمر، دل عليه مَبْعُوثُونَ. والمعنى يبعثون يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ. ويجوز أن يكون بدلا من يوم في لِيَوْمٍ عَظِيمٍ، وهو مبني. وقيل: هو في موضع خفض، لأنه أضيف إلى غير متمكن. وقيل: هو منصوب على الظرف أي في يوم، ويقال: أقم إلى يوم يخرج فلان، فتنصب يوم، فإن أضافوا إلى الاسم فحينئذ يخفضون ويقولون: أقم إلى يوم خروج فلان. وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، التقدير: إنهم مبعوثون يوم يقوم الناس لرب العالمين ليوم عظيم.

الثانية- وعن عبد الملك بن مروان: أن أعرابيا قال له: قد سمعت ما قال الله تعالى في المطففين، أراد بذلك أن المطففين قد توجه عليهم هذا الوعيد العظيم الذي سمعت به، فما ظنك بنفسك وأنت تأخذ أموال المسلمين بلا كيل ولا وزن. وفي هذا الإنكار والتعجيب وكلمة الظن، ووصف اليوم بالعظيم، وقيام الناس فيه لله خاضعين، ووصف ذاته برب العالمين، بيان بليغ لعظم الذنب، وتفاقم الإثم في التطفيف، وفيما كان في مثل حاله من الحيف، وترك القيام بالقسط، والعمل على التسوية والعدل، في كل أخذ وإعطاء، بل في كل قول وعمل. الثالثة- قرأ ابن عمر: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ حتى بلغ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ فبكى حتى سقط، وامتنع من قراءة ما بعده، ثم قال: سمعت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول (يوم يقوم الناس لرب العالمين، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، فمنهم من يبلغ العرق كعبيه، ومنهم من يبلغ ركبتيه، ومنهم من يبلغ حقويه، ومنهم من يبلغ صدره، ومنهم من يبلغ أذنيه، حتى إن أحدهم ليغيب في رشحه كما يغيب الضفدع ( «1». وروى ناس عن ابن عباس قال: يقومون مقدار ثلاثمائة سنة. قال: ويهون على المؤمنين قدر صلاتهم الفريضة. وروى عن عبد الله بن عمر عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (يقومون ألف عام في الظلة). وروى مالك عن نافع عن ابن عمر عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (يوم يقوم الناس لرب العالمين حتى إن أحدهم ليقوم في رشحه إلى أنصاف أذنيه). وعنه أيضا عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يقوم مائة سنة). وقال أبو هريرة قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لبشير الغفاري: (كيف أنت صانع في يوم يقوم الناس فيه مقدار ثلاثمائة سنة لرب العالمين، لا يأتيهم فيه خبر، ولا يؤمر فيه بأمر) قال بشير: المستعان الله. قلت: قد ذكرناه مرفوعا من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إنه ليخفف عن المؤمن، حتى يكون أخف عليه من صلاة المكتوبة يصليها في الدنيا) في سَأَلَ سائِلٌ «2» [المعارج: 1]. وعن ابن عباس: يهون على المؤمنين قدر صلاتهم الفريضة. وقيل:
__________
(1). أي في الماء.
(2). راجع ج 18 ص 282.

كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13)

إن ذلك المقام على المؤمن كزوال الشمس، والدليل على هذا من الكتاب قوله الحق: أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس: 62] ثم وصفهم فقال: الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ [يونس: 63] جعلنا الله منهم بفضله وكرمه وجوده. ومنه أمين. وقيل: المراد بالناس جبريل عليه السلام يقوم لرب العالمين، قاله ابن جبير وفية بعد، لما ذكرنا من الاخبار في ذلك، وهي صحيحة ثابتة، وحسبك بما في صحيح مسلم والبخاري والترمذي من حديث ابن عمر عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ قال: (يقوم أحدهم في رشحه إلى نصف أذنيه). ثم قيل: هذا القيام يوم يقومون من قبورهم. وقيل: في الآخرة بحقوق عباده في الدنيا. وقال يزيد الرشك: يقومون بين يديه للقضاء. الرابعة- القيام لله رب العالمين سبحانه حقير بالإضافة إلى عظمته وحقه، فأما قيام الناس بعضهم لبعض فاختلف فيه الناس، فمنهم من أجازه، ومنهم من منعه. وقد روي أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قام إلى جعفر بن أبي طالب واعتنقه، وقام طلحة لكعب بن مالك يوم تيب عليه. وقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للأنصار حين طلع عليه سعد بن معاذ: (قوموا إلى سيدكم). وقال أيضا: (من سره أن يتمثل له الناس قياما فليتبوأ مقعده من النار). وذلك يرجع إلى حال الرجل ونيته، فإن أنتظر ذلك واعتقده لنفسه، فهو ممنوع، وإن كان على طريق البشاشة والوصلة فإنه جائز، وخاصة عند الأسباب، كالقدوم من السفر ونحوه. وقد مضى في آخر سورة" يوسف" «1» شي من هذا.

[سورة المطففين (83): الآيات 7 الى 13]
كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ (8) كِتابٌ مَرْقُومٌ (9) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11)
وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13)
__________
(1). راجع ج 9 ص 265 فما بعدها.

قوله تعالى: (كَلَّا إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ) قال قوم من أهل العلم بالعربية: كَلَّا ردع وتنبيه، أي ليس الامر على ما هم عليه من تطفيف الكيل والميزان، أو تكذيب بالآخرة، فليرتدعوا عن ذلك. فهي كلمة ردع وزجر، ثم استأنف فقال: إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ. وقال الحسن: كَلَّا بمعنى حقا. وروى ناس عن ابن عباس كَلَّا قال: ألا تصدقون، فعلى هذا: الوقف" لرب العالمين. وفي تفسير مقاتل: إن أعمال الفجار. وروى ناس عن ابن عباس قال: إن أرواح الفجار وأعمالهم لَفِي سِجِّينٍ. وروى ابن أبي نجيج عن مجاهد قال: سجين صخرة تحت الأرض السابعة، تقلب فيجعل كتاب الفجار تحتها. ونحوه عن ابن عباس وقتادة وسعيد بن جبير ومقاتل وكعب، قال كعب: تحتها أرواح الكفار تحت خد إبليس. وعن كعب أيضا قال: سجين صخرة سوداء تحت الأرض السابعة، مكتوب فيها اسم كل شيطان، تلقى أنفس الكفار عندها. وقال سعيد بن جبير: سجين تحت خد إبليس. يحيى بن سلام: حجر أسود تحت الأرض، يكتب فيه أرواح الكفار. وقال عطاء الخراساني: هي الأرض السابعة السفلى، وفيها إبليس وذريته. وعن ابن عباس قال: إن الكافر يحضره الموت، وتحضره رسل الله، فلا يستطيعون لبغض الله له وبغضهم إياه، أن يؤخروه ولا يعجلوه حتى تجئ ساعته، فإذا جاءت ساعته قبضوا نفسه، ورفعوه إلى ملائكة العذاب، فأروه ما شاء الله أن يروه من الشر، ثم هبطوا به إلى الأرض السابعة، وهي سجين، وهي آخر سلطان إبليس، فأثبتوا فيها كتابه. وعن كعب الأحبار في هذه الآية قال: إن روح الفاجر إذا قبضت يصعد بها إلى السماء، فتأبى السماء أن تقبلها، ثم يهبط بها إلى الأرض، فتأبى الأرض أن تقبلها، فتدخل في سبع أرضين، حتى ينتهى بها إلى سجين، وهو خد إبليس. فيخرج لها من سجين من تحت خد إبليس رق، فيرقم فيوضع تحت خد إبليس. وقال الحسن: سجين في الأرض السابعة. وقيل: هو ضرب مثل وإشارة إلى أن الله تعالى يرد أعمالهم التي ظنوا أنها تنفعهم. قال مجاهد: المعنى عملهم تحت الأرض السابعة لا يصعد منها شي. وقال:

سجين صخرة في الأرض السابعة. وروى أبو هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (سجين جب في جهنم وهو مفتوح) وقال في الفلق: (إنه جب مغطى). وقال أنس: هي دركة في الأرض السفلى. وقال أنس قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سجين أسفل الأرض السابعة (. وقال عكرمة:) سجين: خسار وضلال، كقولهم لمن سقط قدره: قد زلق بالحضيض. وقال أبو عبيدة والأخفش والزجاج: لَفِي سِجِّينٍ لفي حبس وضيق شديد، فعيل من السجن، كما يقول: فسيق وشريب، قال ابن مقبل:
ورفقة يضربون البيض ضاحية ... ضربا تواصت به الابطال سجينا «1»
والمعنى: كتابهم في حبس، جعل ذلك دليلا على خساسة منزلتهم، أو لأنه يحل من الاعراض عنه والابعاد له محل الزجر والهوان. وقيل: أصله سجيل، فأبدلت اللام نونا. وقد تقدم ذلك «2». وقال زيد بن أسلم: سجين في الأرض السافلة، وسجيل في السماء الدنيا. القشيري: سجين: موضع في السافلين، يدفن فيه كتاب هؤلاء، فلا يظهر بل يكون في ذلك الموضع كالمسجون. وهذا دليل على خبث أعمالهم، وتحقير الله إياها، ولهذا قال في كتاب الأبرار: يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ. وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ أي ليس ذلك مما كنت تعلمه يا محمد أنت ولا قومك. ثم فسره له فقال: (كِتابٌ مَرْقُومٌ) أي مكتوب كالرقم في الثوب، لا ينسى ولا يمحى. وقال قتادة: مرقوم أي مكتوب، رقم لهم بشر: لا يزاد فيهم أحد ولا ينقص منهم أحد. وقال الضحاك: مرقوم: مختوم، بلغة حمير، واصل الرقم: الكتابة، قال:
سأرقم في الماء القراح «3» إليكم ... على بعدكم إن كان للماء راقم
وليس في قوله: (وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ) ما يدل على أن لفظ سجين ليس عربيا كما لا يدل في قوله: (الْقارِعَةُ مَا الْقارِعَةُ. وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ) بل هو تعظيم لأمر سجين. وقد مضى في مقدمة الكتاب- والحمد لله- أنه ليس في القرآن غير عربي. (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ)
__________
(1). الذي في التاج نقلا عن الجوهري:
ورجلة يضربون الهام عن عرض

(2). راجع ج 1 ص 68.
(3). القراح بوزن سحاب: الماء الذي لا ثقل به.

كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17)

أي شدة وعذاب يوم القيامة للمكذبين. ثم بين تعالى أمرهم فقال: الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ أي بيوم الحساب والجزاء والفصل بين العباد. (وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ) أي فاجر جائز عن الحق، معتد على الخلق في معاملته إياهم وعلى نفسه، وهو أثيم في ترك أمر الله. وقيل هذا في الوليد بن المغيرة وأبي جهل ونظرائهما لقوله تعالى: (إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) وقراءة العامة تُتْلى بتاءين، وقراءة أبي حيوة وأبي سماك وأشهب العقيلي والسلمى:" إذا يتلى" بالياء. وأساطير الأولين: أحاديثهم وأباطيلهم التي كتبوها وزخرفوها. واحدها أسطورة وإسطارة، وقد تقدم.

[سورة المطففين (83): الآيات 14 الى 17]
كَلاَّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17)
قوله تعالى: (كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ): كَلَّا: ردع وزجر، أي ليس هو أساطير الأولين. وقال الحسن: معناها حقا رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ. وقيل: في الترمذي: عن أبي هريرة عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (إن العبد إذا أخطأ خطيئة نكتت في قلبه نكتة سوداء، فإذا هو نزع واستغفر الله وتاب، صقل قلبه، فإن عاد زيد فيها، حتى تعلو على قلبه (، وهو (الران) الذي ذكر الله في كتابه: كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (. قال: هذا حديث حسن صحيح. وكذا قال المفسرون: هو الذنب على الذنب حتى يسود القلب. قال مجاهد: هو الرجل يذنب الذنب، فيحيط الذنب بقلبه، ثم يذنب الذنب فيحيط الذنب بقلبه، حتى تغشى الذنوب قلبه. قال مجاهد: هي مثل الآية التي في سورة البقرة: بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً [البقرة «1»: 81] الآية. ونحوه عن الفراء، قال: يقول كثرت المعاصي منهم والذنوب، فأحاطت بقلوبهم، فذلك الرين عليها. وروي عن مجاهد أيضا قال: القلب مثل الكهف ورفع كفه، فإذا أذنب العبد الذنب انقبض، وضم إصبعه، فإذا أذنب الذنب انقبض، وضم
__________
(1). راجع ج 2 ص 11

أخرى، حتى ضم أصابعه كلها، حتى يطبع على قلبه. قال: وكانوا يرون أن ذلك هو الرين، ثم قرأ: كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ. ومثله عن حذيفة رضي الله عنه سواء. وقال بكر بن عبد الله: إن العبد إذا أذنب صار في قلبه كوخزة الإبرة، ثم صار إذا أذنب ثانيا صار كذلك، ثم إذا كثرت الذنوب صار القلب كالمنخل، أو كالغربال، لا يعي خيرا، ولا يثبت فيه صلاح. وقد بينا في" البقرة" «1» القول في هذا المعنى بالأخبار الثابتة عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلا معنى لإعادتها. وقد روى عبد الغني بن سعيد عن موسى ابن عبد الرحمن عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس، وعن موسى عن مقاتل عن الضحاك عن ابن عباس شيئا الله أعلم بصحته، قال: هو الران الذي يكون على الفخذين والساق والقدم، وهو الذي يلبس في الحرب. قال: وقال آخرون: الران: الخاطر الذي يخطر بقلب الرجل. وهذا مما لا يضمن عهدة صحته. فالله أعلم. فأما عامة أهل التفسير فعلى ما قد مضى ذكره قبل هذا. وكذلك أهل اللغة عليه، يقال: ران على قلبه ذنبه يرين رينا وريونا أي غلب. قال أبو عبيدة في قوله: كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ أي غلب، وقال أبو عبيد: كل ما غلبك [وعلاك «2»] فقد ران بك، ورانك، وران عليك، وقال الشاعر:
وكم ران من ذنب على قلب فاجر ... فتاب من الذنب الذي ران وانجلى
ورانت الخمر على عقله: أي غلبته، وران عليه النعاس: إذا غطاه، ومنه قول عمر في الأسيفع- أسيفع جهينة-: فأصبح قد رين به «3». أي غلبته الديون، وكان يدان، ومنه قول أبي زبيد يصف رجلا شرب حتى غلبه الشراب سكرا، فقال:
ثم لما رآه رانت به الخم ... - ر وأن لا ترينه باتقاء «4»
فقول: رانت به الخمر، أي غلبت على عقله وقلبه. وقال الأموي: قد أران القوم فهم مرينون: إذا هلكت مواشيهم وهزلت. وهذا من الامر الذي أتاهم مما يغلبهم، فلا يستطيعون احتماله. قال أبو زيد يقال: قد رين بالرجل رينا: إذا وقع فيما لا يستطيع الخروج منه، ولا قبل له
__________
(1). راجع ج 1 ص 188 فما بعدها.
(2). [وعلاك [: زيادة من (اللسان: ران) تتميما لكلام أبي عبيد.
(3). في النهاية لابن الأثير: أي أحاط الدين بماله.
(4). البيت في (اللسان: ران) منسوبا لابي زبيد يصف سكرانا غلبت عليه الخمر.

وقال. أبو معاذ النحوي: الرين: أن يسود القلب من الذنوب، والطبع أن يطبع على القلب، وهذا أشد من الرين «1»، والأقفال أشد من الطبع. الزجاج: الرين: هو كالصدإ يغشى القلب كالغيم الرقيق، ومثله الغين، يقال: غين على قلبه: غطى. والغين: شجر ملتف، الواحدة غيناء، أي خضراء، كثيره الورق، ملتفة الأغصان. وقد تقدم قول الفراء أنه إحاطة الذنب بالقلوب. وذكر الثعلبي عن ابن عباس: رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ: أي غطى عليها. وهذا هو الصحيح عنه إن شاء الله. وقرا حمزة والكسائي والأعمش وأبو بكر والمفضل رانَ بالامالة، لان فاء الفعل الراء، وعينه الالف منقلبة من ياء، فحسنت الإمالة لذلك. ومن فتح فعلى الأصل، لان باب فاء الفعل في (فعل) الفتح، مثل كال وباع ونحوه. واختاره أبو عبيد وأبو حاتم ووقف حفص بَلْ ثم يبتدئ رانَ وقفا يبين اللام، لا للسكت. قوله تعالى: (كَلَّا إِنَّهُمْ) أي حقا إِنَّهُمْ يعني الكفار (عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ) أي يوم القيامة (لَمَحْجُوبُونَ). وقيل: كَلَّا ردع وزجر، أي ليس كما يقولون، بل إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ. قال الزجاج: في هذه الآية دليل على أن الله عز وجل يرى في القيامة، ولولا ذلك ما كان في هذه الآية فائدة، ولا خست منزله الكفار بأنهم يحجبون. وقال جل ثناؤه: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ، إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ [القيامة: 23- 22] فأعلم الله جل ثناؤه أن المؤمنين ينظرون إليه، وأعلم أن الكفار محجوبون عنه، وقال مالك بن أنس في هذه الآية: لما حجب أعداءه فلم يروه تجلى لأوليائه حتى رأوه. وقال الشافعي: لما حجب قوما بالسخط، دل على أن قوما يرونه بالرضا. ثم قال: أما والله لو لم يوقن محمد بن إدريس أنه يرى ربه في المعاد لما عبده في الدنيا. وقال الحسين بن الفضل: لما حجبهم في الدنيا عن نور توحيده حجبهم في الآخرة عن رؤيته. وقال مجاهد في قوله تعالى: لَمَحْجُوبُونَ: أي عن كرامته ورحمته ممنوعون. وقال قتادة: هو أن الله لا ينظر إليهم برحمته، ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم. وعلى الأول الجمهور، وأنهم محجوبون عن رؤيته فلا يرونه. (ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ) أي
__________
(1). الرين: هو الختم أي الطبع على القلب كما في (اللسان) مادة (رين).

كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21)

ملازموها، ومحترفون فيها غير خارجين منها، كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها [النساء: 56] وكُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً [الاسراء: 97]. ويقال: الجحيم الباب الرابع من النار. (ثم يقال) لهم أي تقول لهم خزنة جهنم (هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) رسل الله في الدنيا.

[سورة المطففين (83): الآيات 18 الى 21]
كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ (19) كِتابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21)
قوله تعالى: (كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ) كَلَّا بمعنى حقا، والوقف على تُكَذِّبُونَ. وقيل أي ليس الامر كما يقولون ولا كما ظنوا بل كتابهم في سجين، وكتاب المؤمنين في عليين. وقال مقاتل: كلا، أي لا يؤمنون بالعذاب الذي يصلونه. ثم أستأنف فقال: إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ مرفوع في عليين على قدر مرتبتهم. قال ابن عباس: أي في الجنة. وعنه أيضا قال: أعمالهم في كتاب الله في السماء. وقال الضحاك ومجاهد وقتادة: يعني السماء السابعة فيها أرواح المؤمنين. وروى ابن الأجلح عن الضحاك قال: هي سدرة المنتهى، ينتهي إليها كل شي من أمر الله لا يعدوها، فيقولون: رب! عبدك فلان، وهو أعلم به منهم، فيأتيه كتاب من الله عز وجل مختوم بأمانه من العذاب. فذلك قوله تعالى: كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ. وعن كعب الأحبار قال: إن روح المؤمن إذا قبضت صعد بها إلى السماء، وفتحت لها أبواب السماء، وتلقتها الملائكة بالبشرى، ثم يخرجون معها حتى ينتهوا إلى العرش، فيخرج لهم من تحت العرش، رق فيرقم ويختم فيه النجاة من الحساب يوم القيامة ويشهده المقربون. وقال قتادة أيضا: لَفِي عِلِّيِّينَ هي فوق السماء السابعة عند قائمة العرش اليمنى. وقال البراء بن عازب قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عليون في السماء السابعة تحت العرش (. وعن ابن عباس أيضا: هو لوح من زبرجدة خضراء معلق بالعرش، أعمالهم مكتوبة فيه. وقال الفراء: عليون ارتفاع بعد ارتفاع. وقيل: عليون أعلى الأمكنة. وقيل: معناه علو في علو مضاعف، كأنه لا غاية له، ولذلك جمع بالواو والنون. وهو معنى قول الطبري. قال الفراء: هو اسم موضوع على صفة الجمع، ولا واحد له من

لفظة، كقولك: عشرون وثلاثون، والعرب إذا جمعت جمعا ولم يكن له بناء من واحده ولا تثنية، قالوا في المذكر والمؤنث بالنون. وهي معنى قول الطبري. وقال الزجاج: إعراب هذا الاسم كأعراب الجمع، كما تقول: هذه قنسرون، ورأيت قنسرين. وقال يونس النحوي واحدها: علي وعلية. وقال أبو الفتح: عليين: جمع على، وهو فعيل من العلو. وكان سبيله أن يقول علية كما قالوا للغرفة علية، لأنها من العلو، فلما حذف التاء من علية عوضوا منها الجمع بالواو والنون، كما قالوا في أرضين. وقيل: إن عليين صفة للملائكة، فإنهم الملا الأعلى، كما يقال: فلان في بني فلان، أي هو في جملتهم وعندهم. والذي في الخبر من حديث ابن عمر أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (إن أهل عليين لينظرون إلى الجنة من كذا، فإذا أشرف رجل من أهل عليين أشرقت الجنة لضياء وجهه، فيقولون: ما هذا النور؟ فيقال أشرف رجل من أهل عليين الأبرار أهل الطاعة والصدق (. وفي خبر آخر:) إن أهل الجنة ليرون أهل عليين كما يرى الكوكب الدري في أفق السماء) يدل على أن عليين اسم الموضع المرتفع. وروى ناس عن ابن عباس في قوله عِلِّيِّينَ قال: أخبر أن أعمالهم وأرواحهم في السماء الرابعة. ثم قال: (وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ) أي ما الذي أعلمك يا محمد أي شي عليون؟ على جهة التفخيم والتعظيم له في المنزلة الرفيعة. ثم فسره له فقال: كِتابٌ مَرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ. وقيل: إن (كِتابٌ مَرْقُومٌ) ليس تفسيرا لعليين، بل تم الكلام عند قوله عِلِّيُّونَ ثم ابتدأ وقال: كِتابٌ مَرْقُومٌ أي كتاب الأبرار كتاب مرقوم ولهذا عكس الرقم في كتاب الفجار، قاله القشيري. وروي: أن الملائكة تصعد بعمل العبد، فيستقبلونه «1» فإذا انتهوا به إلى ما شاء الله من سلطانه أوحى إليهم: إنكم الحفظة على عبدي، وأنا الرقيب على ما في قلبه، وإنه أخلص لي عمله، فاجعلوه في عليين، فقد غفرت له، وإنها لتصعد بعمل العبد، فيتركونه فإذا انتهوا به إلى ما شاء الله أوحى إليهم: أنتم الحفظة على عبدي وأنا الرقيب على ما في قلبه، وإنه لم يخلص لي عمله، فاجعلوه في سجين.
__________
(1). فيستقبلونه: كذا في ا، ب، ح، ط، ل. [.....]

إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26) وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28)

قوله تعالى: (يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ) أي يشهد عمل الأبرار مقربو كل سماء من الملائكة. وقال وهب وابن إسحاق: المقربون هنا إسرافيل عليه السلام، فإذا عمل المؤمن عمل البر، صعدت الملائكة بالصحيفة وله نور يتلألأ في السموات كنور الشمس في الأرض، حتى ينتهي بها إلى إسرافيل، فيختم عليها ويكتب فهو قوله: يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ أي يشهد كتابتهم.

[سورة المطففين (83): الآيات 22 الى 28]
إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ (26)
وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28)
قوله تعالى: (إِنَّ الْأَبْرارَ) أي أهل الصدق والطاعة. (لَفِي نَعِيمٍ) أي نعمة، والنعمة بالفتح: التنعيم، يقال: نعمه الله وناعمة فتنعم وامرأة منعمة ومناعمة بمعنى. أي إن الأبرار في الجنات يتنعمون. (عَلَى الْأَرائِكِ) وهي الأسرة في الحجال (يَنْظُرُونَ) أي إلى ما أعد الله لهم من الكرامات، قاله عكرمة وابن عباس ومجاهد. وقال مقاتل: ينظرون إلى أهل النار. وعن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ينظرون إلى أعدائهم في النار) ذكره المهدوي. وقيل: على أرائك إفضاله ينظرون إلى وجهه وجلاله. وله تعالى: (تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ) أي بهجته غضارته ونوره، قال: نضر النبات: إذا أزهر ونور. وقراءة العامة تَعْرِفُ بفتح التاء وكسر الراء نَضْرَةَ نصبا، أي تعرف يا محمد. وقرا أبو جعفر بن القعقاع ويعقوب وشيبة وأبا أبي إسحاق: (تعرف) بضم التاء وفتح الراء على الفعل المجهول نَضْرَةَ ريعا. (يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ) أي من شراب لاش فيه. قاله الأخفش والزجاج. وقيل الرحيق الخمر الصافية. وفي الصحاح: لرحيق صفوة الخمر. والمعنى واحد. الخليل: أقصى «1» الخمر وأجودها وقال مقاتل وغيره: هي الخمر العتيقة البيضاء الصافية من الغش النيرة، قال حسان:
__________
(1). كذا في الأصول فلها ولعل الصواع: أصفى الحمر.

يسقون من، ورد البريص عليهم ... بردي يصفق بالرحيق السلسل «1»
وقال آخر «2»:
أم لا سبيل إلى الشباب وذكره ... أشهى إلي من الرحيق السلسل
(مَخْتُومٍ خِتامُهُ مِسْكٌ) قال مجاهد: يختم به آخر جرعة. وقيل: المعنى إذا شربوا هذا الرحيق ففنى ما في الكأس، أنختم ذلك بخاتم المسك. وكان ابن مسعود يقول: يجدون عاقبتها طعم المسك. ونحوه عن سعيد بن جبير وإبراهيم النخعي قالا: ختامه آخر طعمه. وهو حسن، لان سبيل الأشربة أن يكون الكدر في آخرها، فوصف شراب أهل الجنة بأن رائحة آخره رائحة المسك. وعن مسروق عن عبد الله قال: المختوم الممزوج. وقيل: مختوم أي ختمت ومنعت عن أن يمسها ماس إلى أن يفك ختامها الأبرار. وقرا علي وعلقمة وشقيق والضحاك وطاوس والكسائي" خاتمه" بفتح الخاء والتاء وألف بينهما. قاله علقمة: أما رأيت المرأة تقول للعطار: أجعل خاتمه مسكا، تريد آخره. والخاتم والختام متقاربان في المعنى، إلا أن الخاتم الاسم، والختام المصدر، قاله الفراء. وفي الصحاح: والختام: الطين الذي يختم به. وكذا قال مجاهد وابن زيد: ختم إناؤه بالمسك بدلا من الطين. حكاه المهدوي. وقال الفرزدق:
وبت أفض أغلاق الختام «3»

وقال الأعشى:
وأبرزها وعليها ختم «4»

أي عليها طينة مختومة، مثل نفض بمعنى منفوض، وقبض بمعنى مقبوض. وذكر ابن المبارك وابن وهب، واللفظ لابن وهب، عن عبد الله بن مسعود في قوله تعالى: خِتامُهُ مِسْكٌ: خلطه، ليس بخاتم يختم، ألا ترى إلى قول المرأة من نسائكم: إن خلطه من الطيب كذا وكذا.
__________
(1). تقدم شرح البيت بهامش ص 141 من هذا الجزء.
(2). هو أبو كبير الهذلي.
(3). صدر البيت:
فبتن جنابتي مصرعات

(4). صدره:
وصهباء طاف يهوديها

إنما خلطه مسك، قال: شراب أبيض مثل الفضة يختمون به آخر أشربتهم، لو أن رجلا من أهل الدنيا أدخل فيه يده ثم أخرجها، لم يبق ذو روح إلا وجد ريح طيبها. وروى أبي بن كعب قال: قيل يا رسول الله ما الرحيق المختوم؟ قال: (غدران الخمر). وقيل: مختوم في الآنية، وهو غير الذي يجري في الأنهار. فالله أعلم. (وَفِي ذلِكَ) أي وفي الذي وصفناه من أمر الجنة (فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ) أي فليرغب الراغبون يقال: نفست عليه الشيء أنفسه نفاسة: أي ضننت به، ولم أحب أن يصير إليه. وقيل: الفاء بمعنى إلى، أي وإلى ذلك فليتبادر المتبادرون في العمل، نظيره: لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ. (وَمِزاجُهُ) أي ومزاج ذلك الرحيق (مِنْ تَسْنِيمٍ) وهو شراب ينصب عليهم من علو، وهو أشرف شراب في الجنة. واصل التسنيم في اللغة: الارتفاع فهي عين ماء تجري من علو إلى أسفل، ومنه سنام البعير لعلوه من بدنه، وكذلك تسنيم القبور. وروي عن عبد الله قال: تسنيم عين في الجنة يشرب بها المقربون صرفا، ويمزج منها كأس أصحاب اليمين فتطيب. وقال ابن عباس في قوله عز وجل: وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ قال: هذا مما قال الله تعالى: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ [السجدة: 17]. وقيل: التسنيم عين تجري في الهواء بقدرة الله تعالى، فتنصب في أواني أهل الجنة على قدر مائها، فإذا امتلأت أمسك الماء، فلا تقع منه قطرة على الأرض، ولا يحتاجون إلى الاستقاء، قاله قتادة، ابن زيد: بلغنا أنها عين تجري من تحت العرش. وكذا في مراسيل الحسن. وقد ذكرناه في سورة" الإنسان" «1». (عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ) أي يشرب منها أهل جنة عدن، وهم أفاضل أهل الجنة، صرفا، وهي لغيرهم مزاج. وعَيْناً نصب على المدح. وقال الزجاج: نصب على الحال من تسنيم، وتسنيم معرفة، ليس يعرف له اشتقاق، وإن جعلته مصدرا مشتقا من السنام ف عَيْناً نصب، لأنه مفعول به، كقوله تعالى: أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ. يَتِيماً [البلد: 15- 14] وهذا قول الفراء إنه منصوب بتسنيم. وعند الأخفش ب يُسْقَوْنَ أي يسقون عينا أو من عين. وعند المبرد بإضمار أعني على المدح.
__________
(1). راجع ص 120 من هذا الجزء.

إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (32) وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)

[سورة المطففين (83): الآيات 29 الى 36]
إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ (32) وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ (33)
فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (36)
قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا) وصف أرواح الكفار في الدنيا مع المؤمنين باستهزائهم بهم والمراد رؤساء قريش من أهل الشرك. روى ناس عن ابن عباس قال: هو الوليد بن المغيرة، وعقبة بن أبي معيط، والعاص بن وائل، والأسود بن عبد يغوث، والعاص ابن هشام، وأبو جهل، والنضر بن الحارث، وأولئك (كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) من أصحاب محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مثل عمار، وخباب وصهيب وبلال (يَضْحَكُونَ) على وجه السخرية. (وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ)
عند إتيانهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (يَتَغامَزُونَ)
: يغمز بعضهم بعضا، ويشيرون بأعينهم. وقيل: أي يعيرونهم بالإسلام ويعيبونهم به يقال: غمزت الشيء بيدي، قال:
وكنت إذا غمزت قناة قوم ... كسرت كعوبها أو تستقيما
وقالت عائشة: كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا سجد غمزني، فقبضت رجلي. الحديث، وقد مضى في" النساء" «1». وغمزته بعيني. وقيل: الغمز: بمعنى العيب، يقال غمزه: أي عابه، وما في فلان غمزة أي عيب. وقال مقاتل: نزلت في علي بن أبي طالب جاء في نفر من المسلمين إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلمزهم المنافقون، وضحكوا عليهم وتغامزوا. (وَإِذَا انْقَلَبُوا) أي انصرفوا إلى أهلهم وأصحابهم وذويهم (انْقَلَبُوا فَكِهِينَ) أي معجبين منهم. وقيل: معجبون بما هم عليه من الكفر، متفكهون بذكر المؤمنين. وقرا ابن القعقاع وحفص والأعرج والسلمى: فَكِهِينَ بغير ألف. الباقون بألف. قال الفراء: هما لغتان مثل
__________
(1). راجع ج 5 ص 226.

طمع وطامع وحذر وحاذر، وقد تقدم في سورة" الدخان" «1» والحمد لله. وقيل: الفكه: الأشر البطر والفاكه: الناعم المتنعم. (وَإِذا رَأَوْهُمْ) أي إذا رأى هؤلاء الكفار أصحاب محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ) في اتباعهم محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ) لأعمالهم، موكلين بأحوالهم، رقباء عليهم (.) (فَالْيَوْمَ) يعني هذا اليوم الذي هو يوم القيامة (الَّذِينَ آمَنُوا) بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ) كما ضحك الكفار منهم في الدنيا. نظيره في آخر سورة" المؤمنين" «2» وقد تقدم. وذكر ابن المبارك: أخبرنا محمد بن بشار عن قتادة في قوله تعالى: فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ قال: ذكر لنا أن كعبا كان يقول إن بين الجنة والنار كوى، فإذا أراد المؤمن أن ينظر إلى عدو كان له في الدنيا اطلع من بعض الكوى، قال الله تعالى في آية أخرى: فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ [الصافات: 55] قال: ذكر لنا أنه أطلع فرأى جماجم القوم تغلي. وذكر ابن المبارك أيضا: أخبرنا الكلبي عن أبي صالح في قوله تعالى: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ [البقرة: 15] قال: يقال لأهل النار وهم في النار: اخرجوا، فتفتح لهم أبواب النار، فإذا رأوها قد فتحت أقبلوا إليها يريدون الخروج، والمؤمنون ينظرون إليهم على الأرائك، فإذا انتهوا إلى أبوابها غلقت دونهم، فذلك قوله اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ [البقرة: 15] ويضحك منهم المؤمنون حين غلقت دونهم فذلك قوله تعالى: فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ. (عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ. هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ) وقد مضى هذا في أول سورة" البقرة" «3». ومعنى هَلْ ثُوِّبَ أي هل جوزي بسخريتهم في الدنيا بالمؤمنين إذا فعل بهم ذلك. وقيل: إنه متعلق ب يَنْظُرُونَ أي ينظرون: هل جوزي الكفار؟ فيكون معنى هل [التقرير] وموضعها نصبا ب يَنْظُرُونَ. وقيل: استئناف لا موضع له من الاعراب. وقيل: هو إضمار على القول، والمعنى، يقول بعض المؤمنين لبعض: هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ أي أثيب وجوزي. وهو من ثاب يثوب أي رجع، فالثواب ما يرجع على العبد في مقابلة عمله، ويستعمل في الخير والشر. ختمت السورة والله أعلم.
__________
(1). راجع ج 16 ص (139)
(2). راجع ج 12 ص 155.
(3). راجع ج 1 ص 208

إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (5)

[تفسير سورة الانشقاق ]
سورة الانشقاق مكية في قول الجميع وهي خمس وعشرون آية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الانشقاق (84): الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ (4)
وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (5)
قوله تعالى: (وإِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) أي انصدعت، وتفطرت بالغمام، والغمام مثل السحاب الأبيض. وكذا روى أبو صالح عن ابن عباس. وروى عن علي عليه السلام قال: تشق من المجرة. وقال: المجرة باب السماء. وهذا من أشراط الساعة وعلاماتها. (وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ) أي سمعت، وحق لها أن تسمع. روى معناه عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما، ومنه قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" ما أذن الله لشيء كإذنه لنبي يتغنى بالقرآن" أي ما استمع الله لشيء قال الشاعر:
صم إذا سمعوا خيرا ذكرت به ... وإن ذكرت بسوء عندهم أذنوا
أي سمعوا. وقال قعنب ابن أم صاحب:
إن يأذنوا ريبة طاروا بها فرحا ... وما هم أذنوا من صالح دفنوا
وقيل: المعنى وحقق الله عليها الاستماع لأمره بالانشقاق. وقال الضحاك: حقت: أطاعت، وحق لها أن تطيع ربها، لأنه خلقها، يقال: فلان محقوق بكذا. وطاعة السماء: بمعنى أنها لا تمتنع مما أراد الله بها، ولا يبعد خلق الحياة فيها حتى تطيع وتجيب. وقال قتادة: حق لها أن تفعل ذلك، ومنه قول كثير:
فإن تكن العتبى فأهلا ومرحبا ... وحقت لها العتبى لدينا وقلت

قوله تعالى: (وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ) أي بسطت ودكت جبالها. قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (تمد مد الأديم) لان الأديم إذا مد زال كل انثناء فيه وامتد واستوى. قال ابن عباس وابن مسعود: ويزاد وسعتها كذا وكذا، لوقوف الخلائق عليها للحساب حتى لا يكون لاحد من البشر إلا موضع قدمه، لكثرة الخلائق فيها. وقد مضى في سورة" إبراهيم" «1» أن الأرض تبدل بأرض أخرى وهي الساهرة في قول ابن عباس على ما تقدم عنه «2». (وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ) أي أخرجت أمواتها، وتخلت عنهم. وقال ابن جبير: ألقت ما في بطنها من الموتى، وتخلت ممن على ظهرها من الأحياء. وقيل: ألقت ما في بطنها من كنوزها ومعادنها، وتخلت منها. أي خلا جوفها، فليس في بطنها شي، وذلك يؤذن بعظم الامر، كما تلقى الحامل ما في بطنها عند الشدة. وقيل: تخلت مما على ظهرها من جبالها وبحارها. وقيل: ألقت ما استودعت، وتخلت مما استحفظت، لان الله تعالى استودعها عباده أحياء وأمواتا، وأستحفظها بلاده مزارعة وأقواتا. (وَأَذِنَتْ لِرَبِّها) أي في إلقاء موتاها (وَحُقَّتْ) أي وحق لها أن تسمع أمره. وأختلف في جواب إِذَا فقال الفراء: أَذِنَتْ. والواو زائدة، وكذلك وَأَلْقَتْ. ابن الأنباري: قال بعض المفسرين: جواب إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ أَذِنَتْ، وزعم أن الواو مقحمة وهذا غلط، لان العرب لا تقحم الواو إلا مع (حتى- إذا) كقوله تعالى: حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها [الزمر: 71] ومع (لما) كقوله تعالى: فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ. وَنادَيْناهُ [الصافات: 104- 103] معناه نادَيْناهُ والواو لا تقحم مع غير هذين. وقيل: الجواب فاء مضمرة كأنه قال: إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ ف يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ. وقيل: جوابها ما دل عليه فَمُلاقِيهِ أي إذا السماء انشقت لاقى الإنسان كدحه. وقيل: فيه تقديم وتأخير، أي يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ. قاله المبرد. وعنه أيضا: الجواب فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ وهو قول الكسائي، أي إذا السماء انشقت فمن أوتي كتابه بيمينه فحكمه كذا. قال أبو جعفر النحاس: وهذا أصح
__________
(1). راجع ج 9 ص 383.
(2). راجع ص 196 من هذا الجزء.

يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9)

ما قيل فيه وأحسنه. قيل: هو بمعنى اذكر إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ. وقيل: الجواب محذوف لعلم المخاطبين به، أي إذا كانت هذه الأشياء علم المكذبون بالبعث ضلالتهم وخسرانهم. وقيل: تقدم منهم سؤال عن وقت القيامة، فقيل لهم: إذا ظهرت أشراطها كانت القيامة، فرأيتم عاقبة تكذيبكم بها. والقرآن كالآية الواحدة في دلالة البعض على البعض. وعن الحسن: إن قوله إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ قسم. والجمهور على خلاف قوله من أنه خبر وليس بقسم.

[سورة الانشقاق (84): الآيات 6 الى 9]
يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً (8) وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً (9)
قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً) المراد بالإنسان الجنس أي يا ابن آدم. وكذا روى سعيد عن قتادة: يا ابن آدم، إن كدحك لضعيف، فمن استطاع أن يكون كدحه في طاعة الله فليفعل ولا قوة إلا بالله. وقيل: هو معين، قال مقاتل: يعني الأسود بن عبد الأسد. ويقال: يعني أبي بن خلف. ويقال: يعني جميع الكفار، أيها الكافر إنك كادح. والكدح في كلام العرب: العمل والكسب، قال ابن مقبل:
وما الدهر إلا تارتان فمنهما ... أموت وأخرى أبتغى العيش أكدح
وقال آخر:
ومضت بشاشة كل عيش صالح ... وبقيت أكدح للحياة وأنصب
أي أعمل. وروى الضحاك عن ابن عباس: إِنَّكَ كادِحٌ أي راجع إِلى رَبِّكَ كَدْحاً أي رجوعا لا محالة (فَمُلاقِيهِ) أي ملاق ربك. وقيل: ملاق عملك. القتبي إِنَّكَ كادِحٌ أي عامل ناصب في معيشتك إلى لقاء ربك. والملاقاة بمعنى اللقاء أن تلقى ربك بعملك. وقيل أي تلاقي كتاب عملك، لان العمل قد انقضى ولهذا قال: (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ).

وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَى سَعِيرًا (12) إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا (15)

قوله تعالى: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ وهو المؤمن (فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً) لا مناقشة فيه. كذا روى عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من حديث عائشة قالت: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (من حوسب يوم القيامة عذب) قالت: فقلت يا رسول الله أليس قد قال الله فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً
فقال:" ليس ذاك الحساب، إنما ذلك العرض، من نوقش الحساب يوم القيامة عذب) أخرجه البخاري ومسلم والترمذي. وقال حديث حسن صحيح. (وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً) أزواجه في الجنة من الحور العين مَسْرُوراً أي مغتبطا قرير العين. ويقال إنها نزلت في أبي سلمة ابن عبد الأسد، هو أول من هاجر من مكة إلى المدينة. وقيل: إلى أهله الذين كانوا له في الدنيا، ليخبرهم بخلاصه وسلامته. والأول قول قتادة. أي إلى أهله الذين قد أعدهم الله له في الجنة.

[سورة الانشقاق (84): الآيات 10 الى 15]
وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً (11) وَيَصْلى سَعِيراً (12) إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14)
بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً (15)
قوله تعالى: (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ) نزلت في الأسود بن عبد الأسد أخي أبي سلمة قاله ابن عباس. ثم هي عامة في كل مؤمن وكافر. قال ابن عباس: يمد يده اليمنى ليأخذ كتابه فيجذبه ملك، فيخلع يمينه، فيأخذ كتابه بشماله من وراء ظهره. وقال قتادة ومقاتل: يفك ألواح صدره وعظامه ثم تدخل يده وتخرج من ظهره، فيأخذ كتابه كذلك. (فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً) أي بالهلاك فيقول: يا ويلاه، يا ثبوراه. (وَيَصْلى سَعِيراً) أي ويدخل النار حتى يصلى بحرها. وقرا الحرميان وابن عامر والكسائي (ويصلى) بضم الياء وفتح الصاد، وتشديد اللام، كقوله تعالى: ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ [الحاقة: 31] وقوله: وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ [الواقعة: 94]. الباقون وَيَصْلى بفتح الياء مخففا، فعل لازم غير متعد، لقوله: إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ [الصافات: 163] وقوله: يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى [الأعلى: 12] وقوله: ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ [المطففين: 16]. وقراءة ثالثة رواها أبان

عن عاصم وخارجة عن نافع وإسماعيل المكي عن ابن كثير (ويصلى) بضم الياء وإسكان الصاد وفتح اللام مخففا، كما قرئ (وسيصلون) بضم الياء، وكذلك في" الغاشية" قد قرئ أيضا: تَصْلى ناراً وهما لغتان صلى وأصلى، كقوله:" نزل. وأنزل". (إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ) أي في الدنيا (مَسْرُوراً) قال ابن زيد: وصف الله أهل الجنة بالمخافة والحزن والبكاء والشفقة في الدنيا فأعقبهم به النعيم والسرور في الآخرة، وقرا قول الله تعالى: إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ. قال: ووصف أهل النار بالسرور في الدنيا والضحك فيها والتفكه. فقال: إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً (إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ) أي لن يرجع حيا مبعوثا فيحاسب، ثم يثاب أو يعاقب. يقال: حار يحور إذا رجع، قال لبيد:
وما المرء إلا كالشهاب وضوئه ... يحور رمادا بعد إذا هو ساطع
وقال عكرمة وداود بن أبي هند، يحور كلمة بالحبشية، ومعناها يرجع. ويجوز أن تتفق الكلمتان فإنهما كلمة اشتقاق، ومنه الخبز الحوارى، لأنه يرجع إلى البياض. وقال ابن عباس: ما كنت أدري: ما يحور؟ حتى سمعت أعرابية تدعو بنية لها: حوري، أي ارجعي إلي، فالحور في كلام العرب الرجوع، ومنه قوله عليه السلام:" اللهم إني أعوذ بك من الحور بعد الكور" يعني: من الرجوع إلى النقصان بعد الزيادة، وكذلك الحور بالضم. وفي المثل" حور في محارة"»
أي نقصان في نقصان. يضرب للرجل إذا كان أمره يدبر، قال الشاعر «2»:
واستعجلوا عن خفيف المضغ فازدردوا ... والذم يبقى وزاد القوم في حور
والحور أيضا: الاسم من قولك: طحنت الطاحنة فما أحارت شيئا، أي ما ردت شيئا من الدقيق. والحور أيضا الهلكة، قال الراجز: «3»
في بئر لا حور سرى ولا شعر
__________
(1). أي حور في حور فمحاورة: مصدر ميمي بمعنى الحور.
(2). قائله سبيع بن الخطيم يريد الأكل يذهب والذم يبقى. [.....]
(3). هو العجاج.

فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ (19) فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ (21)

قال أبو عبيدة: أي بئر حور، و" لا" زائدة. وروى" بعد الكون" «1» ومعناه من انتشار الامر بعد تمامه. وسيل معمر عن الحور بعد الكون، فقال: هو الكنتي. فقال له عبد الرزاق: وما الكنتي؟ فقال: الرجل يكون صالحا ثم يتحول رجل سوء. قال أبو عمرو: يقال للرجل إذا شاخ: كنتي، كأنه نسب إلى قوله: كنت في شبابي كذا. قال:
فأصبحت كنتيا وأصبحت عاجنا ... وشر خصال المرء كنت وعاجن
عجن الرجل: إذا نهض معتمدا على الأرض من الكبر. وقال ابن الاعرابي: الكنتي: هو الذي يقول: كنت شابا، وكنت شجاعا، والكاني هو الذي يقول: كان لي مال وكنت أهب، وكان لي خيل وكنت أركب. قوله تعالى: (بَلى ) أي ليس الامر كما ظن، بل يحور إلينا ويرجع. (إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً) قبل أن يخلقه، عالما بأن مرجعه إليه. وقيل: بلى ليحورن وليرجعن. ثم استأنف فقال: إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً من يوم خلقه إلى أن بعثه. وقيل: عالما بما سبق له من الشقاء والسعادة.

[سورة الانشقاق (84): الآيات 16 الى 21]
فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ (19) فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (20)
وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ (21)
قوله تعالى: (فَلا أُقْسِمُ) أي فأقسم وفَلا صلة. (بِالشَّفَقِ) أي بالحمرة التي تكون عند مغيب الشمس حتى تأتي صلاة العشاء الآخرة. قال أشهب وعبد الله بن الحكم ويحيى بن يحيى وغيرهم، كثير عددهم عن مالك: الشفق الحمرة التي في المغرب، فإذا ذهبت الحمرة فقد خرجت من وقت المغرب ووجبت صلاة العشاء. وروى ابن وهب قال: أخبرني غير واحد عن علي بن أبي طالب ومعاذ بن جبل وعبادة بن الصامت وشداد بن أوس
__________
(1). الكون هنا: مصدر كان التامة بقال: كان يكون كونا: أي وجد واستقر. (النهاية).

وأبي هريرة: أن الشفق الحمرة، وبه قال مالك بن أنس. وذكر غير ابن وهب من الصحابة: عمر وابن عمر وابن مسعود وابن عباس وأنسا وأبا قتادة وجابر بن عبد الله وابن الزبير، ومن التابعين: سعيد بن جبير، وابن المسيب وطاوس، وعبد الله بن دينار، والزهري، وقال به من الفقهاء الأوزاعي ومالك والشافعي وأبو يوسف وأبو ثور وأبو عبيدة وأحمد وإسحاق وقيل: هو البياض، روى ذلك عن ابن عباس وأبي هريرة أيضا وعمر بن عبد العزيز والأوزاعي وأبي حنيفة في إحدى الروايتين عنه. وروى أسد بن عمرو أنه رجع عنه. وروى عن ابن عمر أيضا أنه البياض والاختيار الأول، لان أكثر الصحابة والتابعين والفقهاء عليه، ولان شواهد كلام العرب والاشتقاق والسنة تشهد له. قال الفراء: سمعت بعض العرب يقول لثوب عليه مصبوغ: كأنه الشفق وكان أحمر، فهذا شاهد للحمرة، وقال الشاعر:
وأحمر اللون كمحمر الشفق

وقال آخر:
قم يا غلام أعني غير مرتبك ... على الزمان بكأس حشوها شفق
ويقال للمغرة الشفق. وفي الصحاح: الشفق بقية ضوء الشمس وحمرتها في أول الليل إلى قريب من العتمة. قال الخليل: الشفق: الحمرة، من غروب الشمس إلى وقت العشاء الآخرة، إذا ذهب قيل: غاب الشفق. ثم قيل: أصل الكلمة من رقة الشيء، يقال: شي شفق أي لا تماسك له لرقته. وأشفق عليه. أي رق قلبه عليه، والشفقة: الاسم من الإشفاق، وهو رقة القلب، وكذلك الشفق، قال الشاعر «1»:
تهوى حياتي وأهوى موتها شفقا ... والموت أكرم نزال على الحرم
فالشفق: بقية ضوء الشمس وحمرتها فكأن تلك الرقة عن ضوء الشمس. وزعم الحكماء أن البياض لا يغيب أصلا. وقال الخليل: صعدت منارة الإسكندرية فرمقت البياض، فرأيته يتردد من أفق إلى أفق ولم أره يغيب. وقال ابن أبي اويس: رأيته يتمادى إلى طلوع الفجر
__________
(1). هو لإسحاق بن خلف. وقيل هو لابن المعلى. اللسان.

قال علماؤنا: فلما لم يتحدد وقته سقط اعتباره. وفي سنن أبي داود عن النعمان بن بشير قال: أنا أعلمكم بوقت صلاة العشاء الآخرة، كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصليها لسقوط القمر الثالثة. وهذا تحديد، ثم الحكم معلق بأول الاسم. لا يقال: فينقض عليكم بالفجر الأول، فإنا نقول الفجر الأول لا يتعلق به حكم من صلاة ولا إمساك، لان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين الفجر بقوله وفعله فقال:" وليس الفجر أن تقول هكذا- فرفع يده إلى فوق- ولكن الفجر أن تقول هكذا وبسطها" وقد مضى بيانه في آية الصيام من سورة" البقرة" «1»، فلا معنى للإعادة. وقال مجاهد: الشفق: النهار كله ألا تراه قال وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ. وقال عكرمة: ما بقي من النهار. والشفق أيضا: الرديء من الأشياء، يقال: عطاء مشفق أي مقلل قال الكميت:
ملك أغر من الملوك تحلبت ... للسائلين يداه غير مشفق
قوله تعالى: (وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ) أي جمع وضم ولف، وأصله من سورة السلطان وغضبه فلولا أنه خرج إلى العباد من باب الرحمة ما تمالك العباد لمجيئه ولكن خرج من باب الرحمة فمزح بها، فسكن الخلق إليه ثم اذعروا؟ والتفوا وانقبضوا، ورجع كل إلى مأواه فسكن فيه من هوله وحشا، وهو قوله تعالى: وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ [القصص: 73] أي بالليل وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ [القصص: 73] أي بالنهار على ما تقدم. فالليل يجمع ويضم ما كان منتشرا بالنهار في تصرفه. هذا معنى قول ابن عباس ومجاهد ومقاتل وغيرهم، قال ضابئ ابن الحارث البرجمي:
فإني وإياكم وشوقا إليكم ... كقابض ماء لم تسقه أنامله
يقول: ليس في يده من ذلك شي كما أنه ليس في يد القابض على الماء شي، فإذا جلل الليل الجبال والأشجار والبحار والأرض فاجتمعت له، فقد وسقها. والوسق: ضمك الشيء
__________ (1). راجع ج 2 ص 318 فما بعدها.

بعضه إلى بعض، تقول: وسقته أسقه وسقا. ومنه قيل للطعام الكثير المجتمع: وسق، وهو ستون صاعا. وطعام موسق: أي مجموع، وابل مستوسقة أي مجتمعة، قال الراجز «1»:
إن لنا قلائصا حقائقا ... مستوسقات لو يجدن سائقا
وقال عكرمة: وَما وَسَقَ أي وما ساق من شي إلى حيث يأوي، فالوسق بمعنى الطرد، ومنه قيل للطريدة من الإبل والغنم والحمر: وسيقة، قال الشاعر «2»:
كما قاف آثار الوسيقة قائف

وعن ابن عباس: وَما وَسَقَ أي وما جن وستر. وعنه أيضا: وما حمل، وكل شي حملته فقد وسقته، والعرب تقول: لا أفعله ما وسقت عيني الماء، أي حملته. ووسقت الناقة تسق وسقا: أي حملت وأغلقت رحمها على الماء، فهي ناقة واسق، ونوق وساق مثل نائم ونيام، وصاحب وصحاب، قال بشر بن أبي خازم:
ألظ بهن يحدوهن حتى ... تبينت الحيال من الوساق
ومواسيق أيضا. وأوسقت البعير: حملته حمله، وأوسقت النخلة: كثر حملها. وقال يمان والضحاك ومقاتل بن سليمان: حمل من الظلمة. قال مقاتل: أو حمل من الكواكب. القشيري: ومعنى حمل: ضم وجمع، والليل يجلل بظلمته كل شي فإذا جللها فقد وسقها. ويكون هذا القسم قسما بجميع المخلوقات، لاشتمال الليل عليها، كقوله تعالى: فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ وَما لا تُبْصِرُونَ [الحاقة: 39- 38]. وقال ابن جبير: وَما وَسَقَ أي وما عمل فيه، يعني التهجد والاستغفار بالأسحار، قال الشاعر:
ويوما ترانا صالحين وتارة ... تقوم بنا كالواسق المتلبب
أي كالعامل.
__________
(1). هو العجاج كما في اللسان مادة (وسق).
(2). قائلة الأسود بن يعفر وصدره:
كذبت عليك لا تزال تقوفني

قوله تعالى: (وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ) أي تم وأجتمع واستوى. قال الحسن: اتسق: أي امتلأ واجتمع. ابن عباس: استوى. قتادة: استدار. الفراء: اتساقه: امتلاؤه واستواؤه ليالي البدر، وهو افتعال من الوسق الذي هو الجمع، يقال: وسقته فاتسق، كما يقال: وصلته فاتصل، ويقال: أمر فلان متسق: أي مجتمع على الصلاح منتظم. ويقال: اتسق الشيء: إذا تتابع: (لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ) قرأ أبو عمر وابن مسعود وابن عباس وأبو العالية ومسروق وأبو وائل ومجاهد والنخعي والشعبي وابن كثير وحمزة والكسائي (لتركبن) بفتح الباء خطابا للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أي لتركبن يا محمد حالا بعد حال، قاله ابن عباس. الشعبي: لتركبن يا محمد سماء بعد سماء، ودرجة بعد درجة، ورتبه بعد رتبة، في القربة من الله تعالى. ابن مسعود: لتركبن السماء حالا بعد حال، يعني حالاتها التي وصفها الله تعالى بها من الانشقاق والطي وكونها مرة كالمهل ومرة كالدهان. وعن إبراهيم عن عبد الأعلى: طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ قال: السماء تقلب حالا بعد حال. قال: تكون وردة كالدهان، وتكون كالمهل، وقيل: أي لتركبن أيها الإنسان حالا بعد حال، من كونك نطفة ثم علقه ثم مضغة ثم حيا وميتا وغنيا وفقيرا. فالخطاب للإنسان المذكور في قوله: يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ هو اسم للجنس، ومعناه الناس. وقرا الباقون لَتَرْكَبُنَّ بضم الباء، خطابا للناس، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم، قال: لان المعنى بالناس أشبه منه بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لما ذكر قبل هذه الآية فمن أوتى كتابه بيمينه ومن أوتى كتابه بشماله. أي لتركبن حالا بعد حال من شدائد القيامة، أو لتركبن سنة من كان قبلكم في التكذيب واختلاق على الأنبياء. قلت: وكله مراد، وقد جاءت بذلك أحاديث «1»، فروى أبو نعيم الحافظ عن جعفر بن محمد بن علي عن جابر رضي الله عنه، قال سمعت رسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: (إن ابن آدم لفي غفلة عما خلقه الله عز وجل، إن الله لا إله غيره إذا أراد خلقه قال للملك اكتب رزقه وأثره وأجله، واكتب شقيا أو سعيدا، ثم يرتفع ذلك الملك، ويبعث الله ملكا
__________
(1). راجع ج 17 ص 14.

آخر فيحفظه حتى يدرك، ثم يبعث الله ملكين يكتبان حسناته وسيئاته، فإذا جاءه الموت ارتفع ذانك الملكان، ثم جاءه ملك الموت عليه السلام فيقبض روحه، فإذا أدخل حفرته رد الروح في جسده، ثم يرتفع ملك الموت، ثم جاءه ملكا، القبر فامتحناه، تم يرتفعان، فإذا قامت الساعة انحط عليه ملك الحسنات وملك السيئات، فأنشطا كتابا معقودا في عنقه، ثم حضرا معه، واحد سائق والآخر شهيد) ثم قال الله عز وجل لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ، فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ [ق: 22] قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ قال: (حالا بعد حال) ثم قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إن قدامكم أمرا عظيما فاستعينوا بالله العظيم) فقد اشتمل هذا الحديث على أحوال تعتري الإنسان، من حين يخلق إلى حين يبعث، وكله شدة بعد شدة، حياة ثم موت، ثم بعث ثم جزاء، وفي كل حال من هذه شدائد. وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لتركبن «1» سنن من قبلكم شبرا بشبرا، وذراعا بذراع، حتى لو دخلوا حجر ضب لدخلتموه) قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟ خرجه البخاري: وأما أقوال المفسرين، فقال عكرمة: حالا بعد حال، فطيما بعد رضيع، وشيخا بعد شباب، قال الشاعر:
كذلك المرء إن ينسأ له أجل ... يركب على طبق من بعده طبق
وعن مكحول: كل عشرين عاما تجدون أمرا لم تكونوا عليه: وقال الحسن: أمرا بعد أمر، رخاء بعد شدة، وشدة بعد رخاء، وغنى بعد فقر، وفقرا بعد غني، وصحة بعد سقم، وسقما بعد صحة: سعيد بن جبير: منزلة بعد منزلة، قوم كانوا في الدنيا متضعين فارتفعوا في الآخرة، وقوم كانوا في الدنيا مرتفعين فاتضعوا في الآخرة: وقيل: منزلة عن منزلة، وطبقا عن طبق «2»، وذلك، أن من كان على صلاح دعاه إلى صلاح فوقه، ومن كان على فساد دعاه إلى فساد فوقه، لان كل شي يجري إلى شكله: ابن زيد: ولتصيرن من طبق الدنيا إلى طبق الآخرة: وقال ابن عباس: الشدائد والأهوال: الموت، ثم البعث، ثم العرض،
__________
(1). رواية البخاري (لتتبعن) بدل (لتركبن).
(2). في ا، ح، ط، ل: طبقة.

والعرب تقول لمن وقع في أمر شديد: وقع في بنات طبق، واحدي بنات طبق، ومنه قيل للداهية الشديدة: أم طبق، واحدي بنات طبق: واصلها من الحيات، إذ يقال للحية أم طبق لتحويها: والطبق في اللغة: الحال كما وصفنا، قال الأقرع بن حابس التميمي:
إني امرؤ قد حلبت الدهر أشطره ... وساقني طبق منه إلى طبق
وهذا أدل دليل على حدوث العالم، وإثبات الصانع، قالت الحكماء: من كان اليوم على حالة، وغدا على حالة أخرى فليعلم أن تدبيره إلى سواه: وقيل لابي بكر الوراق: ما الدليل على أن لهذا العالم صانعا؟ فقال: تحويل الحالات، وعجز القوة، وضعف الأركان، وقهر النية: ونسخ العزيمة: ويقال: أتانا طبق من الناس وطبق من الجراد: أي جماعة: وقول العباس في مدح النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
تنقل من صالب إلى رحم ... إذا مضى عالم بدا طبق
أي قرن من الناس. يكون طباق الأرض أي ملأها. والطبق أيضا: عظم رقيق يفصل بين الفقارين. ويقال: مضى طبق من الليل، وطبق من النهار: أي معظم منه. والطبق: واحد الاطباق، فهو مشترك. وقرى (لتركبن) بكسر الباء، على خطاب النفس و" ليركبن" بالياء على ليركبن الإنسان. وعَنْ طَبَقٍ في محل نصب على أنه صفة ل طَبَقاً أي طبقا مجاوزا لطبق. أو حال من الضمير في لَتَرْكَبُنَّ أي لتركبن طبقا مجاوزين لطبق، أو مجاوزا أو مجاوزة على حسب القراءة. قوله تعالى: (فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) يعني أي شي يمنعهم من الايمان بعد ما وضحت لهم الآيات وقامت الدلالات. وهذا استفهام إنكار. وقيل: تعجب أي اعجبوا منهم في ترك الايمان مع هذه الآيات. قوله تعالى: (وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ) أي لا يصلون. وفي الصحيح: إن أبا هريرة قرأ إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ فسجد فيها، فلما انصرف أخبرهم أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سجد فيها. وقد قال مالك: إنها ليست من عزائم السجود، لان [المعنى «1»]
__________
(1). [المعنى ]: ساقطة من ا، ح، و.

بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25)

لا يذعنون ولا يطيعون في العمل بواجباته. ابن العربي: والصحيح أنها منه، وهي رواية المدنيين عنه، وقد اعتضد فيها القرآن والسنة. قال ابن العربي: لما أممت بالناس تركت قراءتها، لاني إن سجدت أنكروه، وإن تركتها كان تقصيرا مني، فاجتنبتها إلا إذا صليت وحدي. وهذا تحقيق وعد الصادق بأن يكون المعروف منكرا، والمنكر معروفا، وقد قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعائشة: (لولا حدثان قومك بالكفر لهدمت البيت، ولرددته على قواعد إبراهيم). ولقد كان شيخنا أبو بكر الفهري يرفع يديه عند الركوع، وعند الرفع منه، وهو مذهب مالك والشافعي ويفعله الشيعة، فحضر عندي يوما في محرس ابن الشواء بالثغر- موضع تدريسي- عند صلاة الظهر، ودخل المسجد من المحرس المذكور، فتقدم إلى الصف وأنا في مؤخره قاعدا على طاقات البحر، أتنسم الريح من شدة الحر، ومعي في صف واحد أبو ثمنه رئيس البحر وقائده، مع نفر من أصحابه ينتظر الصلاة، ويتطلع على مراكب تخت الميناء، فلما رفع الشيخ يديه في الركوع وفي رفع الرأس منه قال أبو ثمنه وأصحابه: ألا ترون إلى هذا المشرقي كيف دخل مسجدنا؟ فقوموا إليه فاقتلوه وارموا به إلى البحر، فلا يراكم أحد. فطار قلبي من بين جوانحي وقلت: سبحان الله هذا الطرطوشي فقيه الوقت. فقالوا لي: ولم يرفع يديه؟ فقلت: كذلك كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يفعل، وهذا مذهب مالك، في رواية أهل المدينة عنه. وجعلت أسكنهم وأسكتهم حتى فرغ من صلاته، وقمت معه إلى المسكن من المحرس، وراي تغير وجهي، فأنكره، وسألني فأعلمته، فضحك وقال: ومن أين لي أن أقتل على سنة؟ فقلت له: ولا يحل لك هذا، فإنك بين قوم إن قمت بها قاموا عليك وربما ذهب دمك. فقال: دع هذا الكلام، وخذ في غيره.

[سورة الانشقاق (84): الآيات 22 الى 25]
بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (24) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25)

قوله تعالى: (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ) محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما جاء به. وقال مقاتل: نزلت في بني عمرو بن عمير وكانوا أربعة، فأسلم اثنان منهم. وقيل: هي في جميع الكفار. (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ) أي بما يضمرونه في أنفسهم من التكذيب. كذا روى الضحاك عن ابن عباس. وقال مجاهد: يكتمون من أفعالهم. ابن زيد: يجمعون من الأعمال الصالحة والسيئة، مأخوذ من الوعاء الذي يجمع ما فيه، يقال: أوعيت الزاد والمتاع: إذا جعلته في الوعاء، قال الشاعر:
الخير أبقى وإن طال الزمان به ... والشر أخبث ما أوعيت من زاد
ووعاه أي حفظه، تقول: وعيت الحديث أعيه وعيا، وأذن واعية. وقد تقدم «1». (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) أي موجع في جهنم على تكذيبهم. أي اجعل ذلك بمنزلة البشارة. (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) استثناء منقطع، كأنه قال: لكن الذين صدقوا بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وعملوا الصالحات، أي أدوا الفرائض المفروضة عليهم لَهُمْ أَجْرٌ أي ثواب غَيْرُ مَمْنُونٍ أي غير منقوص ولا مقطوع، يقال: مننت الحبل: إذا قطعته. وقد تقدم «2». وسأل نافع بن الأزرق ابن عباس عن قوله: (لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) فقال: غير مقطوع. فقال: هل تعرف ذلك العرب؟ قال: نعم قد عرفه أخو يشكر حيث يقول «3»:
فترى خلفهن من سرعة الرج ... - ع منينا كأنه أهباء
قال المبرد: المنين: الغبار، لأنها تقطعه وراءها. وكل ضعيف منين وممنون. وقيل: غَيْرُ مَمْنُونٍ لا يمن عليهم به. وذكر ناس من أهل العلم أن قوله: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ليس استثناء، وإنما هو بمعنى الواو، كأنه قال: والذين آمنوا. وقد مضى في" البقرة" «4» القول فيه والحمد لله. تمت سورة الانشقاق.
__________
(1). راجع ج 18 ص (263)
(2). راجع ج 15 ص 341.
(3). تقدم هذا البيت بلفظ:
فترى حتفها من الرجع وال- ع منينا ...

إلخ.
(4). راجع ج 2 ص 169. [.....]

وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3)

[تفسير سورة البروج ]
سورة البروج مكية باتفاق. وهي ثنتان وعشرون آية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة البروج (85): آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ (1)
قسم أقسم الله به عز وجل. وفي الْبُرُوجِ أقوال أربعة: أحدها- ذات النجوم، قاله الحسن وقتادة ومجاهد والضحاك. الثاني- القصور، قاله ابن عباس وعكرمة ومجاهد أيضا. قال عكرمة: هي قصور في السماء. مجاهد: البروج فيها الحرس. الثالث- ذات الخلق الحسن، قال المنهال بن عمرو. الرابع: ذات المنازل، قاله أبو عبيدة ويحيى ابن سلام. وهي اثنا عشر برجا، وهي منازل الكواكب والشمس والقمر. يسير القمر في كل برج منها يومين وثلت يوم، فذلك ثمانية وعشرون يوما، ثم يستسر «1» ليلتين، وتسير الشمس في كل برج منها شهرا. وهي: الحمل، والثور، والجوزاء، والسرطان، والأسد، والسنبلة، والميزان، والعقرب، والقوس والجدي، والدلو، والحوت. والبروج في كلام العرب: القصور، قال الله تعالى، وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ [النساء: 78]. وقد تقدم «2».

[سورة البروج (85): الآيات 2 الى 3]
وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3)
قوله تعالى: (الْيَوْمِ الْمَوْعُودِ) أي الموعود به. وهو قسم آخر، وهو يوم القيامة، من غير اختلاف بين أهل التأويل. قال ابن عباس: وعد أهل السماء واهل الأرض أن يجتمعوا فيه. (وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ) اختلف فيهما، فقال علي وابن عباس وابن عمر وأبو هريرة رضي الله عنهم: الشاهد يوم الجمعة، والمشهود يوم عرفة. وهو قول الحسن.
__________
(1). سرر الشهر (بفتحتين): آخر ليلة منه وهو مشتق من قولهم: استمر القمر أي خفى ليلة السرار فربما كان ليلة وربما كان ليلتين.
(2). راجع ج 5 ص 82

ورواه أبو هريرة مرفوعا قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (اليوم الموعود يوم القيامة واليوم المشهود يوم عرفة والشاهد يوم الجمعة ...) خرجه أبو عيسى الترمذي في جامعه، وقال: هذا حديث [حسن «1»] غريب، لا نعرفه إلا من حديث موسى بن عبيدة، وموسى ابن عبيدة يضعف في الحديث، ضعفه يحيى بن سعيد وغيره. وقد روى شعبة وسفيان الثوري وغير واحد من الأئمة عنه. قال القشيري فيوم الجمعة يشهد على كل عامل بما عمل فيه. قلت: وكذلك سائر الأيام والليالي، فكل يوم شاهد، وكذا كل ليلة، ودليله ما رواه أبو نعيم الحافظ عن معاوية بن قرة عن معقل بن يسار عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (ليس من يوم يأتي على العبد إلا ينادي فيه: يا ابن آدم، أنا خلق جديد، وأنا فيما تعمل عليك شهيد، فاعمل في خيرا أشهد لك به غد، فإني لو قد مضيت لم ترني أبدا، ويقول الليل مثل ذلك (. حديث غريب من حديث معاوية، تفرد به عنه زيد العمى «2»، ولا أعلمه مرفوعا عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا بهذا الاسناد. وحكى القشيري عن ابن عمر وابن الزبير أن الشاهد يوم الأضحى. وقال سعيد بن المسيب: الشاهد: التروية، والمشهود: يوم عرفة. وروى إسرائيل عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي رضي الله عنه: الشاهد يوم عرفة، والمشهود يوم النحر. وقاله النخعي. وعن علي أيضا: المشهود يوم عرفة. وقال ابن عباس والحسين ابن علي رضي الله عنهما: المشهود يوم القيامة، لقول تعالى: ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ «3» [هود: 103].
__________
(1). الزيادة من صحيح الترمذي.
(2). في كتاب الأنساب للسمعاني: (العمى) بفتح العين المهملة وتشديد الميم هذه النسبة إلى العم وهو بطن من تميم. وفي التهذيب: (قال علي بن مصعب: سمى زيد العمى لأنه كان كلما سئل عن شي قال حتى أسأل عمى).
(3). راجع ج 9 ص 96

قلت: وعلى هذا اختلفت أقوال العلماء في الشاهد، فقيل: الله تعالى، عن ابن عباس والحسن وسعيد بن جبير، بيانه: وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً «1» [النساء: 79]، قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ «2» بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ [الانعام: 19]. وقيل: محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عن ابن عباس أيضا والحسين ابن علي، وقرا ابن عباس فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً «3» [النساء: 41]، وقرا الحسين يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً «4» وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً [الأحزاب: 45]. قلت: وأقرأ أنا وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً. وقيل: الأنبياء يشهدون على أممهم، لقوله تعالى: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ «5» [النساء: 41]. وقيل: أدم. وقيل: عيسى بن مريم، لقوله: وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ «6» [المائدة: 117]. والمشهود: أمته. وعن ابن عباس أيضا ومحمد بن كعب: الشاهد الإنسان، دليله: كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً [الاسراء: 14]. مقاتل: أعضاؤه، بيانه: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ «7» [النور: 24]. الحسين بن الفضل: الشاهد هذه الامة، والمشهود سائر الأمم، بيانه: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ [البقرة: 143]. وقيل: الشاهد: الحفظة، والمشهود: بنو آدم. وقيل: الليالي والأيام. وقد بيناه. قلت: وقد يشهد المال على صاحبه، والأرض بما عمل عليها، ففي صحيح مسلم عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إن هذا المال خضر حلو، ونعم صاحب المسلم هو لمن أعطى منه المسكين واليتيم وابن السبيل- أو كما قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وإنه من يأخذه بغير حقه كان كالذي يأكل ولا يشبع ويكون عليه شهيدا يوم القيامة (. وفي الترمذي عن أبي هريرة قال: قرأ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذه الآية: يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها [الزلزلة: 4] قال: (أتدرون ما أخبارها)؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: (فإن أخبارها أن تشهد على
__________
(1). راجع ج 5 ص 287، 197
(2). راجع ج 6 ص 399
(3). راجع ج 5 ص 287، 197
(4). راجع ج 14 ص 199
(5). راجع ج 5 ص 287، 197
(6). راجع ج 2 ص 153
(7). راجع ج 6 ص 376

قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7)

كل عبد أو أمة بما عمل على ظهرها، تقول عمل يوم كذا كذا كذا وكذا. قال: فهذه أخبارها (. قال حديث حسن غريب صحيح. وقيل: الشاهد الخلق، شهدوا لله عز وجل بالوحدانية. والمشهود له بالتوحيد هو الله تعالى. وقيل: المشهود يوم الجمعة، كما روى أبو الدرداء قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أكثروا علي من الصلاة يوم الجمعة فإنه يوم مشهود تشهده الملائكة ...) وذكر الحديث. خرجه ابن ماجة وغيره. قلت: فعلى هذا يوم عرفة مشهود، لان الملائكة تشهده، وتنزل فيه بالرحمة «1». وكذا يوم النحر إن شاء الله. وقال أبو بكر العطار: الشاهد الحجر الأسود، يشهد لمن لمسه بصدق وإخلاص ويقين. والمشهود الحاج. وقيل: الشاهد الأنبياء، والمشهود محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بيانه: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ- إلى قوله تعالى: وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ [آل عمران: 81].

[سورة البروج (85): الآيات 4 الى 7]
قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7)
قوله تعالى: (قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ) أي لعن. قال ابن عباس: كل شي في القرآن قُتِلَ فهو لعن. وهذا جواب القسم- في قول الفراء- واللام فيه مضمرة، كقوله: وَالشَّمْسِ وَضُحاها [الشمس: 1] ثم قال قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها [الشمس: 9]: أي لقد أفلح. وقيل: فيه تقديم وتأخير، أي قتل أصحاب الأخدود والسماء ذات البروج، قاله أبو حاتم السجستاني. ابن الأنباري: وهذا غلط لأنه لا يجوز لقائل أن يقول: والله قام زيد على معنى قام زيد والله. وقال قوم: جواب القسم إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ وهذا قبيح، لان الكلام قد طال بينهما. وقيل: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا. وقيل: جواب القسم محذوف، أي والسماء ذات البروج لتبعثن. وهذا اختيار ابن الأنباري. والأخدود: الشق العظيم
__________
(1). راجع ج 4 ص 124

المستطيل في الأرض كالخندق، وجمعه أخاديد. ومنه الخد لمجاري الدموع، والمخدة، لان الخد يوضع عليها. ويقال: تخدد وجه الرجل: إذا صارت فيه أخاديد من جراح. قال طرفة:
ووجه كأن الشمس حلت رداءها ... عليه نقي اللون لم يتخدد
(النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ) النَّارِ بدل من الْأُخْدُودِ بدل الاشتمال. والْوَقُودِ بفتح الواو قراءة العامة وهو الحطب. وقرا قتادة وأبو رجاء ونصر بن عاصم (بضم الواو) على المصدر، أي ذات الاتقاد والالتهاب. وقيل: ذات الوقود بأبدان الناس. وقرا أشهب العقيلي وأبو السمال العدوي وابن السميقع (النار ذات) بالرفع فيهما، أي أحرقتهم النار ذات الوقود. (إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ) أي الذين خددوا الأخاديد وقعدوا عليها يلقون فيها المؤمنين، وكانوا بنجران في الفترة بين عيسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم. وقد اختلفت الرواة في حديثهم. والمعنى متقارب. ففي صحيح مسلم عن صهيب: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: كان ملك فيمن كان قبلكم، وكان له ساحر، فلما كبر قال للملك: إني قد كبرت فابعث إلى غلاما أعلمه السحر، فبعث إليه غلاما يعلمه، فكان في طريقه إذا سلك، راهب، فقعد إليه وسمع كلامه، فأعجبه، فكان إذا أتى الساحر م بالراهب وقعد إليه، فإذا أتى الساحر ضربه، فشكا ذلك إلى الراهب، فقال: إذا خشيت الساحر فقل: حبسني أهلي. وإذا خشيت أهلك فقل: حبسني الساحر. فبينما هو كذلك إذ أتى على دابة عظيمة قد حبست الناس، فقال: اليوم أعلم الساحر أفضل أم الراهب أفضل؟ فأخذ حجرا فقال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة، حتى يمضي الناس، فرماها فقتلها ومضى الناس. فأتى الراهب فأخبره فقال له الراهب: أي بني، أنت اليوم أفضل مني، قد بلغ من أمرك ما أرى، وإنك ستبتلى، فإن ابتليت فلا تدل علي. وكان الغلام يبرئ الأكمه والأبرص، ويداوي الناس من سائر الأدواء. فسمع جليس للملك كان قد عمى، فأتاه بهدايا كثيرة فقال: ما ها هنا لك أجمع إن أنت شفيتني. فقال: إني لا أشفى أحدا، إنما

يشفي الله، فإن أنت آمنت بالله دعوت الله فشفاك؟ فآمن بالله فشفاه الله. فأتى الملك فجلس إليه كما كان يجلس، فقال له الملك: من رد عليك بصرك؟ قال ربي. قال: ولك رب غيري؟ قال: ربي وربك الله. فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام، فجئ بالغلام فقال له الملك: أي بني! أقد بلغ من سحرك ما تبرئ الأكمه والأبرص، وتفعل وتفعل؟! قال: أنا لا أشفى أحدا، إنما يشفى الله. فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الراهب، فجئ بالراهب، فقيل له: أرجع عن دينك. فأبى فدعا بالمنشار، فوضع المنشار في مفرق رأسه فشقه حتى وقع شقاه. ثم جئ بجليس الملك فقيل له: ارجع عن دينك، فأبي فوضع المنشار في مفرق رأسه، فشقه به حتى وقع شقاه. ثم جئ بالغلام فقيل له: أرجع عن دينك، فأبي فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال: اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا، فاصعدوا به الجبل، فإذا بلغتم ذروته فإن رجع عن دينه وإلا فاطرحوه، فذهبوا به فصعدوا به الجبل فقال: اللهم اكفنيهم بما شئت، فرجف بهم الجبل، فسقطوا. وجاء يمشي إلى الملك، فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ قال: كفانيهم الله. فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال: اذهبوا به فاحملوه في قرقور «1»، فتوسطوا به البحر، فإن رجع عن دينه وإلا فاقذفوه، فذهبوا به فقال: اللهم اكفنيهم بما شئت، فانكفأت بهم السفينة، فغرقوا. وجاء يمشي إلى الملك، فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ قال: كفانيهم الله. فقال للملك: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به. قال: وما هو؟ قال: تجمع الناس في صعيد واحد، وتصلبني على جذع، ثم خذ سهما من كنانتي، ثم ضع السهم في كبد القوس، ثم قل: باسم الله رب الغلام، ثم ارمني، فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني. فجمع الناس في صعيد واحد، وصلبه على جذع، ثم أخذ سهما من كنانته «2»، ثم وضع السهم في كبد القوس ثم قال: باسم الله رب الغلام، ثم رماه فوقع السهم في صدغه، فوضع يده في صدغه، في موضع السهم، فمات، فقال الناس: آمنا برب الغلام! آمنا برب الغلام! آمنا برب
__________
(1). القرقور) بضم القافين: السفينة الصغيرة. [.....]
(2). الكنانة (بالكسر): جعبة السهام تتخذ من جلود لا خشب فيها أو من خشب لا جلود فيها.

الغلام! فأتى الملك فقيل له: أرأيت ما كنت، تحذر؟ قد والله نزل بك حذرك، قد آمن الناس، فأمر بالأخدود في أفواه السكك، فحدت، وأضرم النيران، وقال: من لم يرجع عن دينه فأحموه فيها- أو قيل له أقتحم- ففعلوا، حتى جاءت امرأة ومعها صبي لها، فتقاعست أن تقع فيها، فقال، لها الغلام: (يا أمة اصبري فإنك على الحق). خرجه الترمذي بمعناه. وفية: (وكان على طريق، الغلام راهب في صومعة) قال معمر: أحسب أن أصحاب الصوامع كانوا يومئذ مسلمين. وفية: (أن الدابة التي حبست الناس كانت أسدا، وأن الغلام دفن- قال- فيذكر أنه أخرج في زمن عمر بن الخطاب وأصبعه على صدغه كما وضعها حين قتل (. وقال: حديث حسن غريب. ورواه الضحاك عن ابن عباس قال: كان ملك بنجران، وفي رعيته رجل له فتى، فبعثه إلى ساحر يعلمه السحر، وكان طريق الفتى على راهب يقرأ الإنجيل، فكان يعجبه ما يسمعه من الراهب، فدخل في دين الراهب، فأقبل يوما فإذا حية عظيمة قطعت على الناس طريقهم، فأخذ حجرا فقال باسم الله رب السموات والأرض وما بينهما، فقتلها. وذكر نحو ما تقدم. وأن الملك لما رماه بالسهم وقتله قال أهل مملكة الملك: لا إله إلا إله «1» عبد الله بن ثامر، وكان اسم الغلام، فغضب الملك، وأمر فخدت أخاديد، وجمع فيها حطب ونار، وعرض أهل مملكته عليها، فمن رجع عن التوحيد تركه، ومن ثبت على دينه قذفه في النار. وجئ بامرأة مرضع فقيل لها ارجعي عن دينك وإلا قذفناك وولدك- قال- فأشفقت وهمت بالرجوع، فقال لها الصبي المرضع: يا أمي، اثبتي على ما أنت عليه، فإنما هي غميضة، فألقوها وابنها. وروى أبو صالح عن ابن عباس أن النار ارتفعت من الأخدود فصارت فوق الملك وأصحابه أربعين ذراعا فأحرقتهم. وقال الضحاك: هم قوم من النصارى كانوا باليمن قبل مبعث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأربعين سنة، أخذهم يوسف ابن شراحيل بن تبع الحميري، وكانوا نيفا وثمانين رجلا، وحفر لهم أخدودا وأحرقهم فيه. حكاه الماوردي، وحكى الثعلبي عنه أن أصحاب الأخدود من بني إسرائيل، أخذوا رجالا
__________
(1). في الأصول: (.. إلا الله عبد الله ...) وهو تحريف.

ونساء، فخدوا لهم الأخاديد، ثم أوقدوا فيها النار، ثم أقيم المؤمنون عليها. وقيل لهم: تكفرون أو تقذفون في النار؟ ويزعمون أنه دانيال وأصحابه، وقاله عطية العوفي. وروي نحو هذا عن ابن عباس. وقال علي رضي الله عنه: إن ملكا سكر فوقع على أخته، فأراد أن يجعل ذلك شرعا في رعيته فلم يقبلوا، فأشارت إليه أن يخطب بأن الله- عز وجل- أحل نكاح الأخوات، فلم يسمع منه. فأشارت إليه أن يخد لهم الأخدود، ويلقي فيه كل من عصاه. ففعل. قال: وبقاياهم ينكحون الأخوات وهم المجوس، وكانوا أهل كتاب. وروي عن علي أيضا أن أصحاب الأخدود كان سببهم أن نبيا بعثه الله تعالى إلى الحبشة، فاتبعه ناس، فخد لهم قومهم أخدودا، فمن اتبع النبي رمي فيها، فجئ بامرأة لها بني رضيع فجزعت، فقال لها: يا أماه، أمضي ولا تجزعي. وقال أيوب عن عكرمة قال: قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ قال: كانوا من قومك من السجستان. وقال الكلبي: هم نصارى نجران، أخذوا بها قوما مؤمنين، فخدوا لهم سبعة أخاديد، طول كل أخدود أربعون ذراعا، وعرضه اثنا عشر ذراعا. ثم طرح فيه النفط»
والحطب، ثم عرضوهم عليها، فمن أبى قذفوه فيها. وقيل: قوم من النصارى كانوا بالقسطنطينية زمان قسطنطين. وقال مقاتل: أصحاب الأخدود ثلاثة، واحد بنجران، والآخر بالشام، والآخر بفارس. أما الذي بالشام فأنطنيانوس الرومي، وأما الذي بفارس فبختنصر، والذي بأرض العرب يوسف بن ذي نواس. فلم ينزل الله في الذي بفارس والشام قرآنا، وأنزل قرآنا في الذي كان بنجران. وذلك أن رجلين مسلمين كان أحدهما بتهامة، والآخر بنجران، آجر أحدهما نفسه، فجعل يعمل ويقرأ الإنجيل، فرأت ابنة المستأجر النور في قراءة الإنجيل، فأخبرت أباها فأسلم. وبلغوا سبعة وثمانين بين رجل وامرأة، بعد ما رفع عيسى، فخد لهم يوسف بن ذي نواس بن تبع الحميري أخدودا، وأوقد فيه النار، وعرضهم على الكفر، فمن أبي أن يكفر قذفه في النار، وقال: من رجع عن دين عيسى لم يقذف. وإن امرأة معها ولدها صغير لم يتكلم، فرجعت، فقال لها ابنها: يا أماه، إني أرى أمامك
__________
(1). النفط (بالكسر وقد بفتح): زيت معدني سريع الاحتراق توقد به النار ويتداوى به.

نارا لا تطفأ، فقذفا جميعا أنفسهما في النار، فجعلها الله وابنها في الجنة. فقذف في يوم واحد سبعة وسبعون إنسانا. وقال ابن إسحاق عن وهب بن منبه: كان رجل من بقايا أهل دين عيسى بن مريم عليه السلام، يقال له قيميون «1»، وكان رجلا صالحا مجتهدا زاهدا في الدنيا مجاب الدعوة، وكان سائحا في القرى، لا يعرف بقرية إلا مضى عنها، وكان بناء يعمل الطين. قال محمد بن كعب القرظي، وكان أهل نجران أهل شرك يعبدون الأصنام، وكان في قرية من قراها قريبا من نجران ساحر يعلم غلمان أهل نجران السحر، فلما نزل بها قيميون، بنى بها خيمة بين نجران وبين تلك القرية التي بها الساحر، فجعل أهل نجران يبعثون غلمانهم إلى ذلك الساحر يعلمهم السحر، فبعث إليه الثامر عبد الله بن الثامر، فكان مع غلمان أهل نجران، وكان عبد الله إذا مر بصاحب الخيمة أعجبه ما يرى من أمر صلاته وعبادته، فجعل يجلس إليه ويسمع منه، حتى أسلم، فوحد الله وعبده، وجعل يسأله عن اسم الله الأعظم، وكان الراهب يعلمه، فكتمه إياه وقال: يا ابن أخي، إنك لن تحمله، أخشى ضعفك عنه، وكان أبو الثامر لا يظن إلا أن ابنه يختلف إلى الساحر كما يختلف الغلمان. فلما رأى عبد الله أن الراهب قد بخل عليه بتعليم اسم الله الأعظم، عمد إلى قداح «2» فجمعها، ثم لم يبق لله تعالى اسما يعلمه إلا كتبه في قدح، لكل اسم قدح، حتى إذا أحصاها أوقد لها نارا، ثم جعل يقذفها فيها قدحا قدحا، حتى إذا مر بالاسم الأعظم قذف فيها بقدحه، فوثب القدح حتى خرج منها لم يضره شي، فأخذه ثم قام إلى صاحبه، فأخبره أنه قد علم اسم الله الأعظم الذي كتمه إياه، فقال: وما هو؟ قال: كذا وكذا. قال: وكيف علمته؟ فأخبره بما صنع. فقال له: يا ابن أخي، قد أصبته، فأمسك على نفسك، وما أظن أن تفعل. فجعل عبد الله بن الثامر إذا دخل نجران لم يلق أحدا به ضر إلا قال: يا عبد الله، أتوحد الله وتدخل في ديني، فأدعو الله لك فيعافيك مما أنت فيه من البلاء؟ فيقول: نعم، فيوحد الله ويسلم، فيدعوا الله له فيشفى، حتى لم يبق أحد بنجران به ضر إلا أتاه فاتبعه على دينه ودعا له فعوفي، حتى رفع شأنه إلى ملكهم، فدعاه فقال له:
__________ (1). في ا، ح، و، تاريخ الطبري: (فيمون) بالفاء.
(2). القدح (بالكسر): السهم قبل أن ينصل ويراش جمعه قداح.

أفسدت علي أهل قريتي، وخالفت ديني ودين آبائي، فلأمثلن بك. قال: لا تقدر على ذلك، فجعل يرسل به إلى الجبل الطويل، فيطرح عن رأسه، فيقع على الأرض ليس به بأس. وجعل يبعث به إلى مياه نجران، بحار لا يلقى فيها شي إلا هلك، فيلقي فيها فيخرج ليس به بأس، فلما غلبه قال له عبد الله بن الثامر: والله لا تقدر على قتلي حتى توحد الله وتؤمن بما آمنت به، فإنك إن فعلت ذلك سلطت علي وقتلتني. فوحد الله ذلك الملك وشهد شهادته، ثم ضربه بعصا فشجه شجة صغيرة ليست بكبيرة، فقتله، وهلك الملك مكانه، واجتمع أهب نجران على دين عبد الله بن الثامر، وكان على ما جاء به عيسى بن مريم من الإنجيل وحكمه. ثم أصابهم ما أصاب أهل دينهم من الأحداث، فمن ذلك كان أصل النصرانية بنجران. فسار إليهم ذو نواس اليهودي بجنوده من حمير، فدعاهم إلى اليهودية، وخيرهم بين ذلك أو القتل، فاختاروا القتل، فخد لهم الأخدود، فحرق بالنار وقتل بالسيف، ومثل بهم حتى قتل منهم عشرين ألفا. وقال وهب بن منبه: اثنى عشر ألفا. وقال الكلبي: كان أصحاب الأخدود سبعين «1» ألفا. قال وهب: ثم لما غلب أرياط على اليمن خرج ذو نواس هاربا، فاقتحم البحر بفرسه فغرق. قال ابن إسحاق: وذو نواس هذا اسمه زرعة بن تبان «2» أسعد الحميري، وكان أيضا يسمى يوسف، وكان له غدائر من شعر تنوس، أي تضطرب، فسمى ذا نواس، وكان فعل هذا بأهل نجران، فأفلت منهم رجل اسمه دوس ذو ثعلبان، فساق الحبشة لينتصر بهم، فملكوا اليمن وهلك ذو نواس في البحر، ألقى نفسه فيه، وفية يقول عمرو بن معدي كرب:
أتوعدني كأنك ذو رعين ... بأنعم عيشة أو ذو نواس
وكائن كان قبلك من نعيم ... وملك ثابت في الناس راس
قديم عهده من عهد عاد ... عظيم قاهر الجبروت قاس
أزال الدهر ملكهم فأضحى ... ينقل من أناس في أناس
__________
(1). في ز، ل: (تسعين ألفا).
(2). هو كغراب أو كرمان ويكسر. وهو أول من كسا البيت الحرام.

وذو رعين: ملك من ملوك حمير. ورعين حصن له وهو من ولد الحرث بن عمرو بن حمير ابن سبأ. مسألة- قال علماؤنا: أعلم الله عز وجل المؤمنين من هذه الامة في هذه الآية، ما كان يلقاه من وحد قبلهم من الشدائد، يؤنسهم بذلك. وذكر لهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قصة الغلام ليصبروا على ما يلاقون من الأذى والآلام، والمشقات التي كانوا عليها، ليتأسوا بمثل هذا الغلام، في صبره وتصلبه في الحق وتمسكه به، وبذله نفسه في حق إظهار دعوته، ودخول الناس في الدين مع صغر سنه وعظم صبره. وكذلك الراهب صبر على التمسك بالحق حتى نشر بالمنشار. وكذلك كثير من الناس لما آمنوا بالله تعالى ورسخ الايمان في قلوبهم، صبروا على الطرح في النار ولم يرجعوا في دينهم. ابن العربي: وهذا منسوخ عندنا، حسب ما تقدم بيانه في سورة" النحل" «1». قلت: ليس بمنسوخ عندنا، وأن الصبر على ذلك لمن قويت نفسه وصلب دينه أولى، قال الله تعالى مخبرا عن لقمان: يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ «2» [لقمان: 17]: وروى أبو سعيد الخدري أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (إن من أعظم الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر): خرجه الترمذي وقال: حديث حسن غريب، وروى ابن سنجر (محمد بن سنجر) عن أميمة مولاة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالت: كنت أوضئ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأتاه رجل، قال: أوصني فقال: (لا تشرك بالله شيئا وأن قطعت أو حرقت بالنار ..) الحديث: قال علماؤنا: ولقد امتحن كثير من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالقتل والصلب والتعذيب الشديد، فصبروا ولم يلتفتوا إلى شي من ذلك ويكفيك قصة عاصم وخبيب وأصحابهما وما لقوا من الحروب والمحن والقتل والأسر والحرق، وغير ذلك، وقد مضى في" النحل" أن هذا إجماع ممن قوي في ذلك، فتأمله هناك «3».
__________
(1). راجع ج 10 ص 180 وص (202)
(2). راجع ج 14 ص (68)
(3). راجع ج 10 ص 180

وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9)

قوله تعالى: قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ دعاء على هؤلاء الكفار بالابعاد من رحمة الله تعالى: وقيل: معناه الاخبار عن قتل أولئك المؤمنين، أي إنهم قتلوا بالنار فصبروا: وقيل: هو إخبار عن أولئك الظالمين، فإنه روى أن الله قبض أرواح الذين ألقوا في الأخدود قبل أن يصلوا إلى النار، وخرجت نار من الأخدود فأحرقت الذين هم عليها قعود: وقيل: إن المؤمنين نجوا، وأحرقت النار الذين قعدوا، ذكره النحاس، ومعنى عَلَيْها أي عندها وعلى بمعنى عند، وقيل: عَلَيْها على ما يدنو منها من حافات الأخدود، كما قال:
وبات على النار الندى والمحلق «1»

العامل في إِذْ: قُتِلَ، أي لعنوا في ذلك الوقت. (وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ) أي حضور: يعني الكفار، كانوا يعرضون الكفر على المؤمنين، فمن أبي ألقوه في النار وفي ذلك وصفهم بالقسوة «2» ثم بالجد في ذلك: وقيل: عَلى بمعنى مع، أي وهم: مع ما يفعلون بالمؤمنين شهود.

[سورة البروج (85): الآيات 8 الى 9]
وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9)
قوله تعالى: (وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ) وقرا أبو حيوة (نقموا) بالكسر، والفصيح هو الفتح، وقد مضى في (براءة) القول فيه «3»: أي ما نقم الملك وأصحابه من الذين حرقهم: (إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا) أي إلا أن يصدقوا: (بِاللَّهِ الْعَزِيزِ) أي الغالب المنيع. (الْحَمِيدِ)
__________
(1). البيت لأعشى قيس وصدره:
تشب لمقرورين يصطليانها

(2). في بعض النسخ: (أي بالخلد) بدل (ثم بالجد).
(3). راجع ج 8 ص 207.

إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11)

أي المحمود في كل حال. (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) لا شريك له فيهما ولا نديد (وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) أي عالم بأعمال خلقه لا تخفي عليه خافية.

[سورة البروج (85): الآيات 10 الى 11]
إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ (10) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11)
قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) أي حرقوهم بالنار. والعرب تقول: فتن فلان الدرهم والدينار إذا أدخله الكور لينظر جودته. ودينار مفتون. ويسمى الصائغ الفتان، وكذلك الشيطان، وورق فتين، أي فضة محترقة. ويقال «1» للحرة فتين، أي كأنها أحرقت حجارتها بالنار، وذلك لسوادها. (ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا) أي من قبيح صنيعهم مع ما أظهره الله لهذا الملك الجبار الظالم وقومه من الآيات والبينات على يد الغلام. (فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ) لكفرهم. (وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ) في الدنيا لإحراقهم المؤمنين بالنار. وقد تقدم عن ابن عباس. وقيل: وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ أي ولهم في الآخرة عذاب زائد على عذاب كفرهم بما أحرقوا المؤمنين. وقيل: لهم عذاب، وعذاب جهنم الحريق. والحريق: اسم من أسماء جهنم، كالسعير. والنار دركات وأنواع ولها أسماء. وكأنهم «2» يعذبون بالزمهرير في جهنم، ثم يعذبون بعذاب الحريق. فالأول عذاب ببردها، والثاني عذاب بحرها. (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) أي هؤلاء الذين كانوا آمنوا بالله، أي صدقوا به وبرسله. (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ) أي بساتين. (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) من ماء غير آسن، ومن لبن لم يتغير طعمه، ومن خمر لذة للشاربين، وأنهار من عسل مصفى. (ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ) أي العظيم، الذي لا فوز يشبهه «3».
__________
(1). الحرة (بفتح الحاء المهملة): أرض ذات حجارة سود نخرة. [.....]
(2). في ا، ح، ز، ط، ل: وكانوا.
(3). ا، ح، ولا يشابهه شي.

إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (16)

[سورة البروج (85): الآيات 12 الى 16]
إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (16)
قوله تعالى: (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ) أي أخذه الجبابرة والظلمة، كقوله جل ثناؤه: وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ، إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود: 102]. وقد تقدم «1». قال المبرد: إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ جواب القسم. المعنى: والسماء ذات البروج إن بطش ربك، وما بينهما معترض مؤكد للقسم. وكذلك قال الترمذي الحكيم في نوادر الأصول: إن القسم واقع عما ذكر صفته بالشدة. (إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ- وَيُعِيدُ) يعني الخلق- عن أكثر العلماء- يخلقهم ابتداء، ثم يعيدهم عند البعث، وروى عكرمة قال: عجب الكفار من إحياء الله جل ثناؤه الأموات، وقال ابن عباس: يبدئ لهم عذاب الحريق في الدنيا، ثم يعيده عليهم في الآخرة. وهذا اختيار الطبري. (وَهُوَ الْغَفُورُ) أي الستور لذنوب عباده المؤمنين لا يفضحهم بها. (الْوَدُودُ) أي المحب لأوليائه. وروى الضحاك عن ابن عباس قال: كما يود أحدكم أخاه بالبشرى والمحبة. وعنه أيضا الْوَدُودُ أي المتودد إلى أوليائه بالمغفرة، وقال مجاهد الواد لأوليائه، فعول بمعنى فاعل. وقال ابن زيد: الرحيم، وحكى المبرد عن إسماعيل بن إسحاق القاضي أن الودود هو الذي لا ولد له، وأنشد قول الشاعر:
وأركب في الروع عريانة ... ذلول الجناح لقاحا ودودا
أي لا ولد لها تحن إليه، ويكون معنى الآية: إنه يغفر لعباده وليس له ولد يغفر لهم من أجله، ليكون بالمغفرة متفضلا من غير جزاء. وقيل: الودود بمعنى المودود، كركوب وحلوب، أي يوده عباده الصالحون ويحبونه. (ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ) قرأ الكوفيون إلا عاصما" المجيد" بالخفض، نعتا للعرش. وقيل: ل رَبِّكَ"، أي إن بطش ربك المجيد لشديد،
__________
(1). راجع ج 9 ص 95

هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19)

ولم يمتنع الفصل، لأنه جار مجرى الصفة في التشديد. الباقون بالرفع نعتا ل ذُو وهو الله تعالى. واختاره أبو عبيد وأبو حاتم، لان المجد هو النهاية في الكرم والفضل، والله سبحانه المنعوت بذلك، وإن كان قد وصف عرشه بالكريم في آخر" المؤمنون «1». تقول العرب: في كل شجر نار، واستمجد المرخ والعفار «2»، أي تناهيا فيه، حتى يقتبس منهما. ومعنى ذو العرش: أي ذو الملك والسلطان، كما يقال: فلان على سرير ملكه، وإن لم يكن على سرير. ويقال: ثل عرشه: أي ذهب سلطانه. وقد مضى بيان هذا في" الأعراف" «3» وخاصة في" كتاب الأسنى، في شرح أسماء الله الحسني". (فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) أي لا يمتنع عليه شي يريده. الزمخشري: فَعَّالٌ خبر ابتداء محذوف. وإنما قيل: فَعَّالٌ لان ما يريد ويفعل في غاية الكثرة. وقال الفراء: هو رفع على التكرير والاستئناف، لأنه نكرة محضة. وقال الطبري: رفع فَعَّالٌ وهي نكرة محضة على وجه الاتباع لاعراب الْغَفُورُ الْوَدُودُ. وعن أبي السفر «4» قال: دخل ناس من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أبي بكر رضي الله عنه يعودونه فقالوا: ألا نأتيك بطبيب؟ قال: قد رآني! قالوا: فما قال لك؟ قال: قال: إني فعال لما أريد.

[سورة البروج (85): الآيات 17 الى 19]
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19)
قوله تعالى: (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ) أي قد أتاك يا محمد خبر الجموع الكافرة المكذبة لأنبيائهم، يؤنسه بذلك ويسليه. ثم بينهم فقال. (فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ) وهما في موضع جر على البدل من الْجُنُودِ. المعنى: إنك قد عرفت ما فعل الله بهم حين كذبوا أنبياءه ورسله. (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي من هؤلاء الذين لا يؤمنون بك. (فِي تَكْذِيبٍ)
__________
(1). راجع ج 12 ص 157.
(2). المرخ والعقار: شجرتان من أكثر الشجر نارا يتخذ منها الزناد والعرب تضرب بهما المثل في الشرف العالي. و(استمجد). استكثر.
(3). راجع ج 7 ص (220)
(4). هو سعيد بن يحمد الهمداني.

وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)

لك، كدأب من قبلهم. وإنما خص فرعون وثمود، لان ثمود في بلاد العرب وقصتهم عندهم مشهورة وإن كانوا من المتقدمين. وأمر فرعون كان مشهورا عند أهل الكتاب وغيرهم، وكان من المتأخرين في الهلاك، فدل بهما على أمثالهما في الهلاك. والله أعلم.

[سورة البروج (85): الآيات 20 الى 22]
وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)
قوله تعالى: (وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ) أي يقدر على أن ينزل بهم ما أنزل بفرعون. والمحاط به كالمحصور. وقيل: أي والله عالم بهم فهو يجازيهم. (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ) أي متناه في الشرف والكرم والبركة، وهو بيان ما بالناس الحاجة إليه من أحكام الدين والدنيا، لا كما زعم المشركون. وقيل مَجِيدٌ: أي غير مخلوق. (فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) أي مكتوب في لوح. وهو محفوظ عند الله تعالى من وصول الشياطين إليه. وقيل: هو أم الكتاب، ومنه انتسخ القرآن والكتب. وروى الضحاك عن ابن عباس قال:" اللوح من ياقوتة حمراء، أعلاه معقود بالعرش وأسفله في حجر ملك يقال له ماطريون «1»، كتابه نور، وقلمه نور، ينظر الله عز وجل فيه كل يوم ثلاثمائة وستين نظرة، ليس منها نظرة إلا وهو يفعل ما يشاء، يرفع وضيعا، ويضع رفيعا، ويغني فقيرا، ويفقر غنيا، يحيي ويميت، ويفعل ما يشاء، لا إله إلا هو". وقال أنس بن مالك ومجاهد: إن اللوح المحفوظ الذي ذكره الله تعالى في جبهة إسرافيل. وقال مقاتل: اللوح المحفوظ عن يمين العرش. وقيل: اللوح المحفوظ الذي فيه أصناف الخلق والخليقة، وبيان أمورهم، وذكر آجالهم وأرزاقهم وأعمالهم والأقضية النافذة فيهم ومآل عواقب أمورهم، وهو أم الكتاب. وقال ابن عباس: أول شي كتبه الله تعالى في اللوح المحفوظ" إني أنا الله لا إله إلا أنا، محمد رسولي، من استسلم لقضائي، وصبر على بلائي، وشكر نعمائي، كتبته صديقا وبعثته مع الصديقين، ومن لم يستسلم لقضائي
__________
(1). في روح المعافى: (ساطربون).

ولم يصبر على بلائي، ولم يشكر نعمائي، فليتخذ إلها سواي". وكتب الحجاج إلى محمد ابن الحنفية رضي الله عنه يتوعده، فكتب إليه ابن الحنفية:" بلغني أن لله تعالى في كل يوم ثلاثمائة وستين نظرة في اللوح المحفوظ، يعز ويذل، ويبتلي ويفرح، ويفعل ما يريد، فلعل نظرة منها تشغلك بنفسك، فتشتغل بها ولا تتفرغ". وقال بعض المفسرين: اللوح شي يلوح للملائكة فيقرءونه. وقرا ابن السميقع وأبو حيوة (قرآن مجيد) على الإضافة، أي قرآن رب مجيد. وقرا نافع (في لوح محفوظ) بالرفع نعتا للقرآن، أي بل هو قرآن مجيد محفوظ في لوح. الباقون (بالجر) نعتا للوح. والقراء متفقون على فتح اللام من لَوْحٍ إلا ما روى عن يحيى بن يعمر، فإنه قرأ (لوح) بضم اللام، أي إنه يلوح، وهو ذو نور وعلو وشرف. قال الزمخشري: واللوح الهواء، يعني اللوح فوق السماء السابعة الذي فيه اللوح. وفي الصحاح: لاح الشيء يلوح لوحا أي لمح. ولاحه السفر: غيره. ولاح لوحا ولواحا: عطش، والتاج مثله. واللوح: الكتف، وكل عظم عريض. واللوح: الذي يكتب فيه. واللوح (بالضم): الهواء بين السماء والأرض. والحمد لله.
تم بعون الله تعالى الجزء التاسع عشر من تفسير القرطبي يتلوه إن شاء الله تعالى الجزء العشرون وأوله: سورة (الطارق)

وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3)

[الجزء العشرين ]

[تفسير سورة الطارق ]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سورة" الطارق" مكية، وهي سبع عشرة آية

[سورة الطارق (86): الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ (1) وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3)
قوله تعالى (وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ) قسمان: السَّماءِ قسم، والطَّارِقِ قسم. والطارق: النجم. وقد بينه الله تعالى بقوله: وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ. النَّجْمُ الثَّاقِبُ. واختلف فيه، فقيل: هو زحل: الكوكب الذي في السماء السابعة، ذكره محمد بن الحسن «1» في تفسيره، وذكر له أخبارا، الله أعلم بصحتها. وقال ابن زيد: إنه الثريا. وعنه أيضا أنه زحل، وقاله الفراء. ابن عباس: هو الجدي. وعنه أيضا وعن علي بن أبي طالب- رضي الله عنهما- والفراء: النَّجْمُ الثَّاقِبُ: نجم في السماء السابعة، لا يسكنها غيره من النجوم، فإذا أخذت النجوم أمكنتها من السماء، هبط فكان معها. ثم يرجع إلى مكانه من السماء السابعة، وهو زحل، فهو طارق حين ينزل، وطارق حين يصعد. وحكى الفراء: ثقب الطائر: إذا ارتفع وعلا. وروى أبو صالح عن ابن عباس قال: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قاعدا مع أبي طالب، فانحط نجم، فامتلأت الأرض نورا، ففزع أبو طالب، وقال: أي شي هذا؟ فقال:" هذا نجم رمي به، وهو آية من آيات الله" فعجب أبو طالب، ونزل: والسَّماءِ وَالطَّارِقِ. وروي عن ابن عباس أيضا والسَّماءِ وَالطَّارِقِ [قال: السماء «2» [وما يطرق فيها. وعن
__________
(1). لعل المراد به: أبو بكر العطار: محمد بن الحسن بن مقسم.
(2). زيادة عن الطبري

ابن عباس وعطاء: الثَّاقِبُ: الذي ترمى به الشياطين. قتادة: هو عام في سائر النجوم، لان طلوعها بليل، وكل من أتاك ليلا فهو طارق. قال:
ومثلك حبلي قد طرقت ومرضعا ... فألهيتها عن ذي تمائم مغيل «1»
وقال:
ألم ترياني كلما جئت طارقا ... وجدت بها طيبا وإن لم تطيب
فالطارق: النجم، اسم جنس، سمي بذلك لأنه يطرق ليلا، ومنه الحديث: [نهى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يطرق المسافر أهله ليلا، كي تستحد المغيبة، وتمتشط الشعثة «2»]. والعرب تسمى كل قاصد في الليل طارقا. يقال: طرق فلان إذا جاء بليل. وقد طرق يطرق طروقا، فهو طارق. ولابن الرومي: «3»
يا راقد الليل مسرورا بأوله ... إن الحوادث قد يطرقن أسحارا
لا تفرحن بليل طاب أوله ... فرب آخر ليل أجج النارا
وفي الصحاح: وَالطَّارِقِ: النجم الذي يقال له كوكب الصبح. ومنه قول هند: «4»
نحن بنات طارق ... نمشي على النمارق
أي إن أبانا في الشرف كالنجم المضي. الماوردي: واصل الطرق: الدق، ومنه سميت المطرقة، فسمى قاصد الليل طارقا، لاحتياجه في الوصول إلى الدق. وقال قوم: إنه قد يكون نهارا. والعرب تقول، أتيتك اليوم طرقتين: أي مرتين. ومنه قوله صلى الله عليه
__________
(1). البيت لامرئ القيس. والتمائم: التعاويذ التي تعلق في عنق الصبي. وذو التمائم: هو الصبي. والمغيل: الذي تؤتى أمه وهي ترضعه. ويروي: (محول) بدل (مغيل) وهو الذي أتى عليه الحول.
(2). الاستحداد: حلق العانة بالحديد. والمغيبة: التي غاب عنها زوجها. والشعثة: التي تلبد شعرها.
(3). لم نعثر على هذين البيتين في ديوان ابن الرومي. وقد أورد الجاحظ البيت الأول في كتابه (الحيوان ج 6 ص 508 طبع مطبعة الحلبي) غير منسوب. ولم يعرف أن الجاحظ يستشهد بشعر ابن الرومي. وقد توفى الجاحظ وكانت سن ابن الرومي 34 على أن هذا الشعر ليس من روح ابن الرومي. وقد أورد أيضا الغزالي في (الأحياء ج 3 ص 180 طبع الحلبي) البيت الأول ضمن ستة أبيات من وزنه وقافيته.
(4). هي هند بنت بياضة بن رباح بن طارق الايادي، قالت هذا الرجز يوم أحد تحض على الحرب، والزجر بأكله في (اللسان: طرق). [.....]

إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4)

وسلم: [أعوذ بك من شر طوارق الليل والنهار، إلا طارقا يطرق بخير يا رحمان [. وقال جرير في الطروق:
طرقتك صائدة القلوب وليس ذا ... حين الزيارة فارجعي بسلام
ثم بين فقال: (وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ. النَّجْمُ الثَّاقِبُ) والثاقب: المضي. ومنه شِهابٌ ثاقِبٌ «1». يقال ثقب يثقب ثقوبا وثقابة: إذا أضاء. وثقوبه: ضوءه. والعرب تقول: أثقب نارك، أي أضئها. قال:
أذاع به في الناس حتى كأنه ... بعلياء نار أوقدت بثقوب
الثقوب: ما تشعل به النار من دقاق العيدان. وقال مجاهد: الثاقب: المتوهج. القشيري: والمعظم على أن الطارق والثاقب اسم جنس أريد به العموم «2»، كما ذكرنا عن مجاهد. (وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ) تفخيما لشأن هذا المقسم به. وقال سفيان: كل ما في القرآن وَما أَدْراكَ؟ فقد أخبره به. وكل شي قال فيه" وما يدريك": لم يخبره به.

[سورة الطارق (86): آية 4]
إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ (4)
قال قتادة: حفظة يحفظون عليك رزقك وعملك وأجلك. وعنه أيضا قال: قرينه يحفظ عليه عمله: من خير أو شر. وهذا هو جواب القسم. وقيل: الجواب إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ في قول الترمذي: محمد بن علي. و" إن": مخففة من الثقيلة، و" ما": مؤكدة، أي إن كل نفس لعليها حافظ. وقيل: المعنى إن كل نفس إلا عليها حافظ: يحفظها من الآفات، حتى يسلمها إلى القدر. قال الفراء: الحافظ من الله، يحفظها حتى يسلمها إلى المقادير، وقاله الكلبي. وقال أبو أمامة: قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [وكل بالمؤمن مائة وستون ملكا يذبون عنه ما لم يقدر عليه. من ذلك البصر، سبعة أملاك يذبون عنه، كما يذب عن قصعة العسل الذباب. ولو وكل العبد إلى نفسه طرفة عين لاختطفته الشياطين [. وقراءة ابن عامر وعاصم وحمزة" لما" بتشديد الميم، أي ما كل نفس إلا عليها حافظ، وهي لغة
__________
(1). آية 10 سورة الصافات.
(2). أي لم يرد به نجم معين، كالثريا أو زحل، كما قال بعض المفسرين.

فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7) إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8)

هذيل: يقول قائلهم: نشدتك لما قمت. الباقون بالتخفيف، على أنها زائدة مؤكدة، كما ذكرنا. ونظير هذه الآية قوله تعالى: لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ «1» [الرعد: 11]، على ما تقدم. وقيل: الحافظ هو الله سبحانه، فلولا حفظه لها لم تبق. وقيل: الحافظ عليه عقله يرشده إلى مصالحه، ويكفه عن مضاره. قلت: العقل وغيره وسائط، والحافظ في الحقيقة هو الله عز وجل، قال الله عز وجل: فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً «2» [يوسف: 64]، وقال: قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ «3» [الأنبياء: 42]. وما كان مثله.

[سورة الطارق (86): الآيات 5 الى 8]
فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ (7) إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ (8)
قوله تعالى: (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ) أي أبن أدم مِمَّ خُلِقَ وجه الاتصال بما قبله توصية الإنسان بالنظر في أول أمره وسنته الاولى، حتى يعلم أن من أنشأه قادر على إعادته وجزائه، فيعمل ليوم الإعادة والجزاء، ولا يملي على حافظه إلا ما يسره في عاقبة أمره. ومِمَّ خُلِقَ؟ استفهام، أي من أي شي خلق؟ ثم قال: (خُلِقَ) وهو جواب الاستفهام مِنْ ماءٍ دافِقٍ أي من المني. والدفق: صب الماء، دفقت الماء أدفقه دفقا: صببته، فهو ماء دافق، أي مدفوق، كما قالوا: سر كاتم: أي مكتوم، لأنه من قولك: دفق الماء، على ما لم يسم فاعله. ولا يقال: دفق الماء «4». ويقال: دفق الله روحه: إذا دعي عليه بالموت. قال الفراء والأخفش: مِنْ ماءٍ دافِقٍ أي مصبوب في الرحم، الزجاج: من ماء ذي اندفاق. يقال: دارع وفارس ونابل، أي ذو فرس، ودرع، ونبل. وهذا مذهب سيبويه. فالدافق هو المندفق بشدة قوته. وأراد ماءين: ماء الرجل وماء المرأة، لان الإنسان مخلوق منهما، لكن جعلهما ماء واحدا لامتزاجهما. وعن عكرمة عن ابن عباس: دافِقٍ لزج. (يَخْرُجُ)
__________
(1). راجع ج 9 ص (291)
(2). آية 65 سورة يوسف.
(3). آية 52 سورة الأنبياء.
(4). بل يقال ذلك، ونقله صاحب اللسان عن الليث. وانظره أيضا في المصباح المنير للفيومي.

أي هذا الماء (مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ) أي الظهر. وفية لغات أربع:»
صلب، وصلب- وقرى بهما- وصلب (بفتح اللام)، وصالب (على وزن قالب)، ومنه قول العباس: «2»
تنقل من صالب إلى رحم

(وَالتَّرائِبِ): أي الصدر، الواحدة: تريبة، وهي موضع القلادة من الصدر. قال:
مهفهفة بيضاء غير مفاضة ... ترائبها مصقولة كالسجنجل «3»
والصلب من الرجل، والترائب من المرأة. قال ابن عباس: الترائب: موضع القلادة. وعنه: ما بين ثدييها، وقال عكرمة. وروي عنه: يعني ترائب المرأة: اليدين والرجلين والعينين، وبه قال الضحاك. وقال سعيد بن جبير: هو الجيد. مجاهد: هو ما بين المنكبين والصدر وعنه: الصدر. وعنه: التراقي. وعن ابن جبير عن ابن عباس: الترائب: أربع أضلاع من هذا الجانب. وحكى الزجاج: أن الترائب أربع أضلاع من يمنة الصدر، وأربع أضلاع من يسرة الصدر. وقال معمر بن أبي حبيبة المدني: الترائب عصارة القلب، ومنها يكون الولد. والمشهور من كلام العرب: أنها عظام الصدر والنحر «4». وقال دريد بن الصمة:
فإن تدبروا نأخذكم في ظهوركم ... وإن تقبلوا نأخذكم في الترائب
وقال آخر:
وبدت كأن ترائبا من نحرها ... جمر الغضى في ساعد تتوقد
وقال آخر:
والزعفران على ترائبها ... شرق به اللبات والنحر «5»
__________
(1). بل هي ثلاث فقط، أما صلب بضمتين، فضمه العين إتباع للفاء، وليست لغة ثابتة (انظر تاج العروس: صلب).
(2). هو ابن عبد المطلب، يمدح النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتمام البيت:
إذا مضى عالم بدا طبق

(3). البيت من معلقة امرئ القيس. والمهفهفة: الخفيفة اللحم: التي ليست برهلة ولا ضخمة البطن. والمفاضة: المسترخية البطن. والسجنجل: المرآة. وقيل: سبيكة الفضة، أو الزعفران، أو ماء الذهب.
(4). في بعض نسخ الأصل: (أنها عظام النهد والصدر).
(5). البيت للخبل. وشرق الجسد بالطيب امتلأ فضاق. واللبات (جمع لبة): موضع القلادة.

وعن عكرمة: الترائب: الصدر، ثم أنشد:
نظام در على ترائبها

وقال ذو الرمة:
ضرجن البرود عن ترائب حرة «1»

أي شققن. ويروي" ضرحن" بالحاء، أي ألقين. وفي الصحاح: والتربية: واحدة الترائب، وهي عظام الصدر، ما بين الترقوة والثندوة. قال الشاعر:
أشرف ثدياها على التريب

«2» وقال المثقب العبدي:
ومن ذهب يسن «3» على تريب ... كلون العاج ليس بذي غضون «4»
[عن غير الجوهري: الثندوة للرجل: بمنزلة الثدي للمرأة. وقال الأصمعي: مغرز الثدي. وقال ابن السكيت: هي اللحم الذي حول الثدي، إذا ضممت أولها همزت، وإذا فتحت لم تهمز «5»]. وفي التفسير: يخلق من ماء الرجل الذي يخرج من صلبه العظم والعصب. ومن ماء المرأة الذي يخرج من ترائبها اللحم والدم، وقاله الأعمش. وقد تقدم مرفوعا في أول سورة [آل عمران «6»]. والحمد لله- وفي (الحجرات) إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى [الحجرات: 13] وقد تقدم «7». وقيل: إن ماء الرجل ينزل من الدماغ، ثم يجتمع في الأنثيين. وهذا لا يعارض قوله: مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ، لأنه
__________
(1). تمام البيت:
وعن أعين قتلتنا كل مقتل

(2). القائل: هو الأغلب العجلي. وعجز البيت:
لم يعدوا التفليك في النتوب

وتفلك ثدي الجارية: استدار. والنتوب: النهود، وهو ارتفاعه.
(3). كذا في بعض النسخ والطبري. وفي بعضها:" يسر" بالراء. وفي روح المعاني: (يبين). وفي اللسان وشعراء النصرانية (يلوح). [.....]
(4). في اللسان مادة (ترب):" ... ليس له غضون". والبيت من قصيدة مكسورة القافية، مطلعها:
أفاطم قبل بينك متعيني ... ومنعك ما سألت كأن تبيني

(5). ما بين المربعين ساقط من بعض نسخ الأصل.
(6). راجع ج 4 ص 7
(7). راجع ج 16 ص 343

إن نزل من الدماغ، فإنما يمر بين الصلب والترائب. وقال قتادة: المعنى ويخرج من صلب الرجل وترائب المرأة. وحكى الفراء أن مثل هذا يأتي عن العرب، وعليه فيكون معنى من بين الصلب: من الصلب. وقال الحسن: المعنى: يخرج من صلب الرجل وترائب الرجل، ومن صلب المرأة وترائب المرأة. ثم إنا نعلم أن النطفة من جميع أجزاء البدن، ولذلك يشبه الرجل والديه كثيرا «1». وهذه الحكمة في غسل جميع الجسد من خروج المني. وأيضا المكثر من الجماع يجد وجعا في ظهره وصلبه، وليس ذلك إلا لخلو صلبه عما كان محتبسا من الماء. وروى إسماعيل عن أهل مكة يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ بضم اللام. ورويت عن عيسى الثقفي. حكاه المهدوي وقال: من جعل المني يخرج من بين صلب الرجل وترائبه، فالضمير في يَخْرُجُ للماء. ومن جعله من بين صلب الرجل وترائب المرأة، فالضمير للإنسان. وقرى (الصلب)، بفتح الصاد واللام. وفية أربع لغات «2»: صلب وصلب وصلب وصالب. قال العجاج:
في صلب مثل العنان المؤدم

وفي مدح النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
تنقل من صالب إلى رحم

«3» الأبيات مشهورة معروفة. إِنَّهُ أي إن الله جل ثناؤه عَلى رَجْعِهِ أي على رد الماء في الإحليل، لَقادِرٌ كذا قال مجاهد والضحاك. وعنهما أيضا أن المعنى: إنه على رد الماء في الصلب، وقال عكرمة. وعن الضحاك أيضا أن المعنى: إنه على رد الإنسان ماء كما كان لقادر. وعنه أيضا أن المعنى: إنه على رد الإنسان من الكبر إلى الشباب، ومن الشباب إلى الكبر، لقادر. وكذا في المهدوي. وفي الماوردي والثعلبي: إلى الصبا، ومن الصبا إلى النطفة. وقال ابن زيد: إنه على حبس ذلك الماء حتى لا يخرج، لقادر. وقال ابن عباس وقتادة والحسن وعكرمة أيضا: إنه على رد الإنسان بعد الموت لقادر. وهو اختيار الطبري. الثعلبي: وهو الأقوى، لقوله تعالى: يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ [الطارق: 9] قال الماوردي: ويحتمل أنه على أن يعيده إلى الدنيا بعد بعثه في الآخرة، لان الكفار يسألون الله تعالى فيها الرجعة.
__________
(1). وقال الأستاذ الامام في تفسير جزء (عم): كنى بالصلب عن الرجل، وبالترائب عن المرأة.
(2). أنظر ما سبق في ص 5.
(3). تمام البيت
إذا بدا عالم بدا طبق

وهو من قول للعباس بن عبد المطلب في مدح النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9)

[سورة الطارق (86): آية 9]
يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ (9)
فيه مسألتان: الاولى: العامل في يَوْمَ- في قول من جعل المعنى إنه على بعث الإنسان- قوله لَقادِرٌ، ولا يعمل فيه رَجْعِهِ لما فيه من التفرقة بين الصلة والموصول بخبر" إن". وعلى الأقوال الأخر التي في إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ، يكون العامل في يَوْمَ فعل مضمر، ولا يعمل فيه لَقادِرٌ، لان المراد في الدنيا. وتُبْلَى أي تمتحن وتختبر، وقال أبو الغول الطهوي: «1»
ولا تبلى بسالتهم وإن هم ... صلوا بالحرب حينا بعد حين

ويروى" تبلى بسالتهم". فمن رواه تُبْلَى- بضم التاء- جعله من الاختبار، وتكون البسالة على هذه الرواية الكراهة، كأنه قال: لا يعرف لهم فيها كراهة. وتُبْلَى تعرف. قال الراجز:
قد كنت قبل اليوم تزدريني ... فاليوم أبلوك وتبتليني
أي أعرفك وتعرفني. ومن رواه (تبلى)- بفتح التاء- فالمعنى: أنهم لا يضعفون عن الحرب وإن تكررت عليهم زمانا بعد زمان. وذلك أن الأمور الشداد إذا تكررت على الإنسان هدته وأضعفته. وقيل: تُبْلَى السَّرائِرُ: أي تخرج مخبآتها وتظهر، وهو كل ما كان استسره الإنسان من خير أو شر، وأضمره من إيمان أو كفر، كما قال الأحوص: «2»
سيبقى لها في مضمر القلب والحشا ... سريرة ود يوم تبلى السرائر
__________
(1). هو شاعر إسلامي، منسوب إلى" طهية"، بضم الطاء، وهى أم قبيلة من العرب.
(2). كذا ورد في بعض نسخ الأصل و(خزانة الأدب ج 1 ص 322 وفي بعض نسخ الأصل، والشعر والشعراء، و(كتاب الأغاني ج 4 ص 242 طبع دار الكتب المصرية):" ستبلى لكم ...".

الثانية: روي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: (ائتمن الله تعالى خلقه على أربع: على الصلاة، والصوم، والزكاة، والغسل، وهي السرائر التي يختبرها الله عز وجل يوم القيامة (. ذكره المهدوي. وقال ابن عمر قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:) ثلاث من حافظ عليها فهو ولي الله حقا، ومن اختانهن فهو عدو الله حقا: الصلاة، والصوم، والغسل من الجنابة) ذكره الثعلبي. وذكر الماوردي عن زيد ابن أسلم: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الأمانة ثلاث: الصلاة والصوم، والجنابة. استأمن الله عز وجل ابن أدم على الصلاة، فإن شاء قال صليت ولم يصل. استأمن الله عز وجل ابن آدم على الصوم، فإن شاء قال صمت ولم يصم. استأمن الله عز وجل ابن آدم على الجنابة، فإن شاء قال اغتسلت ولم يغتسل، اقرءوا إن شئتم يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ (، وذكره الثعلبي عن عطاء. وقال مالك في رواية أشهب عنه، وسألته عن قوله تعالى: يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ: أبلغك أن الوضوء من السرائر؟ قال: قد بلغني ذلك فيما يقول الناس، فأما حديث أحدث «1» به فلا. والصلاة من السرائر، والصيام من السرائر، إن شاء قال صليت ولم يصل. ومن السرائر ما في القلوب، يجزي الله به العباد. قال ابن العربي: قال ابن مسعود يغفر للشهيد إلا الأمانة، والوضوء من الأمانة، والصلاة والزكاة من الأمانة، والوديعة من الأمانة، وأشد ذلك الوديعة، تمثل له على هيئتها يوم أخذها، فيرمى بها في قعر جهنم، فيقال له: أخرجها، فيتبعها فيجعلها في عنقه، فإذا رجا أن يخرج بها زلت منه، فيتبعها، فهو كذلك دهر الداهرين. وقال أبي بن كعب: من الأمانة أن ائتمنت المرأة على فرجها. قال أشهب: قال لي سفيان: في الحيضة والحمل، إن قالت لم أحض وأنا حامل صدقت، ما لم تأت بما يعرف فيه أنها كاذبة. وفي الحديث: [غسل الجنابة من الأمانة [. وقال ابن عمر: يبدي الله يوم القيامة كل سر خفي، فيكون زينا في الوجوه، وشينا في الوجوه. والله عالم بكل شي، ولكن يظهر علامات الملائكة والمؤمنين.
__________
(1). في ابن العربي:" أخذته".

فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ (10) وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ (14) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16)

[سورة الطارق (86): آية 10]
فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ (10)
قوله تعالى: (فَما لَهُ) أي للإنسان مِنْ قُوَّةٍ أي منعة تمنعه. وَلا ناصِرٍ ينصره مما نزل به. وعن عكرمة فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ قال: هؤلاء الملوك ما لهم يوم القيامة من قوة ولا ناصر. وقال سفيان: القوة: العشيرة. والناصر: الحليف. وقيل: فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ في بدنه. وَلا ناصِرٍ من غيره يمتنع به من الله. وهو معنى قول قتادة.

[سورة الطارق (86): الآيات 11 الى 16]
وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَما هُوَ بِالْهَزْلِ (14) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (15)
وَأَكِيدُ كَيْداً (16)
قوله تعالى: (وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ) أي ذات المطر. ترجع كل سنة بمطر بعد مطر. كذا قاله عامة المفسرين. وقال أهل اللغة: الرجع: المطر، وأنشدوا للمتنخل يصف سيفا شبهه بالماء:
أبيض كالرجع رسوب إذا ... ما ثاخ في محتفل يختلى
] ثاخت قدمه في الوحل تثوخ وتثيخ: خاضت وغابت فيه، قاله الجوهري «1» [. قال الخليل: الرجع: المطر نفسه، والرجع أيضا: نبات الربيع. وقيل: ذاتِ الرَّجْعِ. أي ذات النفع. وقد يسمى المطر أيضا أوبا، كما يسمى رجعا، قال:
رباء شماء لا يأوي لقلتها ... إلا السحاب وإلا الأوب والسبل «2»
(هامش)
__________
(1). ما بين المربعين ذكر في هامش بعض نسخ الأصل. والمحتفل: أعظم موضع في الجسد. ويختلى: يقطع.
(2). البيت للمتنخل الهذلي. قال السكري في شرح هذا البيت:" رباء يربأ فوقها، يقول لا يدنو لقلتها، أي لرأسها: أي لا يعلو هذه الهضبة من طولها إلا السحاب والأوب. والأوب: رجوع النحل. والسبل: القطر حين يسبل".

وقال عبد الرحمن بن زيد: الشمس والقمر والنجوم يرجعن في السماء، تطلع من ناحية وتغيب في أخرى. وقيل: ذات الملائكة، لرجوعهم إليها بأعمال العباد. وهذا قسم. (وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ) قسم آخر، أي تتصدع عن النبات والشجر والثمار والأنهار، نظيره ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا «1» [عبس: 26] ... الآية. والصدع: بمعنى الشق، لأنه يصدع الأرض، فتنصدع به. وكأنه قال: والأرض ذات النبات، لان النبات صادع للأرض. وقال مجاهد: والأرض ذات الطرق التي تصدعها المشاة. وقيل: ذات الحرث، لأنه يصدعها. وقيل: ذات الأموات: لانصداعها عنهم للنشور. (إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ) على هذا وقع القسم. أي إن القرآن يفصل بين الحق والباطل. وقد تقدم في مقدمة الكتاب «2» ما رواه الحارث عن علي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: [كتاب فيه خبر ما قبلكم وحكم ما بعدكم، هو الفصل، ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله [. وقيل: المراد بالقول الفصل: ما تقدم من الوعيد في هذه السورة، من قوله تعالى: إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ. يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ. (وَما هُوَ بِالْهَزْلِ) أي ليس القرآن بالباطل واللعب. والهزل: ضد الجد، وقد هزل يهزل. قال الكميت.
يجد بنا في كل يوم ونهزل «3»

إِنَّهُمْ أي إن أعداء الله يَكِيدُونَ كَيْداً أي يمكرون بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه مكرا. (وَأَكِيدُ كَيْداً) أي أجازيهم جزاء كيدهم. وقيل: هو ما أوقع الله بهم يوم بدر من القتل والأسر. وقيل: كيد الله: استدراجهم من حيث لا يعلمون. وقد مضى هذا المعنى في أول" البقرة"، عند قوله تعالى: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ [البقرة: 15]. مستوفي «4».
__________
(1). آية 26 سورة عبس.
(2). راجع ج 1 ص 5 طبعه ثانية أو ثالثة. [.....]
(3). صدر البيت:
أرانا على حب الحياة وطولها

(4). راجع ج 1 ص 208 طبعه ثانية أو ثالثة.

فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (17)

[سورة الطارق (86): آية 17]
فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً (17)
قوله تعالى: فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أي أخرهم، ولا تسأل الله تعجيل إهلاكهم، وارض بما يدبره «1» في أمورهم. ثم نسخت بآية السيف فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة: ( [5) «2». أَمْهِلْهُمْ تأكيد. ومهل وأمهل: بمعنى، مثل نزل وأنزل. وأمهله: أنظره، ومهله تمهيلا، والاسم: المهلة. والاستمهال: الاستنظار. وتمهل في أمره أي اتأد. واتمهل اتمهلالا: أي اعتدل وانتصب. والاتمهلال أيضا: سكون وفتور. ويقال: مهلا يا فلان، أي رفقا وسكونا. رُوَيْداً أي قريبا، عن ابن عباس. قتادة: قليلا. والتقدير: أمهلهم إمهالا قليلا. والرويد في كلام العرب: تصغير رود. وكذا قاله أبو عبيد. وأنشد:
كأنها ثمل يمشي على رود «3»

أي على مهل. وتفسير رُوَيْداً: مهلا، وتفسير (رويدك): أمهل، لان الكاف إنما تدخله إذا كان بمعنى أفعل دون غيره، وإنما حركت الدال لالتقاء الساكنين، فنصب نصب المصادر، وهو مصغر مأمور به، لأنه تصغير الترخيم من إرواد، وهو مصدر أرود يرود. وله أربعة أوجه: اسم للفعل، وصفه، وحال، ومصدر، فالاسم نحو قولك: رويد عمرا، أي أرود عمرا، بمعنى أمهله. والصفة نحو قولك: ساروا سيرا رويدا. والحال نحو قولك: سار القوم رويدا، لما اتصل بالمعرفة صار حالا لها. والمصدر نحو قولك: رويد عمرو بالإضافة، كقوله تعالى: فَضَرْبَ الرِّقابِ «4» [محمد: 4]. قال جميعه الجوهري. والذي في الآية من هذه الوجوه أن يكون نعتا للمصدر، أي إمهالا رويدا. ويجوز أن يكون للحال، أي أمهلهم غير مستعجل لهم العذاب. ختمت السورة.
__________
(1). في بعض النسخ" يريده".
(2). آية 5 سورة التوبة.
(3). هذا عجز بيت للجموح الظفري. وصدره:
تكاد لا تثلم البطحاء وطأتها

(4). آية 4 سورة محمد.

سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)

[تفسير سورة الأعلى ]
سورة" الأعلى" مكية في قول الجمهور. وقال الضحاك: مدنية. وهي تسع عشرة آية.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الأعلى (87): آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)
يستحب للقارئ إذا قرأ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى أن يقول عقبه: سبحان ربي الأعلى، قاله النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقاله جماعة من الصحابة والتابعين، على ما يأتي. وروى جعفر ابن محمد عن أبيه عن جده قال: إن لله تعالى ملكا يقال له حزقيائيل، له ثمانية عشر ألف جناح، ما بين الجناح إلى الجناح مسيرة خمسمائة عام، فخطر له خاطر: هل تقدر أن تبصر العرش جميعه؟ فزاده الله أجنحة مثلها، فكان له ستة وثلاثون ألف جناح، ما بين الجناح إلى الجناح خمسمائة عام. ثم أوحى الله إليه: أيها الملك، أن طر، فطار مقدار عشرين ألف سنة، فلم يبلغ رأس قائمة من قوائم العرش. ثم ضاعف الله له في الأجنحة والقوة، وأمره أن يطير، فطار مقدار ثلاثين ألف سنة أخرى، فلم يصل أيضا، فأوحى الله إليه: أيها الملك، لو طرت إلى نفخ الصور مع أجنحتك وقوتك لم تبلغ ساق عرشي. فقال الملك: سبحان ربي الأعلى، فأنزل الله تعالى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى. فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اجعلوها في سجودكم (. ذكره الثعلبي في (كتاب العرائس) له. وقال ابن عباس والسدي: معنى سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى أي عظم ربك الأعلى. والاسم صلة، قصد بها تعظيم المسمى، كما قال لبيد:
إلى الحول ثم اسم السلام عليكما «1»
__________
(1). تمامه:
ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر

والبيت من قصيدة له، يخاطب بها ابنتيه، مطلعها:
تمنى ابنتاى أن يعيش أبوهما ... وهل أنا إلا من ربيعة أو مضر

وقيل: نزه ربك عن السوء، وعما يقول فيه الملحدون. وذكر الطبري أن المعنى نزه اسم ربك عن أن تسمى به أحدا سواه. وقيل: نزه تسمية ربك وذكرك إياه، أن تذكره إلا وأنت خاشع معظم، ولذكره محترم. وجعلوا الاسم بمعنى التسمية، والاولى أن يكون الاسم هو المسمى. روى نافع عن ابن عمر قال: لا تقل على اسم الله، فإن اسم الله هو الأعلى. وروى أبو صالح عن ابن عباس: صل بأمر ربك الأعلى. قال: وهو أن تقول سبحان ربك الأعلى. وروي عن علي رضي الله عنه، وابن عباس وابن عمر وابن الزبير وأبي موسى وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم: أنهم كانوا إذا افتتحوا قراءة هذه السورة قالوا: سبحان ربي الأعلى، امتثالا لأمره في ابتدائها. فيختار الاقتداء بهم في قراءتهم، لا أن سبحان ربي الأعلى من القرآن، كما قاله بعض أهل الزيغ. وقيل: إنها في قراءة أبي: سبحان ربي الأعلى. وكان ابن عمر يقرؤها كذلك. وفي الحديث: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا قرأها قال: [سبحان ربي الأعلى [. قال أبو بكر الأنباري: حدثني محمد بن شهريار، قال: حدثنا حسين بن الأسود، قال: حدثنا عبد الرحمن بن أبي حماد قال: حدثنا عيسى ابن عمر، عن أبيه، قال: قرأ علي بن أبي طالب عليه السلام في الصلاة سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، ثم قال: سبحان ربي الأعلى، فلما انقضت الصلاة قيل له: يا أمير المؤمنين، أتزيد هذا في القرآن؟ قال: ما هو؟ قالوا: سبحان ربي الأعلى. قال: لا، إنما أمرنا بشيء فقلته، وعن عقبة بن عامر الجهني قال: لما نزلت سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (اجعلوها في سجودكم). وهذا كله يدل على أن الاسم هو المسمى، لأنهم لم يقولوا: سبحان اسم ربك الأعلى. وقيل: إن أول من قال ] سبحان ربي الأعلى [ميكائيل عليه السلام. وقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لجبريل: (يا جبريل أخبرني بثواب من قال: سبحان ربي الأعلى في صلاته أو في غير صلاته). فقال: (يا محمد، ما من مؤمن ولا مؤمنة يقولها في سجوده أو في غير سجوده، إلا كانت له في ميزانه أثقل من العرش والكرسي وجبال الدنيا، ويقول الله تعالى: صدق عبدي، أنا فوق كل شي، وليس فوقي شي، اشهدوا يا ملائكتي أني قد غفرت له،

الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى (5)

وأدخلته الجنة فإذا مات زاره ميكائيل كل يوم، فإذا كان يوم القيامة حمله على جناحه، فأوقفه بين يدي الله تعالى، فيقول: يا رب شفعني فيه، فيقول قد شفعتك فيه، فاذهب به إلى الجنة (. وقال الحسن: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى أي صل لربك الأعلى. وقيل: أي صل بأسماء الله، لا كما يصلي المشركون بالمكاء والتصدية «1». وقيل: ارفع صوتك بذكر ربك. قال جرير:
قبح الاله وجوه تغلب كلما ... سبح الحجيج وكبروا تكبيرا

[سورة الأعلى (87): الآيات 2 الى 5]
الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى (4) فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى (5)
قوله تعالى: (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى) قد تقدم معنى التسوية في" الانفطار" وغيرها «2». أي سوى ما خلق، فلم يكن في خلقه تثبيج «3». وقال الزجاج: أي عدل قامته. وعن ابن عباس: حسن ما خلق. وقال الضحاك: خلق آدم فسوى خلقه. وقيل: خلق في أصلاب الآباء، وسوى في أرحام الأمهات. وقيل: خلق الأجساد، فسوى الافهام. وقيل: أي خلق الإنسان وهيأه للتكليف. (الَّذِي قَدَّرَ فَهَدى ) قرأ علي رضي الله عنه السلمي والكسائي (قدر) مخففة الدال، وشدد الباقون. وهما بمعنى واحد. أي قدر ووفق لكل شكل شكله. فَهَدى أي أرشد. قال مجاهد: قدر الشقاوة والسعادة، وهدى للرشد والضلالة. وعنه قال: هدى الإنسان للسعادة والشقاوة، وهدى الانعام لمراعيها. وقيل: قدر أقواتهم وأرزاقهم، وهداهم لمعاشهم إن كانوا إنسا، ولمراعيهم إن كانوا وحشا. وروي عن ابن عباس والسدي ومقاتل والكلبي في قوله فَهَدى قالوا: عرف خلقه كيف يأتي الذكر الأنثى، كما قال في (طه): أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى »
[طه: 50] أي الذكر للأنثى. وقال عطاء: جعل لكل دابة ما يصلحها، وهداها له. وقيل: خلق المنافع في الأشياء، وهدى الإنسان لوجه
__________
(1). المكاء: الصفير. والتصدية التصفيق. قال ابن عباس:" كانت قريش تطوف بالبيت عراة يصفقون ويصفرون، فكان ذلك عبادة في ظنهم".
(2). راجع ج 19 ص (224)
(3). التثبيج: التخليط.
(4). آية 50.

استخراجها منها. وقيل قَدَّرَ فَهَدى : قدر لكل حيوان ما يصلحه، فهداه إليه، وعرفه وجه الانتفاع به. يحكى أن الأفعى إذا أتت عليها ألف سنة عميت، وقد ألهمها الله أن مسح العين بورق الرازيانج «1» الغض يرد إليها بصرها، فربما كانت في برية بينها وبين الريف مسيرة أيام، فتطوي تلك المسافة على طولها وعلى عماها، حتى تهجم في بعض البساتين على شجرة الرازيانج لا تخطئها، فتحك بها عينيها وترجع باصرة بإذن الله تعالى. وهدايات الإنسان إلى ما لا يحد من مصالحه، وما لا يحصر من حوائجه، في أغذيته وأدويته، وفي أبواب دنياه ودينه، وإلهامات البهائم والطيور وهوام الأرض باب واسع، وشوط بطين «2»، لا يحيط به وصف واصف، فسبحان ربي الأعلى. وقال السدي: قدر مدة الجنين في الرحم تسعة أشهر، وأقل وأكثر، ثم هداه للخروج من الرحم. وقال الفراء: أي قدر، فهدى وأضل، فاكتفى بذكر أحدهما، كقوله تعالى: سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ «3» [النحل: 81]. ويحتمل أن يكون بمعنى دعا إلى الايمان، كقوله تعالى: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ «4» [الشورى: 52]. أي لتدعو، وقد دعا الكل إلى الايمان. وقيل: فَهَدى أي دلهم بأفعاله على توحيده، وكونه عالما قادرا. ولا خلاف أن من شدد الدال من قَدَّرَ أنه من التقدير، كقوله تعالى: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً «5» [الفرقان: 2]. ومن خفف فيحتمل أن يكون من التقدير فيكونان بمعنى. ويحتمل أن يكون من القدر والملك، أي ملك الأشياء، وهدى من يشاء. قلت: وسمعت بعض أشياخي يقول: الذي خلق فسوى وقدر فهدى. هو تفسير العلو الذي يليق بجلال الله سبحانه على جميع مخلوقاته. قوله تعالى: (وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى ) أي النبات والكلأ الأخضر. قال الشاعر: «6»
وقد ينبت المرعى على دمن الثرى ... وتبقى حزازات النفوس كما هيا
__________
(1). الرازيانج: شجرة يسميها أهل اليمن (السمار)، ومن خصائصها أن عصارة أغصانها وأوراقها تخلط بالأدوية التي تحد البصر وتجلوه (انظر المعتمد في الأدوية المفردة لملك اليمن يوسف بن رسول. طبع مصطفى البابي الحلبي وأولاده بالقاهرة.
(2). أي بعيد.
(3). آية 81 سورة النحل. [.....]
(4). آية 52 سورة الشورى.
(5). آية 2 سورة الفرقان.
(6). هو زفر بن الحارث. والدمن: السرقين- الزبل- المتلبد بالبعر. والثرى: التراب والأرض.

(فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى ) الغثاء: ما يقذف به السيل على جوانب الوادي من الحشيش والنبات والقماش «1». وكذلك الغثاء (بالتشديد). والجمع: الاغثاء، قتادة: الغثاء: الشيء اليابس. ويقال للبقل والحشيش إذا تحطم ويبس: غثاء وهشيم. وكذلك للذي يكون حول الماء من القماش غثاء، كما قال:
كأن طمية «2» المجيمر غدوة ... من السيل والاغثاء «3» فلكة مغزل
وحكى أهل اللغة: غثا الوادي وجفا «4». وكذلك الماء: إذا علاه من الزبد والقماش ما لا ينتفع به. والأحوى: الأسود، أي أن النبات يضرب إلى الحوة من شدة الخضرة كالأسود. والحوة: السواد، قال الأعشى: «5»
لمياء في شفتيها حوة لعس ... وفي اللثات وفي أنيابها شنب
وفي الصحاح: والحوة: سمرة الشفة. يقال: رجل أحوى، وامرأة حواء، وقد حويت. وبعير أحوى إذا خالط خضرته سواد وصفرة. وتصغير أحوى أحيو، في لغة من قال أسيود. ثم قيل: يجوز أن يكون أَحْوى حالا من الْمَرْعى ، ويكون المعنى: كأنه من خضرته يضرب إلى السواد، والتقدير: أخرج المرعى أحوى، فجعله غثاء يقال: قد حوي النبت، حكاه الكسائي، وقال:
__________
(1). القماش (بالضم): ما كان على وجه الأرض من فتات الأشياء. وقماش كل شي: فتاته.
(2). كذا رواه صاحب اللسان في (طما)، وقال: طمية: جبل وفي بعض النسخ ومعلقة امرئ القيس:
كأن ذرا رأس المجيمر غدوة

وقد أشار التبريزي شارح المعلقة إلى الرواية الاولى. قال:" والمجيمر": أرض لبني فزارة. وطمية: جبل في بلادهم. يقول: قد امتلأ المجيمر فكأن الجبل في الماء فلكة مغزل لما جمع السيل حوله من الغثاء.
(3). في المعلقة:" الغثاء" قال التبريزي: ورواه الفراء" من السيل والاغثاء": جمع الغثاء، وهو قليل في الممدود. قال أبو جعفر: من رواه الاغثاء فقد أخطأ لان غثاء لا يجمع على أغثاء وإنما يجمع على أغثية لان أفعلة جمع الممدود وأفعالا جمع المقصور نحو رحا وأرحاء.
(4). في الأصول: (وانجفى)، وهو تحريف عن (جفا). والجفاء كغراب: ما يرمى به الوادي.
(5). كذا في جميع نسخ الأصل وهو خطأ. والبيت لذي الرمة كما في ديوانه واللسان. والياء من الشفاء: اللطيفة القليلة الدم. واللعس (بفتحتين) لون الشفة إذا كانت تضرب إلى السواد قليلا، وذلك يستملح. والشنب: برودة وعذوبة في، ورقة في الأسنان.

سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى (7) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى (8)

وغيث من الوسمي حو تلاعه ... تبطنته بشيظم صلتان «1»
ويجوز أن يكون أَحْوى صفة ل غُثاءً. والمعنى: أنه صار كذلك بعد خضرته. وقال أبو عبيدة: فجعله أسود من احتراقه وقدمه، والرطب إذا يبس أسود. وقال عبد الرحمن زيد: أخرج المرعى أخضر، ثم لما يبس أسود من احتراقه، فصار غثاء تذهب به الرياح والسيول. وهو مثل ضربه الله تعالى للكفار، لذهاب الدنيا بعد نضارتها.

[سورة الأعلى (87): الآيات 6 الى 8]
سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (6) إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى (7) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى (8)
قوله تعالى سَنُقْرِئُكَ أي القرآن يا محمد فنعلمكه فَلا تَنْسى أي فتحفظ، رواه ابن وهب عن مالك. وهذه بشرى من الله تعالى، بشره بأن أعطاه آية بينة، وهي أن يقرأ عليه جبريل ما يقرأ عليه من الوحى، وهو أمي لا يكتب ولا يقرأ، فيحفظه ولا ينساه. وعن ابن أبي نجيح عن مجاهد، قال: كان يتذكر مخافة أن ينسى، فقيل: كفيتكه. قال مجاهد والكلبي: كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا نزل عليه جبريل بالوحي، لم يفرغ جبريل من آخر الآية، حتى يتكلم للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأولها، مخافة أن ينساها، فنزلت: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى بعد ذلك شيئا، فقد كفيتكه. ووجه الاستثناء على هذا، ما قاله الفراء: إلا ما شاء الله، وهو لم يشأ أن تنسى شيئا، كقوله تعالى: خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ «2» رَبُّكَ [هود: 107]. ولا يشاء. ويقال في الكلام: لأعطينك كل ما سألت إلا ما شئت، وإلا أن أشاء أن أمنعك، والنية على ألا يمنعه شيئا. فعلى هذا مجاري الايمان، يستثنى فيها ونية الحالف التمام. وفي رواية أبي صالح عن ابن عباس: فلم ينس بعد نزول هذه الآية حتى مات، إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ. وعن سعيد عن قتادة، قال: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا ينسى شيئا، إِلَّا
__________
(1). الوسمي: مطر أول الربيع لأنه يسم الأرض بالنبات. نسب إلى الوسم. والتلاع: جمع التلعة، وهي أرض مرتفعة غليظة يتردد فيها السيل، ثم يدفع منها إلى تلعة أسفل منها. وهي مكرمة من المنابت: وقيل: التلعة مجرى الماء من أعلى الوادي إلى بطون الأرض وتبطنته: دخلته. والشظيم: الطويل الجسيم الفتى من الناس والخيل. والصلتان: النشيط الحديد الفؤاد من الخيل.
(2). آية 108 سورة هود.

ما شاءَ اللَّهُ. وعلى هذه الأقوال قيل: إلا ما شاء الله أن ينسى، ولكنه لم ينسى شيئا منه بعد نزول هذه الآية. وقيل: إلا ما شاء الله أن ينسى، ثم يذكر بعد ذلك، فإذا قد نسي، ولكنه يتذكر ولا ينسى نسيانا كليا. وقد روي أنه أسقط آية في قراءته في الصلاة، فحسب أبي أنها نسخت، فسأله فقال: [إني نسيتها]. وقيل: هو من النسيان، أي إلا ما شاء الله أن ينسيك. ثم قيل: هذا بمعنى النسخ، أي إلا ما شاء الله أن ينسخه. والاستثناء نوع من النسخ. وقيل. النسيان بمعنى الترك، أي يعصمك من أن تترك العمل به، إلا ما شاء الله أن تتركه لنسخه إياه. فهذا في نسخ العمل، والأول في نسخ القراءة. قال الفرغاني: كان يغشى مجلس الجنيد أهل البسط من العلوم، وكان يغشاه ابن كيسان النحوي، وكان رجلا جليلا، فقال يوما: ما تقول يا أبا القاسم في قول الله تعالى: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى ؟ فأجابه مسرعا- كأنه تقدم له السؤال قبل ذلك بأوقات: لا تنسى العمل به. فقال ابن كيسان: لا يفضض الله فاك! مثلك من يصدر عن رأيه. وقوله فَلا: للنفي لا للنهي. وقيل: للنهي، وإنما أثبتت الياء «1» لان رءوس الآي على ذلك. والمعنى: لا تغفل عن قراءته وتكراره فتنساه، إلا ما شاء الله أن ينسيكه برفع تلاوته للمصلحة. والأول هو المختار، لان الاستثناء من النهي لا يكاد يكون إلا مؤقتا معلوما. وأيضا فإن الياء مثبتة في جميع المصاحف، وعليها القراء. وقيل: معناه إلا ما شاء الله أن يؤخر إنزاله. وقيل: المعنى فجعله غثاء أحوى إلا ما شاء الله أن يناله بنو آدم والبهائم، فإنه لا يصير كذلك. قوله تعالى: (إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ) أي الإعلان من القول والعمل. وَما يَخْفى من السر. وعن ابن عباس: ما في قلبك ونفسك. وقال محمد بن حاتم: يعلم إعلان الصدقة وإخفاءها. وقيل: الجهر ما حفظته من القرآن في صدرك. وَما يَخْفى هو ما نسخ من صدرك. وَنُيَسِّرُكَ: معطوف على سَنُقْرِئُكَ وقوله: إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى اعتراش. ومعنى لِلْيُسْرى أي للطريقة اليسرى، وهي عمل الخير. قال ابن عباس: نيسرك لان تعمل خيرا. ابن مسعود: لِلْيُسْرى أي للجنة. وقيل: نوفقك للشريعة اليسرى، وهي الحنيفية السمحة السهلة، قال معناه الضحاك. وقيل: أي نهون عليك الوحي حتى تحفظه وتعمل به.
__________
(1). يريد الالف في (تَنْسى )، واصلها الياء (نسى ينسى).

فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12) ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (13)

[سورة الأعلى (87): آية 9]
فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى (9)
قوله تعالى: فَذَكِّرْ أي فعظ قومك يا محمد بالقرآن. إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى أي الموعظة. وروى يونس عن الحسن قال: تذكرة للمؤمن، وحجة على الكافر. وكان ابن عباس يقول: تنفع أوليائي، ولا تنفع أعدائي. وقال الجرجاني: التذكير واجب وإن لم ينفع. والمعنى: فذكر إن نفعت الذكرى، أو لم تنفع، فحذف، كما قال: سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ «1» [النحل: 81]. وقيل: إنه مخصوص بأقوام بأعيانهم. وقيل: إن إِنْ بمعنى ما، أي فذكر ما نفعت الذكرى، فتكون إِنْ بمعنى ما، لا بمعنى الشرط، لان الذكرى نافعة بكل حال، قاله ابن شجرة. وذكر بعض أهل العربية: أن إِنْ بمعنى إذ، أي إذ نفعت، كقوله تعالى: وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ «2» [آل عمران: 139] أي إذ كنتم، فلم يخبر بعلوهم إلا بعد إيمانهم. وقيل: بمعنى قد.

[سورة الأعلى (87): آية 10]
سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى (10)
أي من يتق الله ويخافه. فروى أبو صالح عن ابن عباس قال: نزلت في ابن أم مكتوم. الماوردي: وقد يذكر من يرجوه، إلا أن تذكرة الخاش أبلغ من تذكرة الراجي، فلذلك علقها بالخشية دون الرجاء، وإن تعلقت بالخشية والرجاء. وقيل: أي عمم أنت التذكير والوعظ، وإن كان الوعظ إنما ينفع من يخشى، ولكن يحصل لك ثواب الدعاء، حكاه القشيري.

[سورة الأعلى (87): الآيات 11 الى 13]
وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى (12) ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (13)
أي ويتجنب الذكرى ويبعد عنها.لْأَشْقَى)
أي الشقي في علم الله. وقيل: نزلت في الوليد بن المغيرة وعتبة بن ربيعة. (الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى )
__________
(1). آية 81 سورة النحل.
(2). آية 139 سورة آل عمران.

قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15)

أي العظمى، وهي السفلى من أطباق النار، قاله الفراء. وعن الحسن: الكبرى نار جهنم، والصغرى نار الدنيا، وقاله يحيى بن سلام. (ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى ) أي لا يموت فيستريح من العذاب، ولا يحيا حياة تنفعه، كما قال الشاعر:
ألا ما لنفس تموت فينقضي ... عناها ولا تحيا حياة لها طعم
وقد مضى في" النساء" «1» وغيرها حديث أبي سعيد الخدري، وأن الموحدين من المؤمنين إذا دخلوا جهنم- وهي النار الصغرى على قول الفراء- احترقوا فيها وماتوا، إلى أن يشفع فيهم. خرجه مسلم. وقيل: أهل الشقاء متفاوتون في شقائهم، هذا الوعيد للاشقى، وإن كان ثم شقي لا يبلغ هذه المرتبة.

[سورة الأعلى (87): الآيات 14 الى 15]
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15)
فيه ثلاث مسائل: الاولى- قوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ أي قد صادف البقاء في الجنة، أي من تطهر من الشرك بإيمان، قاله ابن عباس وعطاء وعكرمة. وقال الحسن والربيع: من كان عمله زاكيا ناميا. وقال معمر عن قتادة: تَزَكَّى قال بعمل صالح. وعنه وعن عطاء وأبي العالية: نزلت في صدقة الفطر. وعن ابن سيرين قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى. وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى قال: خرج فصلى بعد ما أدى. وقال عكرمة: كان الرجل يقول أقدم زكاتي بين يدي صلاتي. فقال سفيان: قال الله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى. وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى. وروي عن أبي سعيد الخدري وابن عمر: أن ذلك في صدقة الفطر، وصلاة العيد. وكذلك قال أبو العالية، وقال: إن أهل المدينة لا يرون صدقة أفضل منها، ومن سقاية الماء. وروى كثير بن عبد الله عن أبيه عن جده، عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى قال: [أخرج زكاة الفطر [، وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى قال: [صلاة العيد [. وقال ابن عباس والضحاك: وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ في طريق المصلى فَصَلَّى صلاة العيد. وقيل: المراد
__________
(1). راجع ج 5 ص 196 [.....]

بالآية زكاة الأموال كلها، قاله أبو الأحوص وعطاء. وروى ابن جريج قال: قلت لعطاء: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى للفطر؟ قال: هي للصدقات كلها. وقيل: هي زكاة الأعمال، لا زكاة الأموال، أي تطهر في أعماله من الرياء والتقصير، لان الأكثر أن يقال في المال: زكى، لا تزكى. وروى جابر بن عبد الله قال: قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى أي من شهد أن لا إله إلا الله، وخلع الأنداد، وشهد أني رسول الله [. وعن ابن عباس تَزَكَّى قال: لا إله إلا الله. وروى عنه عطاء قال: نزلت في عثمان بن عفان رضي الله عنه. قال: كان بالمدينة منافق كانت له نخلة بالمدينة، مائلة في دار رجل من الأنصار، إذا هبت الرياح أسقطت البسر والرطب إلى دار الأنصاري، فيأكل هو وعياله، فخاصمه المنافق، فشكا ذلك إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأرسل إلى المنافق وهو لا يعلم نفاقه، فقال: [إن أخاك الأنصاري ذكر أن بسرك ورطبك يقع إلى منزله، فيأكل هو وعياله، فهل لك أن أعطيك نخلة في الجنة بدلها [؟ فقال: أبيع عاجلا بآجل! لا أفعل. فذكروا أن عثمان بن عفان أعطاه حائطا من نخل بدل نخلته، ففيه نزلت قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى. ونزلت في المنافق- يَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى
. وذكر الضحاك أنها نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه. الثانية- قد ذكرنا القول في زكاة الفطر في السورة" البقرة" «1» مستوفى. وقد تقدم أن هذه السورة مكية، في قول الجمهور، ولم يكن بمكة عيد ولا زكاة فطر. القشيري: ولا يبعد أن يكون أثنى على من يمتثل أمره في صدقة الفطر وصلاة العيد، فيما يأمر به في المستقبل. الثالثة- قوله تعالى: (وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) أي ذكر ربه. وروى عطاء عن ابن عباس قال: يريد ذكر معاده وموقفه بين يدي الله جل ثناؤه، فعبده وصلي له. وقيل: ذكر اسم ربه بالتكبير في أول الصلاة، لأنها لا تنعقد إلا بذكره، وهو قوله: الله أكبر: وبه يحتج على وجوب تكبيرة الافتتاح، وعلى أنها ليست من الصلاة، لان الصلاة معطوفة عليها. وفية حجة لمن قال: إن الافتتاح جائز بكل اسم من أسماء الله عز وجل. وهذه مسألة خلافية
__________
(1). راجع ج 1 ص 343 فما بعد.

بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16)

بين الفقهاء. وقد مضى القول في هذا في أول سورة" البقرة «1». وقيل: هي تكبيرات العيد. قال الضحاك: وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ في طريق المصلى فَصَلَّى، أي صلاة العيد. وقيل: وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ وهو أن يذكره بقلبه عند صلاته، فيخاف عقابه، ويرجو ثوابه، ليكون استيفاؤه لها، وخشوعه فيها، بحسب خوفه ورجائه. وقيل: هو أن يفتتح أول كل سورة ببسم الله الرحمن الرحيم. فَصَلَّى أي فصلى وذكر. ولا فرق بين أن تقول: أكرمتني فزرتني، وبين أن تقول: زرتني فأكرمتني. قال ابن عباس: هذا في الصلاة المفروضة، وهي الصلوات الخمس. وقيل: الدعاء، أي دعاء الله بحوائج الدنيا والآخرة. وقيل: صلاة العيد، قاله أبو سعيد الخدري وابن عمر وغيرهما. وقد تقدم. وقيل: هو أن يتطوع بصلاة بعد زكاته، قاله أبو الأحوص، وهو مقتضى قول عطاء. وروي عن عبد الله قال: من أقام الصلاة ولم يؤت الزكاة فلا صلاة له.

[سورة الأعلى (87): آية 16]
بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا (16)
قراءة العامة بَلْ تُؤْثِرُونَ بالتاء، تصديقه قراءة أبي بل أنتم تؤثرون. وقرا أبو عمرو ونصر بن عاصم" بل يؤثرون" بالياء على الغيبة، تقديره: بل يؤثرون الاشقون الحياة الدنيا. وعلى الأول فيكون تأويلها بل تؤثرون أيها المسلمون الاستكثار من الدنيا، للاستكثار من الثواب. وعن ابن مسعود أنه قرأ هذه الآية، فقال: أتدرون لم آثرنا الحياة الدنيا على الآخرة؟ لان الدنيا حضرت وعجلت لنا طيباتها وطعامها وشرابها، ولذاتها وبهجتها، والآخرة غيبت عنا، فأخذنا العاجل، وتركنا الآجل. وروى ثابت عن أنس قال: كنا مع أبي موسى في مسير، والناس يتكلمون ويذكرون الدنيا. قال أبو موسى: يا أنس، إن هؤلاء يكاد أحدهم يفري الأديم بلسانه فريا، فتعال فلنذكر ربنا ساعة. ثم قال: يا أنس، ما ثبر «2» الناس ما بطأ بهم؟ قلت الدنيا والشيطان
__________
(1). راجع ج 1 ص 571 فما بعد.
(2). الثبر: الحبس، أي ما الذي صدهم ومنعهم عن طاعة الله.

وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17) إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (19)

والشهوات. قال: لا، ولكن عجلت الدنيا، وغيبت الآخرة، أما والله لو عاينوها ما عدلوا ولا ميلوا «1».

[سورة الأعلى (87): آية 17]
وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى (17)
أي والدار الآخرة، أي الجنة. خَيْرٌ أي أفضل. وَأَبْقى أي أدوم من الدنيا. وقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ما الدنيا في الآخرة إلا كما يضع أحدكم أصبعه في اليم، فلينظر بم يرجع [صحيح. وقد تقدم «2». وقال مالك بن دينار: لو كانت الدنيا من ذهب يفنى، والآخرة من خزف يبقى، لكان الواجب أن يؤثر خزف يبقى، على ذهب يفنى. قال: فكيف والآخرة من ذهب يبقى، والدنيا من خزف يفنى.

[سورة الأعلى (87): الآيات 18 الى 19]
إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى (18) صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى (19)
قوله تعالى: (إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى ) قال قتادة وابن زيد: يريد قوله وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى . وقالا: تتابعت كتب الله جل ثناؤه- كما تسمعون- أن الآخرة خير وأبقى من الدنيا. وقال الحسن: إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى قال: كتب الله جل ثناؤه كلها. الكلبي: إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى من قوله: قَدْ أَفْلَحَ إلى آخر السورة، لحديث أبي ذر على ما يأتي. وروى عكرمة عن ابن عباس: إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى قال: هذه السورة. وقال والضحاك: إن هذا القرآن لفي الصحف الاولى، أي الكتب الاولى. (صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى ) يعني الكتب المنزلة عليهما. ولم يرد أن هذه الألفاظ بعينها في تلك الصحف، وإنما هو على المعنى، أي إن معنى هذا الكلام وارد في تلك الصحف. وروى الآجري من حديث أبي ذر قال: قلت يا رسول الله، فما
__________
(1). قوله (ما عدلوا): ما ساووا بها شيئا. وقوله (ولا ميلوا): أي ما شكوا ولا ترددوا (عن النهاية لابن الأثير).
(2). راجع ج 4 ص 320

هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1)

كانت صحف إبراهيم؟ قال: كانت أمثالا كلها: أيها الملك المتسلط المبتلى المغرور، إني لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها على بعض، ولكن بعثتك لترد عني دعوة المظلوم. فإني لا أردها ولو كانت من فم كافر. وكان فيها أمثال: وعلى العاقل أن يكون له ] ثلاث «1» [ساعات: ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، يفكر فيها في صنع «2» الله عز وجل إليه، وساعة يخلو فيها لحاجته من المطعم والمشرب. وعلى العاقل ألا يكون ظاعنا إلا في ثلاث: تزود لمعاد، ومرمة لمعاش، ولذة في غير محرم. وعلى العاقل أن يكون بصيرا بزمانه، مقبلا على شأنه، حافظا للسانه. ومن عد كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعينه". قال: قلت يا رسول الله، فما كانت صحف موسى؟ قال:" كانت عبرا كلها: عجبت لمن أيقن بالموت كيف يفرح! وعجبت لمن أيقن بالقدر كيف ينصب. وعجبت لمن رأى الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها! وعجبت لمن أيقن بالحساب غدا ثم هو لا يعمل!. قال: قلت يا رسول الله، فهل في أيدينا شي مما كان في يديه إبراهيم وموسى، مما أنزل الله عليك؟ قال: نعم اقرأ يا أبا ذر قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى. وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى. بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى . إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى . صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى . وذكر الحديث.

[تفسير سورة الغاشية]
سورة" الغاشية" وهي مكية في قول الجميع، وهي ست وعشرون آية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الغاشية (88): آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ (1)
هَلْ بمعنى قد، كقوله: هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ [الإنسان: [1 «3»، قاله قطرب. أي قد جاءك يا محمد حديث الغاشية، أي القيامة التي تغشى الخلائق بأهوالها وأفزاعها، قاله أكثر المفسرين. وقال سعيد بن جبير ومحمد بن كعب: الْغاشِيَةِ: النار تغشى وجوه الكفار، ورواه أبو صالح
__________
(1). زيادة من الدر المنثور.
(2). في الدر المنثور: (يحاسب فيها نفسه، ويتفكر فيها صنع ...)
(3). آية 1 سورة الإنسان.

وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3)

عن ابن عباس، ودليله قوله تعالى: وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ «1» [إبراهيم: 50]. وقيل: تغشى الخلق. وقيل: المراد النفخة الثانية للبعث، لأنها تغشى الخلائق. وقيل: الْغاشِيَةِ أهل النار يغشونها، ويقتحمون فيها. وقيل: معنى هَلْ أَتاكَ أي هذا لم يكن من علمك، ولا من علم قومك. قال ابن عباس: لم يكن أتاه قبل ذلك على هذا التفصيل المذكور ها هنا. وقيل: إنها خرجت مخرج الاستفهام لرسوله، ومعناه إن لم يكن أتاك حديث الغاشية فقد أتاك، وهو معنى قول الكلبي.

[سورة الغاشية (88): الآيات 2 الى 3]
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ (2) عامِلَةٌ ناصِبَةٌ (3)
قال ابن عباس: لم يكن أتاه حديثهم، فأخبره عنهم، فقال: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ أي يوم القيامة. خاشِعَةٌ قال سفيان: أي ذليلة بالعذاب. وكل متضائل ساكن خاشع. يقال: خشع في صلاته: إذا تذلل ونكس رأسه. وخشع الصوت: خفي، قال الله تعالى: وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ [طه: [108) «2». والمراد بالوجوه أصحاب الوجوه. وقال قتادة وابن زيد: خاشِعَةٌ أي في النار. والمراد وجوه الكفار كلهم، قاله يحيى بن سلام. وقيل: أراد وجوه اليهود والنصارى، قاله ابن عباس. ثم قال (عامِلَةٌ ناصِبَةٌ) فهذا في الدنيا، لان الآخرة ليست دار عمل. فالمعنى: وجوه عاملة ناصبة في الدنيا خاشِعَةٌ في الآخرة. قال أهل اللغة: يقال للرجل إذا دأب في سيره: قد عمل يعمل عملا. ويقال للسحاب إذا دام برقه: قد عمل يعمل عملا. وذا سحاب عمل. قال الهذلي:
«3» حتى شآها كليل موهنا عمل ... باتت طرابا وبات الليل لم ينم
__________
(1). آية 50 سورة ابراهيم.
(2). آية 108 سورة طه.
(3). هو ساعدة بن جوية. وقوله (شآها): أي ساقها. والكليل: البرق الضعيف. والموهن: القطعة من الليل. وباتت طرابا: أي باتت البقر العطاش طرابا إلى السير إلى الموضع الذي فيه البرق. وبات البرق الليل أجمع لا يقر: فعبر عن البرق بأنه لم ينم، لاتصاله من أول الليل إلى آخره (راجع هذا البيت والكلام عليه في خزانة الأدب الشاهد الرابع بعد الستمائة).

ناصِبَةٌ أي تعبه. يقال: نصب (بالكسر) ينصب نصبا: إذا تعب، ونصبا أيضا، وأنصبه غيره. فروى الضحاك عن ابن عباس قال: هم الذين انصبوا أنفسهم في الدنيا على معصية الله عز وجل، وعلى الكفر، مثل عبدة الأوثان، وكفار أهل الكتاب مثل الرهبان وغيرهم، لا يقبل الله جل ثناؤه منهم إلا ما كان خالصا له. وقال سعيد عن قتادة: عامِلَةٌ ناصِبَةٌ قال: تكبرت في الدنيا عن طاعة الله عز وجل، فأعملها الله وأنصبها في النار، بجر السلاسل الثقال، وحمل الاغلال، والوقوف حفاة عراة في العرصات، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة. قال الحسن وسعيد بن جبير: لم تعمل لله في الدنيا، ولم تنصب له، فأعملها وأنصبها في جهنم. وقال الكلبي: يجرون على وجوههم في النار. وعنه وعن غيره: يكلفون ارتقاء جبل من حديد في جهنم، فينصبون فيها أشد ما يكون من النصب، بمعالجة السلاسل والاغلال والخوض في النار، كما تخوض الإبل في الوحل، وارتقائها في صعود من نار، وهبوطها في حدور منها، إلى غير ذلك من عذابها. وقاله ابن عباس. وقرا ابن محيصن وعيسى وحميد، ورواها عبيد عن شبل. عن ابن كثير (ناصبة) بالنصب على الحال. وقيل: على الذم. الباقون (بالرفع) على الصفة أو على إضمار مبتدأ، فيوقف على خاشِعَةٌ. ومن جعل المعنى في الآخرة، جاز أن يكون خبرا بعد خبر عن وُجُوهٌ، فلا يوقف على خاشِعَةٌ. وقيل: عامِلَةٌ ناصِبَةٌ أي عاملة في الدنيا ناصبة في الآخرة. وعلى هذا يحتمل وجوه يومئذ عاملة في الدنيا، ناصبة في الآخرة، خاشعة. قال عكرمة والسدي: عملت في الدنيا بالمعاصي. وقال سعيد بن جبير وزيد بن أسلم: هم الرهبان أصحاب الصوامع، وقاله ابن عباس. وقد تقدم في رواية الضحاك عنه. وروى عن الحسن قال: لما قدم عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- الشام أتاه راهب شيخ كبير متقهل «1»، عليه سواد، فلما رآه عمر بكى. فقال له: يا أمير المؤمنين، ما يبكيك؟ قال: هذا المسكين طلب أمرا فلم يصبه، ورجا رجاء فأخطأه،- وقرا قول الله عز وجل- وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ. عامِلَةٌ ناصِبَةٌ. قال الكسائي:
__________
(1). أي شعث وسخ، يقال: أقهل الرجل، وتقهل. (النهاية لابن الأثير).

تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (4)

التقهل: رثاثة الهيئة، ورجل متقهل: يابس الجلد سيئ الحال، مثل المتقحل. وقال أبو عمرو: التقهل: شكوى الحاجة. وأنشد:
لعوا «1» إذا لاقيته تقهلا

والقهل: كفران الإحسان. وقد قهل يقهل قهلا: إذا أثنى ثناء قبيحا. وأقهل الرجل تكلف ما يعيبه ودنس نفسه. وانقهل ضعف وسقط، قاله الجوهري. وعن علي رضي الله عنه أنهم أهل حروراء، يعني الخوارج الذين ذكرهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: [تحقرون صلاتكم «2» مع صلاتهم، وصيامكم مع صيامهم، وأعمالكم مع أعمالهم، يمرقون من الدين كما تمرق السهم من الرمية ... [الحديث.

[سورة الغاشية (88): آية 4]
تَصْلى ناراً حامِيَةً (4)
أي يصيبها صلاؤها وحرها. حامِيَةً شديدة الحر، أي قد أوقدت وأحميت المدة الطويلة. ومنه حمي النهار (بالكسر)، وحمي التنور حميا فيهما، أي اشتد حره. وحكى الكسائي: اشتد حمي الشمس وحموها: بمعنى. وقرا أبو عمرو وأبو بكر ويعقوب (تصلى) بضم التاء. الباقون بفتحها. وقرى (تصلى) بالتشديد. وقد تقدم القول فيها في إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ»
[الانشقاق: 1]. الماوردي: فإن قيل فما معنى وصفها بالحمى، وهي لا تكون إلا حامية، وهو أقل أحوالها، فما وجه المبالغة بهذه الصفة الناقصة؟ قيل: قد اختلف في المراد بالحامية ها هنا على أربعة أوجه: أحدها- أن المراد بذلك أنها دائمة الحمي، وليست كنار الدنيا التي ينقطع حميها بانطفائها. الثاني- أن المراد بالحامية أنها حمى من ارتكاب المحظورات، وانتهاك المحارم، كما قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [إن لكل ملك حمى، وإن حمى الله محارمه. ومن
__________
(1). اللعو: السيئ الخلق. والشره الحريص:
(2). أي تعدون صلاتكم حقيرة بالنظر إلى صلاتهم. [.....]
(3). راجع ج 19 ص 270

تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5)

يرتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه [. الثالث: أنها تحمي نفسها عن أن تطاق ملامستها، أو ترام مماستها، كما يحمي الأسد عرينه، ومثله قول النابغة:
تعدو الذئاب على من لا كلاب له ... وتتقي صولة المستأسد الحامي
الرابع- أنها حامية حمى غيظ وغضب، مبالغة في شدة الانتقام. ولم يرد حمى جرم وذات، كما يقال: قد حمى فلان: إذا اغتاظ وغضب عند إرادة الانتقام. وقد بين الله تعالى بقوله هذا المعنى فقال: تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ «1» [الملك: 8].

[سورة الغاشية (88): آية 5]
تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5)
الآني: الذي قد انتهى حره، من الايناء «2»، بمعنى التأخير. ومنه (آنيت وآذيت) «3». وآناه يؤنيه إيناء، أي أحره وحبسه وأبطأه. ومنه يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ «4» [الرحمن: 44]. وفي التفاسير مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ أي تناهى حرها، فلو وقعت نقطة منها على جبال الدنيا لذابت. وقال الحسن: آنِيَةٍ أي حرها أدرك، أوقدت عليها جهنم منذ خلقت، فدفعوا إليها وردا عطاشا. وعن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: بلغت أناها، وحان شربها.

[سورة الغاشية (88): آية 6]
لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ (6)
قوله تعالى: لَيْسَ لَهُمْ أي لأهل النار. طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ لما ذكر شرابهم ذكر طعامهم. قال عكرمة ومجاهد: الضريع: نبت ذو شوك لاصق بالأرض، تسميه قريش الشبرق إذا كان رطبا، فإذا يبس فهو الضريع، لا تقربه دابة ولا بهيمة ولا ترعاه، وهو سم قاتل، وهو أخبث الطعام وأشنعه، على هذا عامة المفسرين. إلا أن الضحاك روى عن ابن عباس قال: هو شي يرمى به البحر، يسمى الضريع، من أقوات الانعام
__________
(1). آية 8 سورة الملك.
(2). آنية: متناهية في شدة الحر، من أنى يأني، كرمى يرمى، وليس من (الايناء) مصدر آنى بمعنى آخر قال الطبري في تفسير الآية: (تسقى أصحاب هذه الوجوه من شراب عين قد أنى حرها، وبلغ غايته في شدة الحر.
(3). أي في الحديث في صلاة الجمعة، إذ أنه قال لرجل جاء يوم الجمعة يتطئ رقاب الناس: لقد آنيت وآنيت. ومعنى (آنيت): أخرت المجيء وأبطأت. و(آذيت) أي آذيت الناس بتخطئك.
(4). آية 44 سورة الرحمن.

لا الناس، فإذا وقعت فيه الإبل لم تشبع، وهلكت هزلا. والصحيح ما قاله الجمهور: أنه نبت. قال أبو ذؤيب: «1»
رعى الشبرق الريان حتى إذا ذوى ... وعاد ضريعا بأن منه «2» النحائص
وقال الهذلي «3» وذكر إبلا وسوء مرعاها:
وحبسن في هزم الضريع فكلها ... حدباء دامية اليدين حرود «4»
وقال الخليل: الضريع: نبات أخضر منتن الريح، يرمي به البحر. وقال الوالبي عن ابن عباس: هو شجر من نار، ولو كانت في الدنيا لأحرقت الأرض وما عليها. وقال سعيد بن جبير: هو الحجارة، وقاله عكرمة. والأظهر أنه شجر ذو شوك حسب ما هو في الدنيا. وعن ابن عباس عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (الضريع: شي يكون في النار، يشبه الشوك، أشد مرارة من الصبر، وأنتن من الجيفة، وأحر من النار، سماه الله ضريعا (. وقال خالد بن زياد: سمعت المتوكل بن حمدان يسأل عن هذه الآية لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ قال: بلغني أن الضريع شجرة من نار جهنم، حملها القيح والدم، أشد مرارة من الصبر، فذلك طعامهم. وقال الحسن: هو بعض ما أخفاه الله من العذاب. وقال ابن كيسان: هو طعام يضرعون عنده ويذلون، ويتضرعون منه إلى الله تعالى، طلبا للخلاص منه، فسمي بذلك، لان آكله يضرع في أن يعفى منه، لكراهته وخشونته. قال أبو جعفر النحاس: قد يكون مشتقا من الضارع، وهو الذليل، أي ذو ضراعة، أي من شربه ذليل تلحقه ضراعة. وعن الحسن أيضا: هو الزقوم. وقيل: هو واد في جهنم. فالله أعلم. وقد قال الله تعالى في موضع
__________
(1). لم نعثر على هذا البيت في ديوان أبي ذؤيب.
(2). في بعض نسخ الأصل: (بان عنه النحائص). والنحائص: جمع النحوص (بفتح النون)، وهي الأتان الوحشية الحائل. وقيل: هي التي في بطنها ولد. وقيل: التي لا لبن لها.
(3). هو قيس بن عيزارة، كما في اللسان.
(4). هزم الضريع: ما تكسر منه. والحدباء: الناقة التي بدت حراقفها، وعظم ظهرها. والحرود: التي لا تكاد تدر.

آخر: فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ. وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ «1» [الحاقة: 36- 35]. وقال هنا: إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ وهو غير الغسلين. ووجه الجمع أن النار دركات، فمنهم من طعامه الزقوم، ومنهم من طعامه الغسلين، ومنهم من طعامه الضريع، ومنهم من شرابه الحميم، ومنهم من شرابه الصديد. قال الكلبي: الضريع في درجة ليس فيها غيره، والزقوم في درجة أخرى. ويجوز أن تحمل الآيتان على حالتين كما قال: يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ «2» [الرحمن: 44]. القتبي: ويجوز أن يكون الضريع وشجرة الزقوم نبتين من النار، أو من جوهر لا تأكله النار. وكذلك سلاسل النار وأغلالها وعقاربها وحياتها، ولو كانت على ما نعلم ما بقيت على النار. قال: وإنما دلنا الله على الغائب عنده، بالحاضر عندنا، فالأسماء متفقة الدلالة، والمعاني مختلفة. وكذلك ما في الجنة من شجرها وفرشها. القشيري: وأمثل من قول القتبي أن نقول: إن الذي يبقى الكافرين في النار ليدوم عليهم العذاب، يبقي النبات وشجرة الزقوم في النار، ليعذب بها الكفار. وزعم بعضهم أن الضريع بعينه لا ينبت في النار، ولا أنهم يأكلونه. فالضريع من أقوات الانعام، لا من أقوات الناس. وإذا وقعت الإبل فيه لم تشبع، وهلكت هزلا، فأراد أن هؤلاء يقتاتون بما لا يشبعهم، وضرب الضريع له مثلا، أنهم يعذبون بالجوع كما يعذب من قوته الضريع. قال الترمذي الحكيم: وهذا نظر سقيم من أهله وتأويل دنئ، كأنه يدل على أنهم تحيروا في قدرة الله تعالى، وأن الذي أنبت في هذا التراب هذا الضريع قادر على أن ينبته في حريق النار، جعل لنا في الدنيا من الشجر الأخضر نارا، فلا النار تحرق الشجر، ولا رطوبة الماء في الشجر تطفئ النار، فقال تعالى: الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ «3» [يس: 80]. وكما قيل حين نزلت وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ «4» [الاسراء: 97]: قالوا يا رسول الله، كيف يمشون على وجوههم؟ فقال: [الذي
__________
(1). آية 35 و36 سورة الحاقة.
(2). آية 55 سورة الرحمن.
(3). آية 80 سورة يس.
(4). آية 97 سورة الاسراء.

لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10)

أمشاهم على أرجلهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم [. فلا يتحير في مثل هذا إلا ضعيف القلب. أو ليس قد أخبرنا أنه كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً «1» غَيْرَها [النساء: 56]، وقال: سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ «2» [إبراهيم: 50]، وقال: إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالًا «3» [المزمل: 12] أي قيودا. وَجَحِيماً (12) وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ (13) قيل: ذا شوك. فإنما يتلون عليهم العذاب بهذه الأشياء.

[سورة الغاشية (88): آية 7]
لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7)
يعني الضريع لا يسمن آكله. وكيف يسمن من يأكل الشوك! قال المفسرون: لما نزلت هذه الآية قال المشركون: إن إبلنا لتسمن بالضريع، فنزلت: لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ. وكذبوا، فإن الإبل إنما ترعاه رطبا، فإذا يبس لم تأكله. وقيل اشتبه عليهم أمره فظنوه كغيره من النبت النافع، لان المضارعة المشابهة. فوجدوه لا يسمن «4» ولا يغني من جوع.

[سورة الغاشية (88): الآيات 8 الى 10]
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ (8) لِسَعْيِها راضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (10)
قوله تعالى: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ) أي ذات نعمة. وهي وجوه المؤمنين، نعمت بما عاينت من عاقبة أمرها وعملها الصالح. لِسَعْيِها أي لعملها الذي عملته في الدنيا. راضِيَةٌ في الآخرة حين أعطيت الجنة بعملها. ومجازه: لثواب سعيها راضية. وفيها واو مضمرة. المعنى: ووجوه يومئذ، للفصل بينها وبين الوجوه المتقدمة. والوجوه عبارة عن الأنفس. (فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ) أي مرتفعة، لأنها فوق السموات حسب ما تقدم. وقيل: عالية القدر، لان فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين. وهم فيها خالدون.
__________
(1). آية 56 سورة النساء. [.....]
(2). آية 50 سورة ابراهيم.
(3). آية 2 سورة المزمل.
(4). في بعض النسخ: (لا يشبه).

لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (11) فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12) فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16)

[سورة الغاشية (88): آية 11]
لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً (11)
قوله تعالى: لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً (11) أي كلاما ساقطا غير مرضي. وقال: لاغِيَةً، واللغو واللغا واللاغية: بمعنى واحد. قال:
عن اللغا ورفث التكلم «1»

وقال الفراء والأخفش أي لا تسمع فيها كلمة لغو. وفي المراد بها ستة أوجه: أحدها: يعني كذبا وبهتانا وكفرا بالله عز وجل، قاله ابن عباس. الثاني: لا باطل ولا إثم، قاله قتادة. الثالث: أنه الشتم، قاله مجاهد. الرابع: المعصية، قاله الحسن. الخامس: لا يسمع فيها حالف يحلف بكذب، قاله الفراء. وقال الكلبي: لا يسمع في الجنة حالف بيمين برة ولا فاجرة. السادس: لا يسمع في كلامهم كلمة بلغو، لان أهل الجنة لا يتكلمون إلا بالحكمة وحمد الله على ما رزقهم من النعيم الدائم، قاله الفراء أيضا. وهو أحسنها لأنه يعم ما ذكر. وقرا أبو عمرو وابن كثير (لا يسمع) بياء غير مسمى الفاعل. وكذلك نافع، إلا أنه بالتاء المضمومة، لان اللاغية اسم مؤنث فأنث الفعل لتأنيثه. ومن قرأ بالياء فلانه حال بين الاسم والفعل الجار والمجرور. وقرا الباقون بالتاء مفتوحة لاغِيَةً نصا على إسناد ذلك للوجوه، أي لا تسمع الوجوه فيها لاغية.

[سورة الغاشية (88): الآيات 12 الى 16]
فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ (12) فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16)
قوله تعالى: (فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ) أي بماء مندفق، وأنواع الأشربة اللذيذة على وجه الأرض من غير أخدود. وقد تقدم في سورة" الإنسان" أن فيها عيونا «2». ف- عَيْنٌ: بمعنى عيون. والله أعلم. (فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ) أي عالية. وروي أنه كان ارتفاعها قدر ما بين
__________
(1). قبله:
ورب أسراب حجيج كظم

قائله رؤبة. ونسبه ابن برى للعجاج.
(2). راجع ج 19 ص 124، 104

أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17)

السماء والأرض، ليرى ولي الله ملكه حوله. (وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ) أي أباريق وأوان. والإبريق: هو ماله عروة وخرطوم. والكوب: إناء ليس له عروة ولا خرطوم. وقد تقدم هذا في سورة" الزخرف «1» وغيرها. وَنَمارِقُ أي وسائد، الواحدة نمرقة. مَصْفُوفَةٌ أي واحدة إلى جنب الأخرى. قال الشاعر:
وإنا لنجري الكأس بين شروبنا ... وبين أبي قابوس فوق النمارق
وقال آخر:
كهول وشبان حسان وجوههم ... على سرر مصفوفة ونمارق
وفي الصحاح: النمرق والنمرقة: وسادة صغيرة. وكذلك النمرقة (بالكسر) لغة حكاها يعقوب. وربما سموا الطنفسة التي فوق الرحل نمرقة، عن أبي عبيد. (وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ): قال أبو عبيدة: الزرابي: البسط. وقال ابن عباس: الزرابي: الطنافس التي لها خمل رقيق، واحدتها: زربية، وقال الكلبي والفراء. والمبثوثة: المبسوطة، قال قتادة. وقيل: بعضها فوق بعض، قاله عكرمة. وقيل كثيرة، قاله الفراء. وقيل: متفرقة في المجالس، قاله القتبي. قلت: هذا أصوب، فهي كثيرة متفرقة. ومنه وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ «2» [البقرة: 164]. وقال أبو بكر الأنباري: وحدثنا أحمد بن الحسين، قال حدثنا حسين بن عرفة، قال حدثنا عمار بن محمد، قال: صليت خلف منصور بن المعتمر، فقرأ: هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ، وقرا فيها: وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ: متكئين فيها ناعمين.

[سورة الغاشية (88): آية 17]
أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17)
قال المفسرون: لما ذكر الله عز وجل أمر أهل الدارين، تعجب الكفار من ذلك، فكذبوا وأنكروا، فذكرهم الله صنعته وقدرته، وأنه قادر على كل شي، كما خلق الحيوانات والسماء والأرض. ثم ذكر الإبل أولا، لأنها كثيرة في العرب، ولم يروا الفيلة، فنبههم جل
__________
(1). راجع ج 16 ص (113)
(2). آية 164 سورة البقرة.

ثناؤه على عظيم من خلقه، قد ذلله للصغير، يقوده وينيخه وينهضه ويحمل عليه الثقيل من الحمل وهو بارك، فينهض بثقيل حمله، وليس ذلك في شي من الحيوان غيره. فأراهم عظيما من خلقه، مسخرا لصغير من خلقه، يدلهم بذلك على توحيده وعظيم قدرته. وعن بعض الحكماء: أنه حدث عن البعير وبديع خلقه، وقد نشأ في بلاد لا إبل فيها، ففكر ثم قال: يوشك أن تكون طوال الأعناق. وحين أراد بها أن تكون سفائن البر، صبرها على احتمال العطش، حتى إن إظماءها ليرتفع إلى العشر فصاعدا، وجعلها ترعى كل شي نابت في البراري والمفاوز، مما لا يرعاه سائر البهائم. وقيل: لما ذكر السرر المرفوعة قالوا: كيف نصعدها؟ فأنزل الله هذه الآية، وبين أن الإبل تبرك حتى يحمل عليها ثم تقوم، فكذلك تلك السرر تتطامن ثم ترتفع. قال معناه قتادة ومقاتل وغيرهما. وقيل: الإبل هنا القطع العظيمة من السحاب، قاله المبرد. قال الثعلبي: وقيل في الإبل هنا: السحاب، ولم أجد لذلك أصلا في كتب الأئمة. قلت: قد ذكر الأصمعي أبو سعيد عبد الملك بن قريب، قال أبو عمرو: من قرأها أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ بالتخفيف: عنى به البعير، لأنه من ذوات الأربع، يبرك فتحمل عليه الحمولة، وغيره من ذوات الأربع لا يحمل عليه إلا وهو قائم. ومن قرأها بالتثقيل فقال: الْإِبِلِ «1»، عني بها السحاب التي تحمل الماء والمطر. وقال الماوردي: وفي الإبل وجهان: أحدهما: وهو أظهرهما وأشهرهما: أنها الإبل من النعم. الثاني: أنها السحاب. فإن كان المراد بها السحاب، فلما فيها من الآيات الدالة على قدرته، والمنافع العامة لجميع خلقه. وإن كان المراد بها الإبل من النعم، فلان الإبل أجمع للمنافع من سائر الحيوان، لان ضروبه أربعة: حلوبة، وركوبة، وأكولة، وحمولة. والإبل تجمع هذه الخلال الأربع، فكانت النعمة بها أعم، وظهور القدرة فيها أتم. وقال الحسن: إنما خصها الله بالذكر لأنها تأكل النوى والقت، وتخرج اللبن. وسيل الحسن أيضا عنها وقالوا: الفيل أعظم في الأعجوبة: فقال: العرب بعيدة العهد بالفيل، ثم هو خنزير لا يؤكل لحمه، ولا يركب ظهره، ولا يحلب
__________
(1). في البحر المحيط: (قرأ الجمهور بكسر الباء وتخفيف اللام. الأصمعي عن أبي عمرو وبإسكان الباء. وعلى وابن عباس بشد اللام، ورويت عن أبي عمرو وأبي جعفر والكسائي، وقالوا إنها السحاب (.)

وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20)

دره. وكان شريح يقول: اخرجوا بنا إلى الكناسة «1» حتى ننظر إلى الإبل كيف خلقت. والإبل: لا واحد لها من لفظها، وهي مؤنثة، لان أسماء الجموع التي لا واحد لها من لفظا، إذا كانت لغير الآدميين، فالتأنيث لها لازم، وإذا صغرتها دخلتها الهاء، فقلت: أبيلة وغنيمة، ونحو ذلك. وربما قالوا للإبل: إبل، بسكون الباء للتخفيف، والجمع: آبال.

[سورة الغاشية (88): الآيات 18 الى 20]
وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20)
قوله تعالى: (وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ) أي رفعت عن الأرض بلا عمد. وقيل: رفعت، فلا ينالها شي. (وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ) أي كيف نصبت على الأرض، بحيث لا تزول، وذلك أن الأرض لما دحيت مادت، فأرساها بالجبال. كما قال: وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ «2» [الأنبياء: 31]. (وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ) أي بسطت ومدت. وقال أنس: صليت خلف علي رضي الله عنه، فقرأ (كيف خلقت) و(رفعت) و(نصبت) و(سطحت)، بضم التاءات، أضاف الضمير إلى الله تعالى. وبه كان يقرأ محمد بن السميقع وأبو العالية، والمفعول محذوف، والمعنى خلقتها. وكذلك سائرها. وقرا الحسن وأبو حيوة وأبو رجاء: (سطحت) بتشديد الطاء وإسكان التاء. وكذلك قرأ الجماعة، إلا أنهم خففوا الطاء. وقدم الإبل في الذكر، ولو قدم غيرها لجاز. قال القشيري: وليس هذا مما يطلب فيه نوع حكمة. وقد قيل: هو أقرب إلى الناس في حق العرب، لكثرتها عندهم، وهم من أعرف الناس بها. وأيضا: مرافق الإبل أكثر من مرافق الحيوانات الأخر، فهي مأكولة، ولبنها مشروب، وتصلح للحمل والركوب، وقطع المسافات البعيدة عليها، والصبر على العطش، وقلة العلف، وكثرة الحمل، وهي معظم أموال العرب. وكانوا يسيرون على الإبل منفردين مستوحشين عن الناس، ومن هذا حاله تفكر فيما يحضره، فقد ينظر
__________
(1). الكناسة: سوق الكوفة ترد إليها الإبل بأحمال البضائع، أو تصدر عنها، وهي كالمربد للبصرة.
(2). آية 31 سورة الأنبياء.

فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)

في مركوبه، ثم يمد بصره إلى السماء ثم إلى الأرض. فأمروا بالنظر في هذه الأشياء، فإنها أدل دليل على الصانع المختار القادر.

[سورة الغاشية (88): الآيات 21 الى 26]
فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ (25)
ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ (26)
قوله تعالى: فَذَكِّرْ أي فعظهم يا محمد وخوفهم. إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ أي واعظ. (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) أي بمسلط عليهم فتقتلهم. ثم نسختها آية السيف. وقرا هارون الأعور (بمصيطر) (بفتح الطاء)، والْمُصَيْطِرُونَ «1» [الطور: 37]. وهي لغة تميم. وفي الصحاح:" المسيطر والمصيطر: المسلط على الشيء، ليشرف عليه، ويتعهد أحواله،. ويكتب عمله، وأصله من السطر، لان «2» من معنى السطر ألا يتجاوز، فالكتاب مسطر، والذي يفعله مسطر ومسيطر، يقال: سيطرت علينا، وقال تعالى: لست عليهم بمسيطر. وسطره أي صرعه. (إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ) استثناء منقطع، أي لكن من تولى عن الوعظ والتذكير. (فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ) وهي جهنم الدائم عذابها. وإنما قال: الْأَكْبَرَ لأنهم عذبوا في الدنيا بالجوع والقحط والأسر والقتل. ودليل هذا التأويل قراءة ابن مسعود: إلا من تولى وكفر فإنه يعذبه الله. وقيل: هو استثناء متصل. والمعنى: لست بمسلط إلا على من تولى وكفر، فأنت مسلط عليه بالجهاد، والله يعذبه بعد ذلك العذاب الأكبر، فلا نسخ في الآية على هذا التقدير. وروي أن عليا أتى برجل ارتد، فاستتابه ثلاثة أيام، فلم يعاود الإسلام، فضرب عنقه، وقرا إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ. وقرا ابن عباس وقتادة" ألا" على الاستفتاح والتنبيه، كقول امرئ القيس:
ألا رب يوم لك منهن صالح «3»
__________ (1). آية 37 سورة الطور. وقد أورده صاحب اللسان وشرحه.
(2). كذا في نسخ الأصل وتفسير ابن عادل نقلا عن القرطبي. والذي في الصحاح: (وأصله من السطر، لان الكتاب مسطر ...).
(3). تمامه:
ولا سيما يوم بدارة جلجل

وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2)

ومَنْ على هذا: للشرط. والجواب فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ والمبتدأ بعد الفاء مضمر، والتقدير: فهو يعذبه الله، لأنه لو أريد الجواب بالفعل الذي بعد الفاء لكان: إلا من تولى وكفر يعذبه الله. (إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ) أي رجوعهم بعد الموت. يقال: آب يئوب، أي رجع. قال عبيد:
وكل ذي غيبة يئوب ... وغائب الموت لا يئوب
وقرا أبو جعفر (إيابهم) بالتشديد. قال أبو حاتم: لا يجوز التشديد، ولو جاز لجاز مثله في الصيام والقيام. وقيل: هما لغتان بمعنى. الزمخشري: وقرا أبو جعفر المدني (إيابهم) بالتشديد، ووجهه أن يكون فيعالا: مصدر أيب، قيل من الإياب. أو أن يكون أصله أوابا فعالا من أوب، ثم قيل: إيوابا كديوان في دوان. ثم فعل ما فعل بأصل سيد ونحوه.

[تفسير سورة الفجر]
سورة" الفجر" مكية، وهي ثلاثون آية «1» بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الفجر (89): الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالْفَجْرِ (1) وَلَيالٍ عَشْرٍ (2)
قوله تعالى: (وَالْفَجْرِ) أقسم بالفجر. وَلَيالٍ عَشْرٍ. وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ. وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ أقسام خمسة. واختلف في الْفَجْرِ، فقال قوم: الفجر هنا: انفجار الظلمة عن النهار من كل يوم، قاله علي وابن الزبير وابن عباس رضي الله عنهم. وعن ابن عباس أيضا أنه النهار كله، وعبر عنه بالفجر لأنه أوله. وقال ابن محيصن عن عطية عن ابن عباس «2»: يعني الفجر يوم المحرم. ومثله قال قتادة. قال: هو فجر أول يوم من المحرم، منه تنفجر السنة.
__________
(1). في بعض نسخ الأصل:" سبع وعشرون" وفي بعضها:" تسع وعشرون". [.....]
(2). في بعض النسخ:" ابن مسعود".

وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3)

وعنه أيضا: صلاة الصبح. وروى ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال: وَالْفَجْرِ: يريد صبيحة يوم النحر، لان الله تعالى جل ثناؤه جعل لكل يوم ليلة قبله، إلا يوم النحر لم يجعل له ليلة قبله ولا ليلة بعده، لان يوم عرفة له ليلتان: ليلة قبله وليلة بعده، فمن أدرك الموقف ليلة بعد عرفة، فقد أدرك الحج إلى طلوع الفجر، فجر يوم النحر. وهذا قول مجاهد. وقال عكرمة: وَالْفَجْرِ قال: انشقاق الفجر من يوم جمع «1». وعن محمد بن كعب القرظي: وَالْفَجْرِ آخر أيام العشر، إذا دفعت من جمع. وقال الضحاك: فجر ذي الحجة، لان الله تعالى قرن الأيام به فقال: وَلَيالٍ عَشْرٍ أي ليال عشر من ذي الحجة. وكذا قال مجاهد والسدي والكلبي في قوله: وَلَيالٍ عَشْرٍ هو عشر ذي الحجة، وقال ابن عباس. وقال مسروق هي العشر التي ذكرها الله في قصة موسى عليه السلام وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ «2» [الأعراف: 142]، وهي أفضل أيام السنة. وروى أبو الزبير عن جابر أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: وَالْفَجْرِ. وَلَيالٍ عَشْرٍ- قال: [عشر الأضحى [فهي ليال عشر على هذا القول، لان ليلة يوم النحر داخلة فيه، إذ قد خصها الله بأن جعلها موقفا لمن لم يدرك الوقوف يوم عرفة. وإنما نكرت ولم تعرف لفضيلتها على غيرها «3»، فلو عرفت لم تستقبل بمعنى الفضيلة الذي في التنكير، فنكرت من بين ما أقسم به، للفضيلة التي ليست لغيرها. والله أعلم. وعن ابن عباس أيضا: هي العشر الأواخر من رمضان، وقاله الضحاك. وقال ابن عباس أيضا ويمان والطبري: هي العشر الأول من المحرم، التي عاشرها يوم عاشوراء. وعن ابن عباس (وليال عشر)»
(بالإضافة) يريد: وليالي أيام عشر «5».

[سورة الفجر (89): آية 3]
وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3)
الشَّفْعِ: الاثنان، وَالْوَتْرِ: الفرد. وأختلف في ذلك، فروي مرفوعا عن عمران بن الحصين عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: الشفع والوتر: الصلاة، منها شفع، ومنها وتر (.
__________
(1). جمع: هي مزدلفة.
(2). آية 142 سورة الأعراف.
(3). في الجمل عن القرطبي: لأنها أفضل أيام السنة.
(4). في تفسير الألوسي:" وقرا ابن عباس بالإضافة نضبطه بعضهم (وَلَيالٍ عَشْرٍ) بلام دون ياء، وبعضهم (وليالي) بالياء، وهو القياس.
(5). قال الامام محمد عبده في تفسيره: هي عشر الليالي في أول كل شهر.
(

وقال جابر بن عبد الله: قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (وَالْفَجْرِ وَلَيالٍ عَشْرٍ- قال: هو الصبح، وعشر النحر، والوتر يوم عرفة، والشفع: يوم النحر (. وهو قول ابن عباس وعكرمة. واختاره النحاس، وقال: حديث أبي الزبير عن جابر هو الذي صح عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو أصح إسنادا من حديث عمران بن حصين. فيوم عرفة وتر، لأنه تاسعها، ويوم النحر شفع لأنه عاشرها. وعن أبي أيوب قال: سئل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن قوله تعالى: وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ فقال: (الشَّفْعِ: يوم عرفة ويوم النحر، وَالْوَتْرِ ليلة يوم النحر). وقال مجاهد وابن عباس أيضا: الشَّفْعِ خلقه، قال الله تعالى: وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً «1» [النبأ: 8] وَالْوَتْرِ هو الله عز وجل. فقيل لمجاهد: أترويه عن أحد؟ قال: نعم، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ونحوه قال محمد بن سيرين ومسروق وأبو صالح وقتادة، قالوا: الشَّفْعِ: الخلق، قال الله تعالى: وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ «2» [الذاريات: 49]: الكفر والايمان.، والشقاوة والسعادة، والهدى والضلال، والنور والظلمة، والليل والنهار، والحر والبرد، والشمس والقمر، والصيف والشتاء، والسماء والأرض، والجن والانس. وَالْوَتْرِ: هو الله عز وجل، قال جل ثناؤه: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ. اللَّهُ الصَّمَدُ [الإخلاص: 2- 1]. وقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [إن لله تسعة وتسعين اسما، والله وتر يحب الوتر [. وعن ابن عباس أيضا: الشَّفْعِ: صلاة الصبح وَالْوَتْرِ: صلاة المغرب. وقال الربيع بن أنس وأبو العالية: هي صلاة المغرب، الشفع فيها ركعتان، والوتر الثالثة. وقال ابن الزبير: الشَّفْعِ: يوما منى: الحادي عشر، والثاني عشر. والثالث عشر الْوَتْرِ، قال الله تعالى: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ: وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ «3». وقال الضحاك: الشَّفْعِ: عشر ذي الحجة، وَالْوَتْرِ: أيام منى الثلاثة. وهو قول عطاء. وقيل: إن الشَّفْعِ وَالْوَتْرِ: آدم وحواء، لان آدم كان فردا فشفع بزوجته حواء، فصار شفعا بعد وتر. رواه ابن أبي نجيح، وحكاه القشيري عن ابن عباس. وفي رواية: الشَّفْعِ: آدم وحواء، وَالْوَتْرِ هو الله تعالى. وقيل: الشَّفْعِ وَالْوَتْرِ: الخلق، لأنهم شفع ووتر،
__________
(1). آية 8 سورة النبأ.
(2). آية 49 سورة الذاريات.
(3). آية 203 سورة البقرة.

فكأنه أقسم بالخلق. وقد يقسم الله تعالى بأسمائه وصفاته لعلمه، ويقسم بأفعاله لقدرته، كما قال تعالى: وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى «1» [الليل: 3]. ويقسم بمفعولاته، لعجائب صنعه، كما قال: وَالشَّمْسِ وَضُحاها، وَالسَّماءِ وَما بَناها [الشمس: 5]، وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ [الطارق: 1]. وقيل: الشفع: درجات الجنة، وهي ثمان. والوتر، دركات النار، لأنها سبعة. وهذا قول الحسين بن الفضل، كأنه أقسم بالجنة والنار. وقيل: الشفع: الصفا والمروة، والوتر: الكعبة. وقال مقاتل بن حيان: الشفع: الأيام والليالي، والوتر: اليوم الذي لا ليلة بعده، وهو يوم القيامة. وقال سفيان بن عيينة: الوتر: هو الله، وهو الشفع أيضا، لقوله تعالى: ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ «2» [المجادلة: 7]. وقال أبو بكر الوراق: الشفع: تضاد أوصاف المخلوقين: العز والذل، والقدرة والعجز، والقوة والضعف، والعلم والجهل، والحياة والموت، والبصر والعمى، والسمع والصمم، والكلام والخرس. والوتر: انفراد صفات الله تعالى: عز بلا ذل، وقدرة بلا عجز، وقوه بلا ضعف، وعلم بلا جهل، وحياة بلا موت، وبصر بلا عمى، وكلام بلا خرس، وسمع بلا صمم، وما وازاها. وقال الحسن: المراد بالشفع والوتر: العدد كله، لان العدد لا يخلو عنهما، وهو إقسام بالحساب. وقيل: الشفع: مسجدي مكة والمدينة، وهما الحرمان. والوتر: مسجد بيت المقدس. وقيل: الشفع: القرن بين الحج والعمرة، أو التمتع بالعمرة إلى الحج. والوتر: الافراد فيه. وقيل: الشفع: الحيوان، لأنه ذكر وأنثى. والوتر: الجماد. وقيل: الشفع: ما ينمي، والوتر: ما لا ينمي. وقيل غير هذا. وقرا ابن مسعود وأصحابه والكسائي وحمزة وخلف (والوتر) بكسر الواو. والباقون [بفتح الواو]، وهما لغتان بمعنى واحد. وفي الصحاح: الوتر (بالكسر): الفرد، والوتر [بفتح الواو]: «3» الذحل. هذه لغة أهل العالية. فأما لغة أهل الحجاز فبالضد منهم. فأما تميم فبالكسر فيهما.
__________
(1). آية 3 سورة الليل.
(2). آية 7 سورة المجادلة.
(3). الذحل: الحقد والعداوة.

وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5)

[سورة الفجر (89): الآيات 4 الى 5]
وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5)
قوله تعالى: (وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ) وهذا قسم خامس. وبعد ما أقسم بالليالي العشر على الخصوص، أقسم بالليل على العموم. ومعنى يَسْرِ أي يسرى فيه، كما يقال: ليل نائم، ونهار صائم. قال:
لقد لمتنا يا أم غيلان في السرى ... ونمت وما ليل المطي «1» بنائم
ومنه قوله تعالى: بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ «2» [سبأ: 33]. وهذا قول أكثر أهل المعاني، وهو قول القتبي والأخفش. وقال أكثر المفسرين: معنى يَسْرِ: سار فذهب. وقال قتادة وأبو العالية: جاء وأقبل. وروي عن إبراهيم: وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ قال: إذا استوى. وقال عكرمة والكلبي ومجاهد ومحمد بن كعب في قوله: وَاللَّيْلِ: هي ليلة المزدلفة خاصة، لاختصاصها باجتماع الناس فيها لطاعة الله. وقيل: ليلة القدر، لسراية الرحمة فيها، واختصاصها بزيادة الثواب فيها. وقيل: إنه أراد عموم الليل كله. قلت: وهو الأظهر، كما تقدم. والله أعلم. وقرا ابن كثير وابن محيصن ويعقوب" يسري" بإثبات الياء في الحالين، على الأصل، لأنها ليست بمجزومة، فثبتت فيها الياء. وقرا نافع وأبو عمرو بإثباتها في الوصل، وبحذفها في الوقف، وروي عن الكسائي. قال أبو عبيد: كان الكسائي يقول مرة بإثبات الياء في الوصل، وبحذفها في الوقف، اتباعا للمصحف. ثم رجع إلى حذف الياء في الحالين جميعا، لأنه رأس آية، وهي قراءة أهل الشام والكوفة، واختيار أبي عبيد، اتباعا للخط، لأنها وقعت في المصحف بغير ياء. قال الخليل: تسقط الياء منها اتفاقا لرءوس الآي. قال الفراء: قد تحذف العرب الياء، وتكتفي بكسر ما قبلها. وأنشد بعضهم:
كفاك كف ما تليق درهما ... جودا وأخرى تعط بالسيف الدما «3»
__________
(1). هذا البيت من قصيدة لجرير يرد بها على الفرزدق.
(2). آية 33 سورة سبأ. [.....]
(3). البيت في (اللسان: لپق) غير منسوب لقائله. وفي تفسير الطبري (طبعه الحلبي 116/ 12).

يقال: فلان ما يليق درهما من جوده، أي ما يمسكه، ولا يلصق به. وقال المؤرج: سألت الأخفش عن العلة في إسقاط الياء من يَسْرِ فقال: لا أجيبك حتى تبيت على باب داري سنة، فبت على باب داره سنة، فقال: الليل لا يسري وإنما يسرى فيه، فهو مصروف، وكل ما صرفته عن جهته بخسته من إعرابه، ألا ترى إلى قوله تعالى: وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا «1» [مريم: 28]، ولم يقل بغية، لأنه صرفها عن باغية. الزمخشري: وياء" يسري" تحذف في الدرج، اكتفاء عنها بالكسرة، وأما في الوقف فتحذف مع الكسرة. وهذه الأسماء كلها مجرورة بالقسم، والجواب محذوف، وهو ليعذبن، يدل عليه قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ- إلى قوله تعالى- فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ [الفجر: 13- 6]. وقال ابن الأنباري هو إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ [الفجر: 14]. وقال مقاتل: هَلْ هنا في موضع إن، تقديره: إن في ذلك قسما لذي حجر. ف هَلْ على هذا، في موضع جواب القسم. وقيل: هي على بابها من الاستفهام الذي معناه التقرير، كقولك: ألم أنعم عليك، إذا كنت قد أنعمت. وقيل: المراد بذلك التأكيد لما أقسم به وأقسم عليه. والمعنى: بل في ذلك مقنع لذي حجر. والجواب على هذا: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ [الفجر: 14]. أو مضمر محذوف. ومعنى (لذي حجر) أي لذي لب وعقل. قال الشاعر:
وكيف يرجى أن تتوب وإنما ... يرجى من الفتيان من كان ذا حجر
كذا قال عامة المفسرين، إلا أن أبا مالك قال: لِذِي حِجْرٍ: لذي ستر من الناس. وقال الحسن: لذي حلم. قال الفراء: الكل يرجع إلى معنى واحد: لذي حجر، ولذي عقل، ولذي حلم، ولذي ستر، الكل بمعنى العقل. واصل الحجر: المنع. يقال لمن ملك نفسه ومنعها: إنه لذو حجر، ومنه سمي الحجر، لامتناعه بصلابته: ومنه حجر الحاكم على فلان، أي منعه وضبطه عن التصرف، ولذلك سميت الحجرة حجرة، لامتناع ما فيها بها. وقال الفراء: العرب تقول: إنه لذو حجر: إذا كان قاهرا لنفسه، ضابطا لها، كأنه أخذ من حجرت على الرجل.
__________
(1). آية 28 سورة مريم.

أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7)

[سورة الفجر (89): الآيات 6 الى 7]
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ (6) إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ (7)
قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ) أي مالكك وخالقك. بِعادٍ. إِرَمَ قراءة العامة" بعاد" منونا. وقرا الحسن وأبو العالية (بعاد إرم) مضافا. فمن لم يضف جعل إِرَمَ اسمه، ولم يصرفه، لأنه جعل عادا اسم أبيهم، وارم اسم القبيلة، وجعله بدلا منه، أو عطف بيان. ومن قرأه بالإضافة ولم يصرفه جعله اسم أمهم، أو اسم بلدتهم. وتقديره: بعاد أهل إرم. كقوله: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف: 82] ولم تنصرف- قبيلة كانت أو أرضا- للتعريف والتأنيث. وقراءة العامة إِرَمَ بكسر الهمزة. وعن الحسن أيضا (بعاد إرم) مفتوحتين، وقرى (بعاد إرم) بسكون الراء، على التخفيف، كما قرئ (بورقكم). وقرى بِعادٍ إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ بإضافة إِرَمَ- إلى- ذاتِ الْعِمادِ. والإرم: العلم. أي بعاد أهل ذات العلم. وقرى بِعادٍ إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ أي جعل الله ذات العماد رميما. وقرا مجاهد والضحاك وقتادة (أرم) بفتح الهمزة. قال مجاهد: من قرأ بفتح الهمزة شبههم بالآرام، التي هي الاعلام، واحدها: أرم. وفي الكلام تقديم وتأخير، أي والفجر وكذا وكذا إن ربك لبالمرصاد ألم تر. أي ألم ينته علمك إلى ما فعل ربك بعاد. وهذه الرؤية رؤية القلب، والخطاب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والمراد عام. وكان أمر عاد وثمود عندهم مشهورا، إذ كانوا في بلاد العرب، وحجر ثمود موجود اليوم. وأمر فرعون كانوا يسمعونه من جيرانهم من أهل الكتاب، واستفاضت به الاخبار، وبلاد فرعون متصلة بأرض العرب. وقد تقدم هذا المعنى في سورة" البروج «1» وغيرها بِعادٍ أي بقوم عاد. فروى شهر بن حوشب عن أبي هريرة قال: إن كان الرجل من قوم عاد ليتخذ المصراع من حجارة، ولو اجتمع عليه خمسمائة من هذه الامة لم يستطيعوا أن يقلوه، وإن كان أحدهم ليدخل قدمه في الأرض فتدخل فيها. وإِرَمَ: قيل هو سام بن نوح، قاله ابن إسحاق. وروى عطاء عن ابن عباس- وحكى عن ابن إسحاق
__________
(1). راجع ج 19 ص 295

أيضا- قال: عاد بن إرم. فإرم على هذا أبو عاد، وعاد بن إرم بن عوص بن سام بن نوح. وعلى القول الأول: هو اسم جد عاد. قال ابن إسحاق: كان سام بن نوح له أولاد، منهم إرم بن سام، وارفخشذ بن سام. فمن ولد إرم بن سام العمالقة والفراعنة والجبابرة والملوك الطغاة والعصاة. وقال مجاهد: إِرَمَ أمة من الأمم. وعنه أيضا: أن معنى إرم: القديمة، ورواه ابن أبي نجيح. وعن مجاهد أيضا أن معناها القوية «1». وقال قتادة: هي قبيلة من عاد. وقيل: هما عادان. فالأولى هي إرم، قال الله عز وجل: وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى «2» [النجم: 50]. فقيل لعقب عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح: عاد، كما يقال لبني هاشم: هاشم. ثم قيل للأولين منهم: عاد الاولى، وارم: تسمية لهم باسم جدهم. ولمن بعدهم: عاد الأخيرة. قال ابن الرقيات:
مجدا تليدا بناه أولهم ... أدرك عادا وقبله إرما
وقال معمر: إِرَمَ: إليه مجمع عاد وثمود. وكان يقال: عاد إرم، وعاد ثمود. وكانت القبائل تنتسب إلى إرم. ذاتِ الْعِمادِ، الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ قال ابن عباس في رواية عطاء: كان الرجل منهم طوله خمسمائة ذراع، والقصير منهم طوله ثلاثمائة ذراع بذراع نفسه. وروي عن ابن عباس أيضا أن طول الرجل منهم كان سبعين ذراعا. ابن العربي: وهو باطل، لان في الصحيح:" إن الله خلق آدم طوله ستون ذراعا في الهواء، فلم يزل الخلق ينقص إلى الآن [. وزعم قتادة: أن طول الرجل منهم اثنا عشر ذراعا. قال أبو عبيدة: ذاتِ الْعِمادِ ذات الطول. يقال: رجل معمد إذا كان طويلا. ونحوه عن ابن عباس ومجاهد. وعن قتادة أيضا: كانوا عمادا لقومهم، يقال: فلان عميد القوم وعمودهم: أي سيدهم. وعنه أيضا: قيل لهم ذلك، لأنهم كانوا ينتقلون بأبياتهم للانتجاع، وكانوا أهل خيام وأعمدة، ينتجعون الغيوث، ويطلبون الكلا، ثم يرجعون إلى منازلهم. وقيل: ذاتِ الْعِمادِ أي ذات الأبنية المرفوعة على العمد. وكانوا ينصبون الأعمدة، فيبنون عليها القصور. قال ابن زيد:
__________
(1). في بعض النسخ: (القرية).
(2). آية 50 سورة النجم.

الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8)

ذاتِ الْعِمادِ يعني إحكام البنيان بالعمد. وفي الصحاح: والعماد: الأبنية الرفيعة، تذكر وتؤنث. قال عمرو بن كلثوم:
ونحن إذا عماد الحي خرت ... على الاحفاض نمنع من يلينا
والواحدة عمادة. وفلان طويل العماد: إذا كان منزله معلما لزائره. والاحفاض: جمع حفض (بالتحريك) وهو متاع البيت إذا هيئ ليحمل، أي خرت على المتاع. ويروى، عن" الاحفاض" أي خرت عن الإبل التي تحمل خرثي «1» البيت. وقال الضحاك: ذاتِ الْعِمادِ ذات القوة والشدة، مأخوذ من قوة الأعمدة، دليله قوله تعالى: وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً «2» [فصلت: 15]. وروى عوف عن خالد الربعي إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ قال: هي دمشق. وهو قول عكرمة وسعيد المقبري. رواه ابن وهب وأشهب عن مالك. وقال محمد بن كعب القرظي: هي الإسكندرية.

[سورة الفجر (89): آية 8]
الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ (8)
لضمير في مِثْلُها يرجع إلى القبيلة. أي لم يخلق مثل القبيلة في البلاد: قوة وشدة، وعظم أجساد، وطول قامة، عن الحسن وغيره. وفي حرف عبد الله التي لم يخلق مثلهم في البلاد. وقيل: يرجع للمدينة. والأول أظهر، وعليه الأكثر، حسب ما ذكرناه. ومن جعل إِرَمَ مدينة قدر حذفا، المعنى: كيف فعل ربك بمدينة عاد إرم، أو بعد صاحبه إرم. وارم على هذا: مؤنثة معرفة. واختار ابن العربي أنها دمشق، لأنه ليس في البلاد مثلها. ثم أخذ ينعتها بكثرة مياهها وخيراتها. ثم قال: وإن في الإسكندرية لعجائب، لو لم يكن إلا المنارة، فإنها مبنية الظاهر والباطن على العمد، ولكن لها أمثال، فأما دمشق فلا مثل لها. وقد روى معن عن مالك أن كتابا وجد بالإسكندرية، فلم يدر ما هو؟ فإذا فيه: أنا شداد ابن عاد، الذي رفع العماد، بنيتها حين لا شيب ولا موت. قال مالك: إن كان لتمر بهم
__________ (1). الخرثي ككرسي: سقط متاع البيت وأثاثه (أردؤه).
(2). آية 15 سورة فصلت.

وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9)

مائة سنة لا يرون فيها جنازة. وذكر عن ثور بن زيد «1» أنه قال: أنا شداد بن عاد، وأنا رفعت العماد، وأنا الذي شددت بذراعي بطن الواد، وأنا الذي كنزت كنزا على سبعة أذرع، لا يخرجه إلا أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وروي أنه كان لعاد ابنان: شداد وشديد، فملكا وقهرا، ثم مات شديد، وخلص الامر لشداد فملك الدنيا، ودانت له ملوكها، فسمع بذكر الجنة، فقال: أبنى مثلها. فبنى إرم في بعض صحاري عدن، في ثلاثمائة سنة، وكان عمره تسعمائة سنة. وهي مدينة عظيمة، قصورها من الذهب والفضة، وأساطينها «2» من الزبرجد والياقوت، وفيها أصناف الأشجار والأنهار المطردة «3». ولما تم بناؤها سار إليها بأهل مملكته، فلما كان منها على مسيرة يوم وليلة، بعث الله عليهم صيحة من السماء فهلكوا. وعن عبد الله بن قلابة: أنه خرج في طلب إبل له، فوقع عليها، فحمل ما قدر عليه مما ثم، وبلغ خبره معاوية فاستحضره، فقص عليه، فبعث إلى كعب «4» فسأله، فقال: هي إرم ذات العماد، وسيدخلها رجل من المسلمين في زمانك، أحمر أشقر قصير، على حاجبه خال، وعلى عقبه خال، يخرج في طلب إبل له، ثم التفت فأبصر ابن قلابة، وقال: هذا والله ذلك الرجل. وقيل: أي لم يخلق مثل أبنية عاد المعروفة بالعمد. فالكناية للعماد. والعماد على هذا: جمع عمد. وقيل: الأرم: الهلاك، يقال: أرم بنو فلان: أي هلكوا «5»، وقاله ابن عباس. وقرا الضحاك: إِرَمَ «6» ذاتِ الْعِمادِ، أي أهلكهم، فجعلهم رميما «7».

[سورة الفجر (89): آية 9]
وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ (9)
ثمود: هم قوم صالح. وجابُوا: قطعوا. ومنه: فلان يجوب البلاد، أي يقطعها. وإنما سمي جيب القميص لأنه جيب، أي قطع. قال الشاعر وكان قد نزل على ابن الزبير بمكة، فكتب له بستين وسقا يأخذها بالكوفة. فقال:
__________
(1). في الأصول:" يزيد" وهو تحريف.
(2). الأساطين: جمع الأسطوانة، وهي العمود والسارية.
(3). أي الجارية.
(4). يريد: كعبا الحبر: عالم أهل الكتاب.
(5). حكاه الطبري.
(6). كذا بفتح الهمزة والراء. حكاه الشوكاني في فتح القدير
(7). (432/ 5) قوله (جعلهم رميما) بيان للمعنى، وليس تفسيرا للاشتقاق. [.....]

وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13)

راحت رواحا قلوصي وهي حامد ... آل الزبير ولم تعدل بهم أحدا
راحت بستين وسقا في حقيبتها ... ما حملت حملها الأدنى ولا السددا
ما إن رأيت قلوصا قبلها حملت ... ستين وسقا ولا جابت به بلدا
أي قطعت. قال المفسرون: أول من نحت الجبال والصور والرخام: ثمود. فبنوا من المدائن ألفا وسبعمائة مدينة كلها من الحجارة. ومن الدور والمنازل ألفي ألف وسبعمائة ألف، كلها من الحجارة. وقد قال تعالى: وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ «1» [الحجر: 82]. وكانوا لقوتهم يخرجون الصخور، وينقبون الجبال، ويجعلونها بيوتا لأنفسهم." بالوادي" أي بوادي القرى، قاله محمد بن إسحاق. وروى أبو الأشهب عن أبي نضرة قال: أتى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غزاة تبوك على واد ثمود، وهو على فرس أشقر، فقال: [أسرعوا السير، فإنكم في واد ملعون ]. وقيل: الوادي بين جبال، وكانوا ينقبون في تلك الجبال بيوتا ودورا وأحواضا. وكل منفرج بين جبال أو تلال يكون مسلكا للسيل ومنفذا فهو واد.

[سورة الفجر (89): آية 10]
وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ (10)
أي الجنود والعساكر والجموع والجيوش التي تشد ملكه، قاله ابن عباس. وقيل: كان يعذب الناس بالأوتاد، ويشدهم بها إلى أن يموتوا، تجبرا منه وعتوا. وهكذا فعل بامرأته آسية وماشطة ابنته، حسب ما تقدم في آخر سورة" التحريم" «2». وقال عبد الرحمن بن زيد: كانت له صخرة ترفع بالبكرات، ثم يؤخذ الإنسان فتوتد له أوتاد الحديد، ثم يرسل تلك الصخرة عليه فتشدخه. وقد مضى في سورة" ص" «3» من ذكر أوتاده ما فيه كفاية. والحمد لله.

[سورة الفجر (89): الآيات 11 الى 13]
الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ (13)
__________ (1). آية 82 سورة الحجر.
(2). راجع ج 18 ص (202)
(3). راجع ج 15 ص 154

قوله تعالى: (الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ) يعني عادا وثمودا «1» وفرعون طَغَوْا أي تمردوا وعتوا وتجاوزوا القدر في الظلم والعدوان. (فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ) أي الجور والأذى. والَّذِينَ طَغَوْا أحسن الوجوه فيه أن يكون في محل النصب على الذم. ويجوز أن يكون مرفوعا على: هم الذين طغوا، أو مجرورا على وصف المذكورين: عاد، وثمود، وفرعون. (فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ) أي أفرغ عليهم وألقى، يقال: صب على فلان خلعة، أي ألقاها عليه. وقال النابغة:
فصب «2» عليه الله أحسن صنعه ... وكان له بين البرية ناصرا
(سَوْطَ عَذابٍ) أي نصيب عذاب. ويقال: شدته، لان السوط كان عندهم نهاية ما يعذب به. قال الشاعر:
ألم تر أن الله أظهر دينه ... وصب على الكفار سوط عذاب
وقال الفراء: وهي كلمة تقولها العرب لكل نوع من أنواع العذاب. واصل ذلك أن السوط هو عذابهم الذي يعذبون به، فجرى لكل عذاب، إذ كان فيه عندهم غاية العذاب. وقيل. معناه عذاب يخالط اللحم والدم، من قولهم: ساطه يسوطه سوطا أي خلطه، فهو سائط. فالسوط: خلط الشيء بعضه ببعض، ومنه سمي المسواط. وساطة «3» أي خلطه، فهو سائط، وأكثر ذلك يقال: سوط فلان أموره. قال:
فسطها ذميم الرأي غير موفق ... فلست على تسويطها بمعان
قال أبو زيد: يقال أموالهم سويطة بينهم، أي مختلطة. حكاه عنه يعقوب. وقال الزجاج: أي جعل سوطهم الذي ضربهم به العذاب. يقال: ساط دابته يسوطها، أي ضربها
__________
(1). اختلف في (ثمود) فمنهم من صرفه ومنهم من لم يصرفه، فمن صرفه ذهب به إلى الحي لأنه اسم عربي مذكر سمى بمذكر. ومن لم يصرفه ذهب به إلى القبيلة وهي مؤنثة.
(2). الرواية في البيت كما في ديوانه وشعراء النصرانية:
ورب عليه الله ...

إلخ قال البطليوسي شارح الديوان: ربه أتمه. وأصله أن يقال: رببت معروفي عند فلان أربه ربا: إذا أدمته عليه وتممته لديه. و(رب عليه): دعاء معطوف على ما قبله. وهو مدح في النعمان. وعلى هذه الرواية لا شاهد في البيت.
(3). في الأصل: (سوطه) بصيغة المصدر. وصيغة الفعل الثلاثي الماضي أمكن هنا.

إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14)

بسوطه. وعن عمرو بن عبيد: كان الحسن إذا أتى على هذه الآية قال: إن عند الله أسواطا كثيرة، فأخذهم بسوط منها. وقال قتادة: كل شي عذب الله تعالى به فهو سوط عذاب.

[سورة الفجر (89): آية 14]
إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ (14)
أي يرصد عمل كل إنسان حتى يجازيه به، قاله الحسن وعكرمة. وقيل: أي على طريق العباد لا يفوته أحد. والمرصد والمرصاد: الطريق. وقد مضى في سورة" براءة" «1» والحمد لله. فروى الضحاك عن ابن عباس قال: إن على جهنم سبع قناطر، يسأل الإنسان عند أول قنطرة عن الايمان، فإن جاء به تاما جاز إلى القنطرة الثانية، ثم يسأل عن الصلاة، فإن جاء بها جاز إلى الثالثة، ثم يسأل عن الزكاة، فإن جاء بها جاز إلى الرابعة. ثم يسأل عن صيام شهر رمضان، فإن جاء به جاز إلى الخامسة. ثم يسأل عن الحج والعمرة، فإن جاء بهما جاز إلى السادسة. ثم يسأل عن صلة الرحم، فإن جاء بها جاز إلى السابعة. ثم يسأل عن المظالم، وينادي مناد: ألا من كانت له مظلمة فليأت، فيقتص للناس منه، يقتص له من الناس، فذلك قوله عز وجل: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ. وقال الثوري: لَبِالْمِرْصادِ يعني جهنم، عليها ثلاث قناطر: قنطرة فيها الرحم، وقنطرة فيها الأمانة، وقنطرة فيها الرب تبارك وتعالى. قلت: أي حكمته وإرادته وأمره. والله أعلم. وعن ابن عباس، أيضا لَبِالْمِرْصادِ أي يسمع ويرى. قلت: هذا قول حسن، (يسمع) أقوالهم ونجواهم، و(يرى) أي يعلم أعمالهم وأسرارهم، فيجازي كلا بعمله. وعن بعض العرب أنه قيل له: أين ربك؟ فقال: بالمرصاد. وعن عمرو بن عبيد أنه قرأ هذه السورة عند المنصور حتى بلغ هذه الآية، فقال: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ يا أبا جعفر! قال الزمخشري: عرض له في هذا النداء، بأنه بعض من
__________
(1). راجع ج 8 ص 73

فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16)

توعد بذلك من الجبابرة، فلله دره. أي أسد فراس كان بين يديه؟ «1» يدق الظلمة بإنكاره، ويقمع أهل الاهواء والبدع باحتجاجه!

[سورة الفجر (89): الآيات 15 الى 16]
فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ (16)
قوله تعالى: (فَأَمَّا الْإِنْسانُ) يعني الكافر. قال ابن عباس: يريد عتبة بن ربيعة وأبا حذيفة بن المغيرة. وقيل: أمية بن خلف. وقيل: أبي بن خلف. (إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ) أي امتحنه واختبره بالنعمة. وفَأَمَّا: زائدة صلة. (فَأَكْرَمَهُ) بالمال. (وَنَعَّمَهُ) بما أوسع عليه. (فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ) فيفرح بذلك ولا يحمده. (وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ) أي امتحنه بالفقر واختبره. (فَقَدَرَ) أي ضيق (عَلَيْهِ رِزْقَهُ) على مقدار البلغة. (فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ) أي أولاني هوانا. وهذه صفة الكافر الذي لا يؤمن بالبعث: وإنما الكرامة عنده والهوان بكثرة الحظ في الدنيا وقلته. فأما المؤمن فالكرامة عنده أن يكرمه الله بطاعته وتوفيقه، المؤدي إلى حظ الآخرة، وإن وسع عليه في الدنيا حمده وشكره. قلت: الآيتان صفة كل كافر. وكثير من المسلمين يظن أن ما أعطاه الله لكرامته وفضيلته عند الله، وربما يقول بجهله: لو لم أستحق هذا لم يعطينه الله. وكذا إن قتر عليه يظن أن ذلك لهوانه على الله. وقراءة العامة فَقَدَرَ مخففة الدال. وقرا ابن عامر مشددا، وهما لغتان. والاختيار التخفيف، لقوله: وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ»
[الطلاق: 7]. قال أبو عمرو: فَقَدَرَ أي قتر. و(قدر) مشددا: هو أن يعطيه ما يكفيه، ولو فعل به ذلك ما قال رَبِّي أَهانَنِ. وقرا أهل الحرمين وأبو عمرو (ربي) بفتح الياء في الموضعين. وأسكن الباقون. وأثبت البزي
__________
(1). في بعض الأصول والزمخشري:" ثوبيه".
(2). آية 7 سورة الطلاق.

كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20)

وابن محيصن ويعقوب الياء من أَكْرَمَنِ، وأَهانَنِ في الحالين، لأنها اسم فلا تحذف. وأثبتها المدنيون في الوصل دون الوقف اتباعا للمصحف. وخير أبو عمرو في إثباتها في الوصل أو حذفها، لأنها رأس آية، وحذفها في الوقف لخط المصحف. الباقون بحذفها، لأنها وقعت في الموضعين بغير ياء، والسنة ألا يخالف خط المصحف، لأنه إجماع الصحابة.

[سورة الفجر (89): الآيات 17 الى 20]
كَلاَّ بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا (20)
قوله تعالى: (كَلَّا) رد، أي ليس الامر كما يظن، فليس الغنى لفضله، ولا الفقر لهوانه، وإنما الفقر والغنى من تقديري وقضائي. وقال الفراء: كَلَّا في هذا الموضع بمعنى لم يكن ينبغي للعبد أن يكون هكذا، ولكن يحمد الله عز وجل على الغنى والفقر. وفي الحديث: (يقول الله عز وجل: كلا إني لا أكرم من أكرمت بكثرة الدنيا، ولا أهين من أهنت بقلتها، إنما أكرم من أكرمت بطاعتي، وأهين من أهنت بمعصيتي (. قوله تعالى: بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ إخبار عن ما كانوا يصنعونه من منع اليتيم الميراث، واكل ماله إسرافا وبدارا أن يكبروا. وقرا أبو عمرو ويعقوب يكرمون، ويحضون ويأكلون، ويحبون بالياء، لأنه تقدم ذكر الإنسان، والمراد به الجنس، فعبر عنه بلفظ الجمع. الباقون بالتاء في الاربعة، على الخطاب والمواجهة، كأنه قال لهم ذلك تقريعا وتوبيخا. وترك إكرام اليتيم بدفعه عن حقه، واكل ماله كما ذكرنا. قال مقاتل: نزلت في قدامة بن مظعون وكان يتيما في حجر أمية بن خلف. (وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) أي لا يأمرون أهليهم بإطعام مسكين يجيئهم. وقرا الكوفيون" ولا تحاضون" بفتح التاء والحاء والألف. أي يحض بعضهم بعضا. وأصله تتحاضون، فحذف إحدى التاءين لدلالة الكلام عليها. وهو اختيار أبي عبيد. وروي عن إبراهيم والشيزري عن الكسائي والسلمى" تحاضون" بضم

التاء، وهو تفاعلون من الحض، وهو الحث. (وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ) أي ميراث اليتامى. وأصله الوراث من ورثت، فابدلوا الواو تاء، كما قالوا في تجاه وتخمة وتكأة وتؤدة ونحو ذلك. وقد تقدم. (أَكْلًا لَمًّا) أي شديدا، قاله السدي. قيل لَمًّا: جمعا، من قولهم: لممت الطعام لما إذا أكلته جمعا، قاله الحسن وأبو عبيدة. واصل اللم في كلام العرب: الجمع، يقال: لممت الشيء ألمه لما: إذا جمعته، ومنه يقال: لم الله شعثه، أي جمع ما تفرق من أموره. قال النابغة:
ولست بمستبق أخا لا تلمه ... على شعث أي الرجال المهذب
ومنه قولهم: إن دارك لمومة، أي تلم الناس وتربهم وتجمعهم. وقال المرناق «1» الطائي يمدح علقمة ابن سيف:
لأحبني حب الصبي ولمني «2» ... لم الهدي إلى الكريم الماجد
وقال الليث: اللم الجمع الشديد، ومنه حجر ملموم، وكتيبة ملمومة. فالآكل يلم الثريد، فيجمعه لقما ثم يأكله. وقال مجاهد: يسفه سفا: وقال الحسن: يأكل نصيبه ونصيب غيره. قال الحطيئة:
إذا كان لما يتبع الذم ربه ... فلا قدس الرحمن تلك الطواحنا
يعني أنهم يجمعون في أكلهم بين نصيبهم ونصيب غيرهم. وقال ابن زيد: هو أنه إذا أكل ماله ألم بمال غيره فأكله، ولا يفكر: أكل من خبيث أو طيب. قال: وكان أهل الشرك لا يورثون النساء ولا الصبيان، بل يأكلون ميراثهم مع ميراثهم، وتراثهم مع تراثهم. وقيل: يأكلون ما جمعه الميت من الظلم وهو عالم بذلك، فيلم في الأكل بين حرامه وحلاله. ويجوز
__________
(1). كذا في نسخ الأصل ومعجم الشعراء للمرزباني. قال المرزباني: (وأحسبه لقبا). وفي لسان العرب: (قال فدكي بن أعبد يمدح ...). وفي كتاب إشعار الحماسة: (وقال رجل من بهراء) واسمه فدكي يمدح ....
(2). في اللسان والحماسة ومعجم الشعراء: ورمني بالراء بدل (ولمني) باللام، وعلى هذا لا شاهد فيه. وقوله (ورمني): أي أصلح حالي وشأني. و(الهدى): العروس تهدي إلى زوجها: فإذا زفت تكلف أهلها في حسن تجهيزها، لئلا يعير أهل زوجها خللا وقع في أمرها.

كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21)

أن يذم الوارث الذي ظفر بالمال سهلا مهلا، من غير أن يعرق فيه جبينه، فيسرف في إنفاقه، ويأكله أكلا واسعا، جامعا بين المشتهيات من الأطعمة والأشربة والفواكه، كما يفعل الوراث البطالون. (وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا) أي كثيرا، حلاله وحرامه. والجم الكثير. يقال: جم الشيء يجم جموما، فهو جم وجام. ومنه جم الماء في الحوض: إذا اجتمع وكثر. وقال الشاعر: «1»
إن تغفر اللهم تغفر جما ... وأى عبد لك لا ألما
والجمة: المكان الذي يجتمع فيه ماؤه. والجموم: البئر الكثيرة الماء. والجموم (بالضم): المصدر، يقال: جم الماء يجم جموما: إذا كثر في البئر واجتمع، بعد ما استقي ما فيها.

[سورة الفجر (89): آية 21]
كَلاَّ إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21)
قوله تعالى: كَلَّا أي ما هكذا ينبغي أن يكون الامر. فهو رد لانكبابهم على الدنيا، وجمعهم لها، فإن من فعل ذلك يندم يوم تدك الأرض، ينفع الندم. والدك: الكسر والدق، وقد تقدم «2». أي زلزلت الأرض، وحركت تحريكا بعد تحريك. وقال الزجاج: أي زلزلت فدك بعضها بعضا. وقال المبرد: أي ألصقت وذهب ارتفاعها. يقال ناقة: دكاء، أي لا سنام لها، والجمع دك. وقد مضى في سورة" الأعراف" و" الحاقة" القول في هذا. ويقولون: دك الشيء أي هدم. قال:
هل غير غار «3» دك غارا فانهدم

دَكًّا دَكًّا أي مرة بعد مرة، زلزلت فكسر بعضها بعضا، فتكسر كل شي على ظهرها. وقيل: دكت جبالها وأنشازها حتى استوت. وقيل: دكت أي استوت في الانفراش، فذهب دورها وقصورها وجبالها وسائر أبنيتها. ومنه سمي الدكان، لاستوائه في الانفراش. والدك: حط المرتفع من الأرض بالبسط، وهو معنى قول ابن مسعود وابن عباس: تمد الأرض مد الأديم.
__________
(1). هو أبو خراش الهذلي.
(2). راجع ج 7 ص 278 وج 11 ص 63 وج 18 ص (264)
(3). الغار: الجمع الكثير من الناس. [.....]

وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23)

[سورة الفجر (89): الآيات 22 الى 23]
وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِي ءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى (23)
قوله تعالى: (وَجاءَ رَبُّكَ) أي أمره وقضاؤه، قاله الحسن. وهو من باب حذف المضاف. وقيل: أي جاءهم الرب بالآيات العظيمة، وهو كقوله تعالى: إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ «1» [البقرة: 210]، أي بظلل. وقيل: جعل مجيء الآيات مجيئا له، تفخيما لشأن تلك الآيات. ومنه قوله تعالى في الحديث: (يا بن آدم، مرضت فلم تعدني، واستسقيتك فلم تسقني، واستطعمتك فلم تطعمني). وقيل: وَجاءَ رَبُّكَ أي زالت الشبه ذلك اليوم، وصارت المعارف ضرورية، كما تزول الشبه والشك عند مجيء الشيء الذي كان يشك فيه. قال أهل الإشارة: ظهرت قدرته واستولت «2»، والله جل ثناؤه لا يوصف بالتحول من مكان إلى مكان، وأنى له التحول والانتقال، ولا مكان له ولا أوان، ولا يجري عليه وقت ولا زمان، لان في جريان الوقت على الشيء فوت الأوقات، ومن فاته شي فهو عاجز. قوله تعالى: (وَالْمَلَكُ) أي الملائكة. (صَفًّا صَفًّا) أي صفوفا. (وَجِي ءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ): قال ابن مسعود ومقاتل: تقاد جهنم بسبعين ألف زمام، كل زمام بيد سبعين ألف ملك، لها تغيظ وزفير، حتى تنصب عن يسار العرش. وفي صحيح، مسلم عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [يؤتى بجهنم يومئذ، لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها]. وقال أبو سعيد الخدري: لما نزلت وَجِي ءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ تغير لون رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعرف في وجهه. حتى اشتد على أصحابه، ثم قال: [أقرأني جبريل كَلَّا إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا- الآية- وجئ يومئذ بجهنم ]. قال علي رضي الله عنه: قلت يا رسول الله، كيف يجاء بها؟ قال: (تؤتى بها تقاد بسبعين ألف زمام، يقود بكل زمام سبعون ألف ملك، فتشرد شردة لو تركت لأحرقت أهل الجمع
__________ (1). آية 210 سورة البقرة.
(2). في بعض الأصول: (واستوت).

يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26)

ثم تعرض لي جهنم فتقول: ما لي ولك يا محمد، إن الله قد حرم لحمك علي) فلا يبقى أحد إلا قال نفسي نفسي! إلا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنه يقول: رب أمتي! رب أمتي! قوله تعالى: (يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ) أي يتعظ ويتوب. وهو الكافر، أو من همته معظم «1» الدنيا. (وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى ) أي ومن أين له الاتعاظ والتوبة وقد فرط فيها في الدنيا. ويقال: أي ومن أين له منفعة الذكرى. فلا بد من تقدير حذف المضاف، وإلا فبين يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ وبين وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى تناف، قاله الزمخشري.

[سورة الفجر (89): آية 24]
يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي (24)
أي في حياتي. فاللام بمعنى في. وقيل: أي قدمت عملا صالحا لحياتي، أي لحياة لا موت فيها. وقيل: حياة أهل النار ليست هنيئة، فكأنهم لا حياة لهم، فالمعنى: يا ليتني قدمت من الخير لنجاتي من النار، فأكون فيمن له حياة هنيئة.

[سورة الفجر (89): الآيات 25 الى 26]
فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ (25) وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ (26)
قوله تعالى: (فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ) أي لا يعذب كعذاب الله أحد، ولا يوثق كوثاقه أحد. والكناية ترجع إلى الله تعالى. وهو قول ابن عباس والحسن. وقرا الكسائي (لا يعذب) (ولا يوثق) بفتح الذال والثاء، أي لا يعذب أحد في الدنيا كعذاب الله الكافر يومئذ، ولا يوثق كما يوثق الكافر. والمراد إبليس، لان الدليل قام على أنه أشد الناس عذابا، لأجل أجرامه، فأطلق الكلام لأجل ما صحبه من التفسير. وقيل: إنه أمية ابن خلف، حكاه الفراء. يعني أنه لا يعذب كعذاب هذا الكافر المعين أحد، ولا يوثق بالسلاسل والاغلال كوثاقه أحد، لتناهيه في كفره وعناده. وقيل: أي لا يعذب مكانه
__________
(1). هكذا وردت في جميع نسخ الأصل. وفي تفسير ابن عادل:" ومن همته الدنيا".

يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)

أحد، فلا يؤخذ منه فداء. والعذاب بمعنى التعذيب، والوثاق بمعنى الايثاق. ومنه قول الشاعر:
وبعد عطائك المائة الرتاعا «1»

وقيل: لا يعذب أحد ليس بكافر عذاب الكافر. واختار أبو عبيد وأبو حاتم فتح الذال والثاء. وتكون الهاء ضمير الكافر، لان ذلك معروف: أنه لا يعذب أحد كعذاب الله. وقد روى أبو قلابة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قرأ بفتح الذال والثاء. وروي أن أبا عمرو رجع إلى قراءة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقال أبو علي: يجوز أن يكون الضمير للكافر على قراءة الجماعة، أي لا يعذب أحد أحدا مثل تعذيب هذا الكافر، فتكون الهاء للكافر. والمراد ب- أَحَدٌ الملائكة الذين يتولون تعذيب أهل النار.

[سورة الفجر (89): الآيات 27 الى 30]
يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)
قوله تعالى: (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ) لما ذكر حال من كانت همته الدنيا فاتهم الله في إغنائه، وإفقاره، ذكر حال من اطمأنت نفسه إلى الله تعالى. فسلم لأمره، واتكل عليه. وقيل: هو من قول الملائكة لأولياء الله عز وجل. والنفس المطمئنة: الساكنة الموقنة، أيقنت أن الله ربها، فأخبتت لذلك، قاله مجاهد وغيره. وقال ابن عباس: أي المطمئنة بثواب الله. وعنه المؤمنة. وقال الحسن: المؤمنة الموقنة. وعن مجاهد أيضا: الراضية بقضاء الله، التي علمت أن ما أخطأها لم يكن ليصيبها، وأن ما أصابها لم يكن ليخطئها. وقال مقاتل: الآمنة من عذاب الله. وفي حرف أبي بن كعب يا أيتها النفس الآمنة المطمئنة. وقيل: التي عملت على يقين بما وعد الله في كتابه. وقال ابن كيسان: المطمئنة هنا: المخلصة.
__________
(1). هذا عجز بيت للقطامى، من قصيدة مدح بها زفر بن الحارث، وصدره:
أكفرا بعد رد الموت عنى

والرتاع: الإبل الراتعة.

وقال ابن عطاء: العارفة التي لا تصبر عنه طرفة عين. وقيل: المطمئنة بذكر الله تعالى بيانه الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ «1» [الرعد: 28]. وقيل: المطمئنة بالايمان، المصدقة بالبعث والثواب. وقال ابن زيد: المطمئنة لأنها بشرت بالجنة عند الموت، وعند البعث، ويوم الجمع. وروى عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: يعني نفس حمزة. والصحيح أنها عامة في كل نفس مؤمن مخلص طائع. قال الحسن البصري: إن الله تعالى إذا أراد أن يقبض روح عبده المؤمن، اطمأنت النفس إلى الله تعالى، واطمأن الله إليها. وقال عمرو بن العاص: إذا توفي المؤمن أرسل الله إليه ملكين، وأرسل معهما تحفة من الجنة، فيقولان لها: اخرجي أيتها النفس المطمئنة راضية مرضية، ومرضيا عنك، اخرجي إلى روح وريحان، ورب راض غير غضبان، فتخرج كأطيب ريح المسك وجد أحد من أنفه على ظهر الأرض. وذكر الحديث. وقال سعيد بن زائد: قرأ رجل عند النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ، فقال أبو بكر: ما أحسن هذا يا رسول الله! فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [إن الملك سيقولها لك يا أبا بكر [. وقال سعيد بن جبير: مات ابن عباس بالطائف، فجاء طائر لم ير على خلقته طائر قط، فدخل نعشه، ثم لم ير خارجا منه، فلما دفن تليت هذه الآية على شفير القبر- لا يدري من تلاها-: يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً. وروى الضحاك أنها نزلت في عثمان بن عفان رضي الله عنه حين وقف بئر رومة «2». وقيل: نزلت في بيب بن عدي الذي صلبه أهل مكة، وجعلوا وجهه إلى المدينة، فحول الله وجهه نحو القبلة. والله أعلم. معنى (إِلى رَبِّكِ) أي إلى صاحبك وجسدك، قاله ابن عباس وعكرمة وعطاء. واختاره الطبري، ودليله قراءة ابن عباس فادخلي في عبدي على التوحيد، فيأمر الله تعالى الأرواح غدا أن ترجع إلى الأجساد. وقرا ابن مسعود" في جسد عبدي". وقال الحسن: ارجعي إلى ثواب ربك وكرامته. وقال أبو صالح: المعنى: ارجعي إلى الله. وهذا عند الموت.
__________
(1). آية 38 سورة الرعد.
(2). هي بئر بالمدينة.

لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1)

(فَادْخُلِي فِي عِبادِي) أي في أجساد عبادي، دليله قراءة ابن عباس وابن مسعود. قال ابن عباس: هذا يوم القيامة، وقاله الضحاك. والجمهور على أن الجنة هي دار الخلود التي هي مسكن الأبرار، ودار الصالحين والأخيار. ومعنى فِي عِبادِي أي في الصالحين من عبادي، كما قال: لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ «1» [العنكبوت: 9]. وقال الأخفش: فِي عِبادِي أي في حزبي، والمعنى واحد. أي انتظمي في سلكهم. (وَادْخُلِي جَنَّتِي) معهم.

[تفسير سورة البلد]
سورة" البلد" مكية باتفاق. وهي عشرون آية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة البلد (90): آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (1)
يجوز أن تكون لا زائدة، كما تقدم في لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ «2» [القيامة: 1]، قاله الأخفش. أي أقسم، لأنه قال: بِهذَا الْبَلَدِ وقد أقسم به في قوله: وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ [التين: 3] فكيف يجحد القسم به وقد أقسم به. قال الشاعر:
تذكرت ليلى فاعترتني صبابة ... وكاد صميم القلب لا يتقطع
أي يتقطع، ودخل حرف لا صلة، ومنه قوله تعالى: ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ «3» [الأعراف: 12] بدليل قوله تعالى في [ص ]: ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ «4». [ص: 75]. وقرا الحسن والأعمش وابن كثير لأقسم من غير ألف بعد اللام إثباتا. وأجاز الأخفش أيضا أن تكون بمعنى (ألا). وقيل: ليست بنفي القسم، وإنما هو كقول العرب: لا والله لا فعلت كذا، ولا والله ما كان
__________
(1). آية 9 سورة العنكبوت.
(2). راجع ج 19 ص (90)
(3). آية 12 سورة الأعراف راجع ج 7 ص (170)
(4). آية 75.

وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2)

كذا، ولا والله لأفعلن كذا. وقيل: هي نفي صحيح، والمعنى: لا أقسم بهذا البلد إذا لم تكن فيه، بعد خروجك منه. حكاه مكي. ورواه ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: لا رد عليهم. وهذا اختيار ابن العربي، لأنه قال: وأما من قال إنها رد، فهو قول ليس له رد، لأنه يصح به المعنى، ويتمكن اللفظ والمراد. فهو رد لكلام من أنكر البعث ثم ابتدأ القسم. وقال القشيري: قوله لا رد لما توهم الإنسان المذكور في هذه السورة، المغرور بالدنيا. أي ليس الامر كما يحسبه، من أنه لن يقدر عليه أحد، ثم ابتدأ القسم. والْبَلَدِ: هي مكة، أجمعوا عليه. أي أقسم بالبلد الحرام الذي أنت فيه، لكرامتك علي وحبي لك. وقال الواسطي أي نحلف لك بهذا البلد الذي شرفته بمكانك فيه حيا، وبركتك ميتا، يعني المدينة. والأول أصح، لان السورة نزلت بمكة باتفاق.

[سورة البلد (90): آية 2]
وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ (2)
يعني في المستقبل، مثل قوله تعالى: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ «1». ومثله واسع «2» في كلام العرب. تقول لمن تعده الإكرام والحباء: أنت مكرم محبو. وهو في كلام الله واسع، لان الأحوال المستقبلة عنده كالحاضرة المشاهدة، وكفاك دليلا قاطعا على أنه للاستقبال، وأن تفسيره بالحال محال: أن السورة باتفاق مكية قبل الفتح. فروى منصور عن مجاهد: وَأَنْتَ حِلٌّ قال: ما صنعت فيه من شي فأنت في حل. وكذا قال ابن عباس: أحل له يوم دخل مكة أن يقتل من شاء، فقتل ابن خطل «3» ومقيس بن صبابة وغيرهما. ولم يحل لاحد من الناس أن يقتل بها أحدا بعد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وروى السدي قال: أنت في حل ممن قاتلك أن تقتله. وروى أبو صالح عن ابن عباس قال: أحلت له ساعة من نهار، ثم أطبقت وحرمت إلى يوم القيامة، وذلك يوم فتح مكة. وثبت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: [إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض، فهي حرام إلى أن تقوم الساعة، فلم
__________
(1). آية 30 سورة الزمر.
(2). في بعض نسخ الأصل: (شائع).
(3). هو عبد الله، كان معلقا بأستار الكعبة فقتله أبو برزة الأسلمي بأمر الرسول صلوات الله عليه.

وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3)

تحل لاحد قبلي، ولا تحل لاحد بعدي، ولم تحل لي إلا ساعة من نهار [الحديث. وقد تقدم في سورة" المائدة" ابن زيد: لم يكن بها أحد حلالا غير النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقيل: وأنت مقيم فيه وهو محلك. وقيل: وأنت فيه محسن، وأنا عنك فيه راض. وذكر أهل اللغة أنه يقال: رجل حل وحلال ومحل، ورجل حرام ومحل، ورجل حرام ومحرم. وقال قتادة: أنت حل به: لست بآثم. وقيل: هو ثناء على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أي إنك غير مرتكب في هذا البلد ما يحرم عليك ارتكابه، معرفة منك بحق هذا البيت، لا كالمشركين الذين يرتكبون الكفر بالله فيه. أي أقسم بهذا البيت المعظم الذي قد عرفت حرمته، فأنت مقيم فيه معظم له، غير مرتكب فيه ما يحرم عليك. وقال شرحبيل بن سعد: وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ أي حلال، أي هم يحرمون مكة أن يقتلوا بها صيدا أو يعضدوا «1» بها شجرة، ثم هم مع هذا يستحلون إخراجك وقتلك.

[سورة البلد (90): آية 3]
وَوالِدٍ وَما وَلَدَ (3)
قال مجاهد وقتادة والضحاك والحسن وأبو صالح: وَوالِدٍ آدم: عليه السلام. وَما وَلَدَ أي وما نسل من ولده. أقسم بهم لأنهم أعجب ما خلق الله تعالى على وجه الأرض، لما فيهم من التبيان والنطق والتدبير، وفيهم الأنبياء والدعاة إلى الله تعالى. وقيل: هو إقسام بآدم والصالحين من ذريته، وأما «2» غير الصالحين فكأنهم بهائم. وقيل: الوالد إبراهيم. وَما وَلَدَ: ذريته، قاله أبو عمران الجوني. ثم يحتمل أنه يريد جميع ذريته. ويحتمل أنه يريد المسلمين من ذريته. قال الفراء: وصلحت ما للناس، كقوله: ما طابَ لَكُمْ [النساء: 3] وكقوله: وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى [الليل: 3] وهو الخالق للذكر والأنثى، وقيل: ما مع ما بعدها في موضع المصدر، أي ووالد وولادته، كقوله تعالى: وَالسَّماءِ وَما بَناها. وقال عكرمة وسعيد بن جبير: وَوالِدٍ يعني الذي يولد له، وَما وَلَدَ
__________
(1). عضد الشجرة وغيرها: قطعها بالمعضد والمعضد: سيف يمتهن في قطع الشجرة. [.....]
(2). في بعض نسخ الأصل: (وأما الطالحون).

لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (4)

يعني العاقر الذي لا يولد له، وقاله ابن عباس. وما على هذا نفي. وهو بعيد، ولا يصح إلا بإضمار الموصول، أي ووالد والذي ما ولد، وذلك لا يجوز عند البصريين. وقيل: هو عموم في كل والد وكل مولود، قاله عطية العوفي. وروي معناه عن ابن عباس أيضا. وهو اختبار الطبري. قال الماوردي: ويحتمل أن الوالد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لتقدم ذكره، وما ولد أمته: لقوله عليه السلام: [إنما أنا لكم بمنزلة الوالد أعلمكم ]. فأقسم به وبأمته بعد أن أقسم ببلده، مبالغة في تشريفه عليه السلام.

[سورة البلد (90): آية 4]
لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ (4)
إلى هنا انتهى القسم، وهذا جوابه. ولله أن يقسم بما يشاء من مخلوقاته لتعظيمها، كما تقدم. والإنسان هنا ابن آدم. فِي كَبَدٍ أي في شدة وعناء من مكابدة الدنيا. واصل الكبد الشدة. ومنه تكبد اللبن: غلظ وخثر وأشتد. ومنه الكبد، لأنه دم تغلظ واشتد. ويقال: كابدت هذا الامر: قاسيت شدته: قال لبيد:
يا عين هلا بكيت أربد إذ ... قمنا وقام الخصوم في كبد
قال ابن عباس والحسن: فِي كَبَدٍ أي في شدة ونصب. وعن ابن عباس أيضا: في شدة من حمله وولادته ورضاعه ونبت أسنانه، وغير ذلك من أحواله. وروى عكرمة عنه قال: منتصبا في بطن أمه. والكبد: الاستواء والاستقامة. فهذا امتنان عليه في الخلقة. ولم يخلق الله جل ثناؤه دابة في بطن أمها إلا منكبه على وجهها إلا ابن آدم، فأنه منتصب انتصابا، وهو قول النخعي ومجاهد وغيرهما. ابن كيسان: منتصبا رأسه في بطن أمه، فإذا أذن الله أن يخرج من بطن أمه قلب رأسه إلى رجلي أمه. وقال الحسن: يكابد مصائب الدنيا وشدائد الآخرة. وعنه أيضا: يكابد الشكر على السراء ويكابد الصبر على الضراء، لأنه لا يخلو من أحدهما. ورواه ابن عمر. وقال يمان: لم يخلق الله خلقا يكابد ما يكابد ابن آدم، وهو مع ذلك أضعف الخلق. قال علماؤنا: أول ما يكابد قطع سرته، ثم إذا

قمط قماطا، وشد رباطا، يكابد الضيق والتعب، ثم يكابد الارتضاع، ولو فاته لضاع، ثم يكابد نبت أسنانه، وتحرك لسانه، ثم يكابد الفطام، الذي هو أشد من اللطام، ثم يكابد الختان، والأوجاع والأحزان، ثم يكابد المعلم وصولته، والمؤدب وسياسته، والأستاذ وهيبته، ثم يكابد شغل التزويج والتعجيل فيه «1»، ثم يكابد شغل الأولاد، والخدم والأجناد، ثم يكابد شغل الدور، وبناء القصور، ثم الكبر والهرم، وضعف الركبة والقدم، في مصائب يكثر تعدادها، ونوائب يطول إيرادها، من صداع الرأس، ووجع الأضراس، ورمد العين، وغم الدين، ووجع السن، وألم الاذن. ويكابد محنا في المال والنفس، مثل الضرب والحبس، ولا يمضي عليه يوم إلا يقاسي فيه شدة، ولا يكابد إلا مشقة، ثم الموت بعد ذلك كله، ثم مسألة الملك، وضغطة القبر وظلمته، ثم البعث والعرض على الله، إلى أن يستقر به القرار، إما في الجنة وإما في النار، قال الله تعالى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ، فلو كان الامر إليه لما اختار هذه الشدائد. ودل هذا على أن له خالقا دبره، وقضى عليه بهذه الأحوال، فليمتثل أمره. وقال ابن زيد: الإنسان هنا آدم. وقوله: فِي كَبَدٍ أي في وسط السماء. وقال الكلبي: إن هذا نزل في رجل من بني جمح، كان يقال له أبو الاشدين «2»، وكان يأخذ الأديم العكاظي فيجعله تحت قدميه، فيقول: من أزالني عنه فله كذا. فيجذبه عشرة حتى يتمزق ولا تزول قدماه، وكان من أعداء النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفية نزل أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ [البلد: 5] يعني: لقوته. وروي عن ابن عباس. فِي كَبَدٍ أي شديدا، يعني شديد الخلق، وكان من أشد رجال قريش. وكذلك ركانة ابن هشام بن عبد المطلب، وكان مثلا في البأس والشدة. وقيل: فِي كَبَدٍ أي جريء القلب، غليظ الكبد، مع ضعف خلقته، ومهانة مادته. ابن عطاء: في ظلمة وجهل. الترمذي: مضيعا ما يعنيه، مشتغلا بما لا يعنيه.
__________
(1). في نسخة من نسخ الأصل وحاشية الجمل: ثم يكابد شغل التزويج والتعجيل فيه، والتزويج.
(2). كذا في نسخ الأصل. وفي الكشاف وروح المعاني والبيضاوي والثعلبي: أبو الأشد.

أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9)

[سورة البلد (90): الآيات 5 الى 9]
أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ (9)
قوله تعالى: (أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ) أي أيظن ابن آدم أن لن يعاقبه الله عز وجل. (يَقُولُ أَهْلَكْتُ) أي أنفقت. (مالًا لُبَداً) أي كثيرا مجتمعا. أَيَحْسَبُ أي أيظن. (أَنْ لَمْ يَرَهُ) أي أن لم يعاينه أَحَدٌ بل علم الله عز وجل ذلك منه، فكان كاذبا في قوله: أهلكت ولم يكن أنفقه. وروى أبو هريرة قال: يوقف العبد، فيقال ماذا عملت في المال الذي رزقتك؟ فيقول: أنفقته وزكيته. فيقال: كأنك إنما فعلت ذلك ليقال سخي، فقد قيل ذلك. ثم يؤمر به إلى النار. وعن سعيد عن قتادة: إنك مسئول عن مالك من أين جمعت؟ وكيف أنفقت؟ وعن ابن عباس قال: كان أبو الاشدين يقول: أنفقت في عداوة محمد مالا كثيرا وهو في ذلك كاذب. وقال مقاتل: نزلت في الحارث بن عامر بن نوفل، أذنب فاستفتى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأمره أن يكفر. فقال: لقد ذهب مالي في الكفارات والنفقات، منذ دخلت في دين محمد. وهذا القول منه يحتمل أن يكون استطالة بما أنفق، فيكون طغيانا منه، أو أسفا عليه، فيكون ندما منه. وقرا أبو جعفر (مالا لبدا) بتشديد الباء مفتوحة، على جمع لا بد، مثل راكع وركع، وساجد وسجد، وشاهد وشهد، ونحوه. وقرا مجاهد وحميد بضم الباء واللام مخففا، جمع لبود. الباقون بضم اللام وكسرها وفتح الباء مخففا، جمع لبدة ولبدة، وهو ما تلبد، يريد الكثرة. وقد مضى في سورة" الجن" القول فيه «1». وروي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان يقرأ (أيحسب) بضم السين في الموضعين. وقال الحسن: يقول أتلفت مالا كثيرا، فمن يحاسبني به، دعني أحسبه. ألم يعلم أن الله قادر على محاسبته، وأن الله عز وجل يرى صنيعه. ثم عدد عليه نعمه فقال: أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ يبصر بهما. وَلِساناً ينطق به. وَشَفَتَيْنِ يستر بهما
__________
(1). راجع ج 19 ص 22 وما بعدها.

وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10)

ثغره. والمعنى: نحن فعلنا ذلك، ونحن نقدر على أن نبعثه ونحصي عليه ما عمله. وقال أبو حازم: قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إن الله تعالى قال: يا بن آدم، إن نازعك لسانك فيما حرمت عليك، فقد أعنتك عليه بطبقين، فأطبق، وإن نازعك بصرك فيما حرمت عليك، فقد أعنتك عليه بطبقين، فأطبق، وإن نازعك فرجك إلى ما حرمت عليك، فقد أعنتك عليه بطبقين، فأطبق (. والشفة: أصلها شفهة، حذفت منها الهاء، وتصغيرها: شفيهة، والجمع: شفاه. ويقال: شفهات وشفوات، والهاء أقيس، والواو أعم، تشبيها بالسنوات. وقال الأزهري: يقال هذه شفة في الوصل وشفه، بالتاء والهاء. وقال قتادة: نعم الله ظاهرة، يقررك بها حتى تشكر.

[سورة البلد (90): آية 10]
وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ (10)
يعني الطريقين: طريق الخير وطريق الشر. أي بيناهما له بما أرسلناه من الرسل. والنجد. الطريق في ارتفاع. وهذا قول ابن عباس وابن مسعود وغيرهما. وروى قتادة قال: ذكر لنا أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقول: (يا أيها الناس، إنما هما النجدان: نجد الخير، ونجد الشر، فلم نجعل نجد الشر أحب إليك من نجد الخير (. وروي عن عكرمة قال: النجدان: الثديان. وهو قول سعيد بن المسيب والضحاك، وروي عن ابن عباس وعلي رضي الله عنهما، لأنهما كالطريقين لحياة الولد ورزقه. فالنجد: العلو، وجمعه نجود، ومنه سميت" نجد"، لارتفاعها عن انخفاض تهامة. فالنجدان: الطريقان العاليان. قال امرؤ القيس:
فريقان منهم «1» جازع بطن نخلة ... وآخر منهم قاطع نجد كبكب

[سورة البلد (90): آية 11]
فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11)
أي فهلا أنفق ماله الذي يزعم أنه أنفقه في عداوة محمد، هلا أنفقه لاقتحام العقبة فيأمن! والاقتحام: الرمي بالنفس في شي من غير روية، يقال منه: قحم في الامر قحوما: أي رمى
__________
(1). كذا في الأصل وديوان امرئ القيس: وفي اللسان (مادة نجد):
غداة غدوا فسألك بطن نخلة

والجازع: القاطع. وبطن نخلة: موضع بين مكة والطائف. وكبكب: الجبل الأحمر الذي تجده بظهرك إذا وقفت بعرفة.

بنفسه فيه من غير روية. وقحم الفرس فارسه تقحيما على وجهه: إذا رماه. وتقحيم النفس في الشيء: إدخالها فيه من غير روية. والقحمة (بالضم) المهلكة، والسنة الشديدة. يقال: أصابت الاعراب القحمة: إذا أصابهم قحط، فدخلوا الريف. والقحم: صعاب الطريق. وقال الفراء والزجاج: وذكر (لا) مرة واحدة، والعرب لا تكاد تفرد (لا) مع الفعل الماضي في مثل هذا الموضع، حتى يعيدوها في كلام آخر، كقوله تعالى: فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى «1» [القيامة: 31] وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. وإنما أفردوها لدلالة آخر الكلام على معناه، فيجوز أن يكون قوله: ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا [البلد: 17] قائما مقام التكرير، كأنه قال: فلا اقتحم العقبة ولا آمن. وقيل: هو جار مجرى الدعاء، كقوله: لا نجا ولا سلم. (وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ)؟ فقال سفيان بن عيينة: كل شي قال فيه وَما أَدْراكَ؟ فإنه أخبر به، وكل شي قال فيه" وما يدريك"؟ فإنه لم يخبر به. وقال: معنى فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ أي فلم يقتحم العقبة، كقول زهير:
وكان طوى كشحا على مستكنة ... فلا هو أبداها ولم يتقدم «2»
أي فلم يبدها ولم يتقدم. وكذا قال المبرد وأبو علي: فَلَا: بمعنى لم. وذكره البخاري عن مجاهد. أي فلم يقتحم العقبة في الدنيا، فلا يحتاج إلى التكرير. ثم فسر العقبة وركوبها فقال: فَكُّ رَقَبَةٍ وكذا وكذا، فبين وجوها من القرب المالية. وقال ابن زيد وجماعة من المفسرين: معنى الكلام الاستفهام الذي معناه الإنكار، تقديره: أفلا اقتحم العقبة، أو هلا اقتحم العقبة. يقول: هلا أنفق ماله في فك الرقاب، وإطعام السغبان، ليجاوز به العقبة، فيكون خيرا له من إنفاقه في عداوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثم قيل: اقتحام العقبة ها هنا ضرب مثل، أي هل تحمل عظام الأمور في إنفاق ماله في طاعة ربه، والايمان به. وهذا إنما يليق بقول من حمل فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ على الدعاء، أي فلا نجا ولا سلم من لم ينفق ماله في كذا وكذا. وقيل: شبه عظم الذنوب وثقلها وشدتها بعقبة، فإذا أعتق رقبة وعمل صالحا، كان مثله كمثل من اقتحم العقبة، وهي الذنوب التي تضره وتؤذيه وتثقله. قال
__________
(1). آية 31 سورة القيامة.
(2). الكشح: الخاصرة. ومستكنة: على نية أكنها في نفسه.

وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12)

ابن عمر: هذه العقبة جبل في جهنم. وعن أبي رجاء قال: بلغنا أن العقبة مصعدها سبعة آلاف سنة، ومهبطها سبعة آلاف سنة. وقال الحسن وقتادة: هي عقبة شديدة في النار دون الجسر، فاقتحموها بطاعة الله. وقال مجاهد والضحاك والكلبي: هي الصراط يضرب على جهنم كحد السيف، مسيرة ثلاثة آلاف سنة، سهلا وصعودا وهبوطا. واقتحامه على المؤمن كما بين صلاة العصر إلى العشاء. وقيل: اقتحامه عليه قدر ما يصلي صلاة المكتوبة. وروي عن أبي الدرداء أنه قال: إن وراءنا عقبة، أنجى الناس منها أخفهم حملا. وقيل: النار نفسها هي العقبة. فروى أبو رجاء عن الحسن قال: بلغنا أنه ما من مسلم يعتق رقبة إلا كانت فداءه من النار. وعن عبد الله بن عمر قال: من أعتق رقبة أعتق الله عز وجل بكل عضو منها عضوا منه. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة، عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: [من أعتق رقبة أعتق الله بكل عضو منها عضوا من أعضائه من النار، حتى فرجه بفرجه [. وفي الترمذي عن أبي أمامة وغيره من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: [أيما امرئ مسلم أعتق امرأ مسلما، كان فكاكه من النار، يجزي كل عضو منه عضوا منه، وأيما امرأة مسلمة أعتقت امرأة مسلمة، كانت فكاكها من النار، يجزي كل عضو منها عضوا منها [. قال: هذا حديث حسن صحيح غريب. وقيل: العقبة خلاصه من هول العرض. وقال قتادة وكعب: هي نار دون الجسر. وقال الحسن: هي والله عقبة شديدة: مجاهدة الإنسان نفسه وهواه وعدوه الشيطان. وأنشد بعضهم:
إني بليت بأربع يرمينني ... بالنبل قد نصبوا علي شراكا
إبليس والدنيا ونفسي والهوى ... من أين أرجو بينهن فكاكا

يا رب ساعدني بعفو إنني ... أصبحت لا أرجو لهن سواكا

[سورة البلد (90): آية 12]
وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ (12)
فيه حذف، أي وما أدراك ما اقتحام العقبة. وهذا تعظيم لالتزام أمر الدين، والخطاب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ليعلمه اقتحام العقبة. قال القشيري: وحمل العقبة على

فَكُّ رَقَبَةٍ (13)

عقبه جهنم بعيد، إذ أحد في الدنيا لم يقتحم عقبة جهنم، إلا أن يحمل على أن المراد فهلا صير نفسه بحيث يمكنه اقتحام عقبة جهنم غدا. واختار البخاري قول مجاهد: إنه لم يقتحم العقبة في الدنيا. قال ابن العربي: وإنما اختار ذلك لأجل أنه قال بعد ذلك في الآية الثانية: وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ؟ ثم قال في الآية الثالثة: فَكُّ رَقَبَةٍ، وفي الآية الرابعة أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ، ثم قال في الآية الخامسة: يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ ثم قال في الآية السادسة: أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ، فهذه الأعمال إنما تكون في الدنيا. المعنى: فلم يأت في الدنيا بما يسهل عليه سلوك العقبة في الآخرة.

[سورة البلد (90): آية 13]
فَكُّ رَقَبَةٍ (13)
فيه ثلاث مسائل: الاولى: قوله تعالى: فَكُّ رَقَبَةٍ فكها: خلاصها من الأسر. وقيل: من الرق. وفي الحديث: [وفك الرقبة أن تعين في ثمنها [. من حديث البراء، وقد تقدم في سورة" براءة «1». والفك: هو حل القيد، والرق قيد. وسمي المرقوق رقبة، لأنه بالرق كالأسير المربوط في رقبته. وسمي عنقها فكا كفك الأسير من الأسر. قال حسان:
كم من أسير فككناه بلا ثمن ... وجز ناصية كنا مواليها
وروى عقبة بن عامر الجهني أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: [من أعتق رقبة مؤمنة كانت فداءه من النار [قال الماوردي: ويحتمل ثانيا أنه أراد فك رقبته وخلاص نفسه، باجتناب المعاصي، وفعل الطاعات، ولا يمتنع الخبر من هذا التأويل، وهو أشبه بالصواب. الثانية: قوله تعالى: رَقَبَةٍ قال أصبغ: الرقبة الكافرة ذات الثمن أفضل في العتق من الرقبة المؤمنة القليلة الثمن، لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد سئل أي الرقاب أفضل؟ قال: [أغلاها ثمنا وأنفسها عند أهلها [. ابن العربي: والمراد في هذا الحديث: من
__________
(1). راجع ج 8 ص 183.

أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16)

المسلمين (، بدليل قوله عليه السلام: [من أعتق امرأ مسلما] و[من أعتق رقبة مؤمنة]. وما ذكره أصبغ وهلة «1»، وإنما نظر إلى تنقيص المال، والنظر إلى تجريد المعتق للعبادة، وتفريغه للتوحيد، أولى. الثالثة- العتق والصدقة من أفضل الأعمال. وعن أبي حنيفة: أن العتق أفضل من الصدقة. وعند صاحبيه الصدقة أفضل. والآية أدل على قول أبي حنيفة، لتقديم العتق على الصدقة. وعن الشعبي في رجل عنده فضل نفقة: أيضعه في ذي قرابة أو يعتق رقبة؟ قال: الرقبة أفضل، لان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: [من فك رقبة فك الله بكل عضو منها عضوا من النار]

[سورة البلد (90): الآيات 14 الى 16]
أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ (16)
قوله تعالى: (أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ) أي مجاعة. والسغب: الجوع. والساغب الجائع. وقرا الحسن أو إطعام في يوم ذا مسغبة بالألف في ذا- وأنشد أبو عبيدة:
فلو كنت جارا «2» يا بن قيس بن عاصم ... لما بت شبعانا وجارك ساغبا
وإطعام الطعام فضيلة، وهو مع السغب الذي هو الجوع أفضل. وقال النخعي في قوله تعالى: أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ قال: في يوم عزيز فيه الطعام. وروي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: [من موجبات الرحمة إطعام المسلم السغبان ]. (يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ) أي قرابة. يقال: فلان ذو قرابتي وذو مقربتي. يعلمك أن الصدقة على القرابة أفضل منها على غير القرابة، كما أن الصدقة على اليتيم الذي لا كافل له أفضل من الصدقة على اليتيم الذي يجد من يكفله. واهل اللغة يقولون: سمي يتيما لضعفه. يقال: يتم الرجل يتما: إذا ضعف.
__________
(1). كذا في الأصول وابن العربي، ولعلها المرة من الوهل، وهو الغلط. وهل إلى الشيء (بالفتح) يهل (بالكسر) وهلا (بالسكون): إذا ذهب وهمه إليه. ويجوز أن يكون بمعنى غلطة أو سهوة.
(2). كذا في الأصول. يريد: فلو كنت جارا قائما بحق الجوار لما حدث هذا.

وذكروا أن اليتيم في الناس من قبل الأب. وفي البهائم من قبل الأمهات. وقد مضى في سورة" البقرة" مستوفى «1»، وقال بعض أهل اللغة: اليتيم الذي يموت أبواه. وقال قيس بن الملوح:
إلى الله أشكو فقد ليلى كما شكا ... إلى الله فقد الوالدين يتيم
قوله تعالى: (أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ) أي لا شي له، حتى كأنه قد لصق بالتراب من الفقر، ليس له مأوى إلا التراب. قال ابن عباس: هو المطروح على الطريق، الذي لا بيت له. مجاهد: هو الذي لا يقيه من التراب لباس ولا غيره. وقال قتادة: إنه ذو العيال. عكرمة: المديون. أبو سنان: ذو الزمانة. ابن جبير: الذي ليس له أحد. وروى عكرمة عن ابن عباس: ذو المتربة البعيد التربة، يعني الغريب البعيد عن وطنه. وقال أبو حامد الخارزنجي: المتربة هنا: من التريب، وهي شدة الحال. يقال ترب: إذا افتقر. قال الهذلي:
وكنا إذا ما الضيف حل بأرضنا ... سفكنا دماء البدن في تربة الحال
وقرا ابن كثير وأبو عمرو والكسائي: (فك) بفتح الكاف، على الفعل الماضي. (رقبة) نصبا لكونها مفعولا أو أطعم بفتح الهمزة نصب الميم، من غير ألف، على الفعل الماضي أيضا، لقوله: ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا فهذا أشكل بفك وأطعم. وقرا الباقون: فَكُّ رفعا، على أنه مصدر فككت. رَقَبَةٍ خفض بالإضافة. أَوْ إِطْعامٌ بكسر الهمزة وألف ورفع الميم وتنوينها على المصدر أيضا. وأختاره أبو عبيد وأبو حاتم، لأنه تفسير لقوله تعالى: وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ؟ ثم أخبره فقال: فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعامٌ. المعنى: اقتحام العقبة: فك رقبة أو إطعام. ومن قرأ بالنصب فهو محمول على المعنى، أي ولا فك رقبة، ولا أطعم في يوم ذا مسغبة، فكيف يجاوز العقبة. وقرا الحسن وأبو رجاء: ذا مسغبة بالنصب على أنه مفعول إِطْعامٌ أي يطعمون ذا مسغبة ويَتِيماً بدل منه. الباقون ذِي مَسْغَبَةٍ فهو صفة ل- يَوْمٍ. ويجوز أن يكون قراءة النصب صفة لموضع الجار والمجرور لان قوله: فِي يَوْمٍ ظرف منصوب الموضع، فيكون وصفا له على المعنى دون اللفظ.
__________
(1). راجع ج 2 ص 14 طبعه ثانية.

ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (18) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ (20)

[سورة البلد (90): الآيات 17 الى 20]
ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (18) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ (20)
قوله تعالى: (ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) يعني: أنه لا يقتحم العقبة من فك رقبة، أو أطعم في يوم ذا مسغبة، حتى يكون من الذين آمنوا، أي صدقوا، فإن شرط قبول الطاعات الايمان بالله. فالإيمان بالله بعد الإنفاق لا ينفع، بل يجب أن تكون الطاعة مصحوبة بالايمان، قال الله تعالى في المنافقين: وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ «1» [التوبة: 54]. وقالت عائشة: يا رسول الله، إن ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم، ويطعم الطعام، ويفك العاني، ويعتق الرقاب، ويحمل على إبله لله، فعل ينفعه ذلك شيئا؟ قال: [لا، إنه لم يقل يوما رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين [. وقيل: ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا أي فعل هذه الأشياء وهو مؤمن، ثم بقي على إيمانه حتى الوفاة، نظيره قوله تعالى: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى »
[طه: 82]. وقيل: المعنى ثم كان من الذين يؤمنون بأن هذا نافع لهم عند الله تعالى. وقيل: أتى بهذه القرب لوجه الله، ثم أمن بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقد قال حكيم بن حزام بعد ما أسلم، يا رسول الله، إنا كنا نتحنث «3» بأعمال في الجاهلية، فهل لنا منها شي؟ فقال عليه السلام: [أسلمت على ما أسلفت من الخير [. وقيل: إن ثُمَّ بمعنى الواو، أي وكان هذا المعتق الرقبة، والمطعم في المسغبة، من الذين آمنوا. (وَتَواصَوْا) أي أوصى بعضهم بعضا. (بِالصَّبْرِ) على طاعة الله، وعن معاصيه، وعلى ما أصابهم من البلاء والمصائب. (وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ) بالرحمة على الخلق، فإنهم إذا فعلوا ذلك رحموا اليتيم والمسكين. (أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) أي الذين يؤتون كتبهم بأيمانهم، قال محمد بن كعب القرظي وغيره. وقال يحيى بن سلام: لأنهم ميامين على أنفسهم. ابن زيد: لأنهم أخذوا من شق آدم الأيمن. وقيل: لان منزلتهم عن اليمين، قاله ميمون بن مهران. (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا)
__________
(1). آية 54 سورة التوبة.
(2). آية 82 سورة طه.
(3). أي نتقرب بها إلى الله. [.....]

وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1)

أي بالقرآن. (هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ) أي يأخذون كتبهم بشمائلهم، قاله محمد بن كعب. يحيى بن سلام: لأنهم مشائيم على أنفسهم. ابن زيد: لأنهم أخذوا من شق آدم الأيسر. ميمون: لان منزلتهم عن اليسار. قلت: ويجمع هذه الأقوال أن يقال: إن أصحاب الميمنة أصحاب الجنة، وأصحاب المشأمة أصحاب النار، قال الله تعالى: وَأَصْحابُ الْيَمِينِ «1» ما أَصْحابُ الْيَمِينِ، فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ، وقال: وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ. فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ [الواقعة: 42- 41]. وما كان مثله. ومعنى مُؤْصَدَةٌ أي مطبقة مغلقة. قال:
تحن إلى أجبال مكة ناقتي ... ومن دونها أبواب صنعاء مؤصده

وقيل: مبهمة، لا يدري ما داخلها. واهل اللغة يقولون: أوصدت الباب وآصدته، أي أغلقته. فمن قال أوصدت، فالاسم الوصاد، ومن قال آصدته، فالاسم الإصاد. وقرا أبو عمرو وحفص وحمزة ويعقوب والشيزري عن الكسائي مُؤْصَدَةٌ بالهمز هنا، وفي" الهمزة". الباقون بلا همز. وهما لغتان. وعن أبي بكر بن عياش «2» قال: لنا إمام يهمز مُؤْصَدَةٌ فأشتهي أن أسد أذني إذا سمعته.

[تفسير سورة الشمس ]
سورة" الشمس" مكية باتفاق، وهي خمس عشرة آية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الشمس (91): آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالشَّمْسِ وَضُحاها (1)
قال مجاهد: وَضُحاها أي ضوئها وإشراقها. وهو قسم ثان. وأضاف الضحى إلى الشمس، لأنه إنما يكون بارتفاع الشمس. وقال قتادة: بهاؤها. السدي: حرها. وروى الضحاك عن ابن عباس: وَضُحاها قال: جعل فيها الضوء وجعلها حارة. وقال اليزيدي: هو انبساطها. وقيل: ما ظهر بها من كل مخلوق، فيكون القسم بها وبمخلوقات الأرض
__________
(1). آية 28، 42 سورة الواقعة.
(2). كان ينكر على الكسائي همز (مؤصدة).

وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2)

كلها. حكاه الماوردي والضحى: مؤنثة. يقال: ارتفعت الضحا، وهي فوق الضحو «1». وقد تذكر. فمن أنث ذهب إلى أنها جمع ضحوة. ومن ذكر ذهب إلى أنه اسم على فعل، صرد ونغر «2». وهو ظرف غير متمكن مثل سحر. تقول: لقيته ضحا وضحا، إذا أردت به ضحا يومك لم تنونه. وقال الفراء: الضحا هو النهار، كقول قتادة. والمعروف عند العرب أن الضحا: إذا طلعت الشمس وبعيد ذلك قليلا فإذا زاد فهو الضحاء بالمد. ومن قال: الضحا: النهار كله، فذلك لدوام نور الشمس، ومن قال: إنه نور الشمس أو حرها، فنور الشمس لا يكون إلا مع حر الشمس. وقد استدل من قال: إن الضحى حر الشمس بقوله تعالى: وَلا تَضْحى [طه: 119] أي لا يؤذيك الحر. وقال المبرد: أصل الضحا من الضح، وهو نور الشمس، والألف مقلوبة من الحاء الثانية. تقول: ضحوة وضحوات، وضحوات وضحا، فالواو من (ضحوة) مقلوبة عن الحاء الثانية، والألف في (ضحا) مقلوبة عن الواو. وقال أبو الهيثم: الضح: نقيض الظل، وهو نور الشمس على وجه الأرض، وأصله الضحا، فاستثقلوا الياء مع سكون الحاء، فقلبوها ألفا.

[سورة الشمس (91): آية 2]
وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها (2)
أي تبعها: وذلك إذا سقطت ري الهلال. يقال: تلوت فلانا: إذا تبعته. قال قتادة: إنما ذلك ليلة الهلال، إذا سقطت الشمس ري «3» الهلال. وقال ابن زيد: إذا غربت الشمس في النصف الأول من الشهر، تلاها القمر بالطلوع، وفي آخر الشهر يتلوها بالغروب. الفراء: تَلاها: أخذ منها، يذهب إلى أن القمر يأخذ من ضوء الشمس. وقال قوم: وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها حين استوى واستدار، فكان مثلها في الضياء والنور، وقاله الزجاج.
__________
(1). كذا في حاشية الجمل نقلا عن القرطبي. وفي نسخ الأصل وتفسير ابن عادل: (فوق الصخور). تحريف. يريد أن الضحا: أشد ارتفاعا من الضحو والضحوة (كما في اللسان: ضحا).
(2). الصرد: طائر فوق العصفور. والنغر: فرخ العصفور.
(3). أصله (رئي): قدمت الياء على الهمزة.

وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3)

[سورة الشمس (91): آية 3]
وَالنَّهارِ إِذا جَلاَّها (3)
أي كشفها. فقال قوم: جلى الظلمة، وإن لم يجر لها ذكر، كما تقول: أضحت باردة، تريد أضحت غداتنا باردة. وهذا قول الفراء والكلبي وغيرهما وقال قوم: الضمير في جَلَّاها للشمس، والمعنى: أنه يبين بضوئه جرمها. ومنه قول قيس بن الخطيم:
تجلت لنا كالشمس تحت غمامة ... بدا حاجب منها وضنت بحاجب
وقيل: جلى ما في الأرض من حيوانها حتى ظهر، لاستتاره ليلا وانتشاره نهارا. وقيل: جلى الدنيا. وقيل: جلى الأرض، وإن لم يجر لها ذكر، ومثله قوله تعالى: حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ «1» [ص: 32] على ما تقدم آنفا.

[سورة الشمس (91): آية 4]
وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها (4)
أي يغشى الشمس، فيذهب بضوئها عند سقوطها، قال مجاهد وغيره. وقيل: يغشى الدنيا بالظلم، فتظلم الآفاق. فالكناية ترجع إلى غير مذكور.

[سورة الشمس (91): آية 5]
وَالسَّماءِ وَما بَناها (5)
أي وبنيانها. فما مصدرية، كما قال: بِما غَفَرَ لِي رَبِّي «2» [يس: 27] أي بغفران ربي، قاله قتادة، واختاره المبرد. وقيل: المعنى ومن بناها، قاله الحسن ومجاهد، وهو اختيار الطبري. أي ومن خلقها ورفعها، وهو الله تعالى. وحكي عن أهل الحجاز: سبحان ما سبحت له، أي سبحان من سبحت له.

[سورة الشمس (91): آية 6]
وَالْأَرْضِ وَما طَحاها (6)
أي وطحوها. وقيل: ومن طحاها، على ما ذكرناه آنفا. أي بسطها، كذا قال عامة المفسرين، مثل دحاها. قال الحسن ومجاهد وغيرهما: طحاها ودحاها: واحد، أي بسطها
__________
(1). آية 32 سورة ص.
(2). آية 27 سورة يس.

وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7)

من كل جانب. والطحو: البسط، طحا يطحو طحوا، وطحى يطحى طحيا، وطحيت: اضطجعت، عن أبي عمرو. وعن ابن عباس: طحاها: قسمها. وقيل: خلقها، قال الشاعر:
وما تدري جذيمة من طحاها ... ولا من ساكن العرش الرفيع
الماوردي: ويحتمل أنه ما خرج منها من نبات وعيون وكنوز، لأنه حياة لما خلق عليها. ويقال في بعض أيمان العرب: لا، والقمر الطاحي، أي المشرف المشرق المرتفع. قال أبو عمرو: طحا الرجل: إذا ذهب في الأرض. يقال: ما أدري أين طحا! ويقال: طحا به قلبه: إذا ذهب به في كل شي. قال علقمة:
طحا بك قلب في الحسان طروب ... بعيد الشباب عصر حان مشيب

[سورة الشمس (91): آية 7]
وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (7)
قيل: المعنى وتسويتها. ف ما: بمعنى المصدر. وقيل: المعنى ومن سواها، وهو الله عز وجل. وفي النفس قولان: أحدهما آدم. الثاني: كل نفس منفوسة. وسوى: بمعنى هيأ. وقال مجاهد: سواها: سوى خلقها وعدل. وهذه الأسماء كلها مجرورة على القسم. أقسم جل ثناؤه بخلقه لما فيه من عجائب الصنعة الدالة عليه.

[سورة الشمس (91): آية 8]
فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها (8)
قوله تعالى: فَأَلْهَمَها أي عرفها، كذا روى ابن أبي نجيح عن مجاهد. أي عرفها طريق الفجور والتقوى، وقال ابن عباس. وعن مجاهد أيضا: عرفها الطاعة والمعصية. وعن محمد بن كعب قال: إذا أراد الله عز وجل بعبده خيرا، ألهمه الخير فعمل به، وإذا أراد به السوء، ألهمه الشر فعمل به. وقال الفراء: فَأَلْهَمَها قال: عرفها طريق الخير وطريق الشر، كما قال: وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ «1» [البلد: 10]. وروى الضحاك عن ابن عباس قال: ألهم المؤمن المتقي تقواه، وألهم الفاجر فجوره. وعن سعيد عن قتادة قال: بين لها فجورها وتقواها. والمعنى
__________
(1). آية 10 سورة البلد.

قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)

متقارب. وروي عن أبي هريرة قال: قرأ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها قال: [اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها]. ورواه جويبر عن الضحاك عن ابن عباس: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا قرأ هذه الآية فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها رفع صوته بها، وقال: [اللهم آت نفسي تقواها، أنت وليها ومولاها، وأنت خير من زكاها]. وفي صحيح مسلم، عن أبي الأسود الدؤلي قال: قال لي عمران ابن حصين: أرأيت ما يعمل الناس اليوم، ويكدحون فيه، أشيء قضي ومضى عليهم من قدر سبق، أو فيما يستقبلون «1» مما أتاهم به نبيهم، وثبتت الحجة عليهم؟ فقلت: بل شي قضي عليهم، ومضى عليهم. قال فقال: أفلا يكون ظلما؟ قال: ففزعت من ذلك فزعا شديدا، وقلت: كل شي خلق الله وملك يده، فلا يسأل عما يفعل وهم يسألون. فقال لي: يرحمك الله! إني لم أرد بما سألتك إلا لأحرز «2» عقلك، إن رجلين من مزينة أتيا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالا: يا رسول الله، أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه: أشيء قضي عليهم ومضى فيهم من قدر قد سبق، أو فيما يستقبلون به مما أتاهم به نبيهم. وثبتت الحجة عليهم؟ فقال: (لا بل شي قضي عليهم ومضى فيهم. وتصديق ذلك في كتاب الله عز وجل: وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها. فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها). والفجور والتقوى: مصدران في موضع المفعول به.

[سورة الشمس (91): الآيات 9 الى 10]
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (9) وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها (10)
قوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها هذا جواب القسم، بمعنى: لقد أفلح. قال الزجاج: اللام حذفت، لان الكلام طال، فصار طوله عوضا منها. وقيل: الجواب محذوف، أي والشمس وكذا وكذا لتبعثن. الزمخشري: تقديره ليدمدمن الله عليهم، أي على أهل مكة، لتكذيبهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما دمدم على ثمود، لأنهم كذبوا صالحا. وأما قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها فكلام تابع لأوله، لقوله: فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها على سبيل الاستطراد، وليس من جواب القسم
__________
(1). في بعض الأصول: (مما يستقبلون به ... إلخ).
(2). أي لامتحن عقلك وفهمك ومعرفتك.

كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا (11) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا (12) فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا (14)

في شي. وقيل: هو على التقديم والتأخير بغير حذف، والمعنى: قد أفلح من زكاها، وقد خاب من دساها، والشمس وضحاها. أَفْلَحَ فاز. مَنْ زَكَّاها أي من زكى الله نفسه بالطاعة. (وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) أي خسرت نفس دسها الله عز وجل بالمعصية. وقال ابن عباس: خابت نفس أضلها وأغواها. وقيل: أفلح من زكى نفسه بطاعة الله، وصالح الأعمال، وخاب من دس نفسه في المعاصي، قال قتادة وغيره. واصل الزكاة: النمو والزيادة، ومنه زكا الزرع: إذا كثر ريعه، ومنه تزكية القاضي للشاهد، لأنه يرفعه بالتعديل، وذكر الجميل. وقد تقدم هذا المعنى في أول سورة" البقرة" «1» مستوفى. فمصطنع المعروف والمبادر إلى أعمال البر، شهر نفسه ورفعها. وكانت أجواد العرب تنزل الربا وارتفاع الأرض، ليشتهر مكانها للمعتفين «2»، وتوقد النار في الليل للطارقين. وكانت اللئام تنزل الاولاج والاطراف والأهضام «3»، ليخفى مكانها عن الطالبين. فأولئك علوا أنفسهم وزكوها، وهؤلاء أخفوا أنفسهم ودسوها. وكذا الفاجر أبدا خفي المكان، زمر «4» المروءة غامض الشخص، ناكس الرأس بركوب المعاصي. وقيل: دساها: أغواها. قال:
وأنت الذي دسيت عمرا فأصبحت ... حلائله منه أرامل ضيعا «5»
قال أهل اللغة: والأصل: دسسها، من التدسيس، وهو إخفاء الشيء في الشيء، فأبدلت سينه ياء، كما يقال: قصيت أظفاري، وأصله قصصت أظفاري. ومثله قولهم في تقضض: تقضي. وقال ابن الاعرابي: وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها أي دس نفسه في جملة الصالحين وليس منهم.

[سورة الشمس (91): الآيات 11 الى 14]
كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها (11) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها (12) فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ناقَةَ اللَّهِ وَسُقْياها (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها (14)
__________
(1). راجع ج 1 ص 343 طبعه ثانية أو ثالثة.
(2). المعتفي: كل طالب فضل أو رزق.
(3). الاولاج: ما كان من كهف أو غار يلجأ إليه. والأهضام: أسافل الأودية.
(4). الزمر: القليل. [.....]
(5). الذي في اللسان (مادة دسا):
وأنت الذي دسيت عمرا فأصبحت ... نساؤهم فيهم أرامل ضيع
وقال: دسيت: أغويت وأفسدت. وعمرو: قبيلة.

قوله تعالى: (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها) أي بطغيانها، وهو خروجها عن الحد في العصيان، قاله مجاهد وقتادة وغيرهما. وعن ابن عباس بِطَغْواها أي بعذابها الذي وعدت به. قال: وكان اسم العذاب الذي جاءها الطغوي، لأنه طغى عليهم. وقال محمد بن كعب: بِطَغْواها بأجمعها. وقيل: هو مصدر، وخرج على هذا المخرج، لأنه أشكل برءوس الآي. وقيل: الأصل بطغياها، إلا أن" فعلى" إذا كانت من ذوات الياء أبدلت في الاسم واوا، ليفصل بين الاسم والوصف. وقراءة العامة بفتح الطاء. وقرا الحسن والجحدري وحماد بن سلمة (بضم الطاء) على أنه مصدر، كالرجعي والحسني وشبههما في المصادر. وقيل: هما لغتان. (إِذِ انْبَعَثَ) أي نهض. (أَشْقاها) لعقر الناقة. واسمه قدار بن سالف. وقد مضى في" الأعراف" «1» بيان هذا، وهل كان واحدا أو جماعة. وفي البخاري عن عبد الله ابن زمعة أنه سمع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخطب، وذكر الناقة والذي عقرها، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إذ انبعث أشقاها، انبعث لها رجل عزيز عارم «2» منيع في رهطه مثل أبي زمعة) وذكر الحديث. خرجه مسلم أيضا. وروى الضحاك عن علي: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال له: [أتدري من أشقى الأولين [قلت: الله ورسوله أعلم. قال: (عاقر الناقة- قال- أتدري من أشقى الآخرين) قلت: الله ورسوله أعلم. قال: [قاتلك [ (فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ) يعني صالحا. (ناقَةَ اللَّهِ) ناقَةَ منصوب على التحذير، كقولك: الأسد الأسد، والصبي الصبي، والحذار الحذار. أي احذروا ناقة الله، أي عقرها. وقيل: ذروا ناقة الله كما قال: هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ «3» عَذابٌ أَلِيمٌ. [الأعراف: 73]. (وَسُقْياها) أي ذروها وشربها. وقد مضى في سورة" الشعراء" «4» بيانه والحمد لله. وأيضا في سورة اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ «5» [القمر: 1]. فإنهم لما اقترحوا الناقة، وأخرجها لهم من الصخرة، جعل لهم شرب يوم من بئرهم، ولها شرب يوم مكان ذلك، فشق ذلك عليهم.
__________
(1). راجع ج 7 ص (241)
(2). العارم: الجبار المفسد الليث.
(3). آية 73 سورة الأعراف.
(4). راجع ج 13 ص (131)
(5). راجع ج 17 ص 141

وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا (15)

(فَكَذَّبُوهُ) أي كذبوا صالحا عليه السلام في قوله لهم: [إنكم تعذبون إن عقرتموها [. (فَعَقَرُوها) أي عقرها الأشقى. وأضيف إلى الكل لأنهم رضوا بفعله. وقال قتادة: ذكر لنا أنه لم يعقرها حتى تابعه صغيرهم وكبيرهم، ذكرهم وأنثاهم. وقال الفراء: عقرها اثنان: والعرب تقول: هذان أفضل الناس، وهذان خير الناس، وهذه المرأة أشقى القوم، فلهذا لم يقل: أشقياها. قوله تعالى: (فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ) أي أهلكهم وأطبق عليهم العذاب بذنبهم الذي هو الكفر والتكذيب والعقر. وروى الضحاك عن ابن عباس قال: دمدم عليهم قال: دمر عليهم ربهم بذنبهم، أي بجرمهم. وقال الفراء: دمدم أي أرجف. وحقيقة الدمدمة تضعيف العذاب وترديده. ويقال: دممت على الشيء: أي أطبقت عليه، ودمم عليه القبر: أطبقه. وناقة مدمومة: ألبسها الشحم. فإذا كررت الاطباق قلت: دمدمت. والدمدمة: إهلاك باستيصال، قاله المؤرج. وفي الصحاح: ودمدمت الشيء: إذا ألزقته بالأرض وطحطحته. ودمدم الله عليهم: أي أهلكهم. القشيري: وقيل دمدمت على الميت التراب: أي سويت عليه. فقوله: فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ أي أهلكهم، فجعلهم تحت التراب. (فَسَوَّاها) أي سوى عليهم الأرض. وعلى الأول (فَسَوَّاها) أي فسوى الدمدمة والإهلاك عليهم وذلك أن الصيحة أهلكتهم، فأتت على صغيرهم وكبيرهم. وقال ابن الأنباري: دمدم أي غضب. والدمدمة: الكلام الذي يزعج الرجل. وقال بعض اللغويين: الدمدمة: الإدامة، تقول العرب: ناقة مدمدمة أي سمينة. وقيل: (فَسَوَّاها أي فسوى الامة في إنزال العذاب بهم، صغيرهم وكبيرهم، وضيعهم وشريفهم، وذكرهم وأنثاهم. وقرا ابن الزبير فَدَمْدَمَ وهما، لغتان، كما يقال: امتقع لونه وانتقع.

[سورة الشمس (91): آية 15]
وَلا يَخافُ عُقْباها (15)
أي فعل الله ذلك بهم غير خائف أن تلحقه تبعة الدمدمة من أحد، قاله ابن عباس والحسن وقتادة ومجاهد. والهاء في عُقْباها ترجع إلى الفعلة، كقوله: (من اغتسل يوم

وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4)

الجمعة فبها ونعمت) أي بالفعلة والخصلة. قال السدي والضحاك والكلبي: ترجع إلى العاقر، أي لم يخف الذي عقرها عقبى ما صنع. وقال ابن عباس أيضا. وفي الكلام تقديم وتأخير، مجازه: إذ انبعث أشقاها ولا يخاف عقباها. وقيل: لا يخاف رسول الله صالح عاقبة إهلاك قومه، ولا يخشى ضررا يعود عليه من عذابهم، لأنه قد أنذرهم، ونجاه الله تعالى حين أهلكهم. وقرا نافع وابن عامر" فلا" بالفاء، وهو الأجود، لأنه يرجع إلى المعنى الأول، أي فلا يخاف الله عاقبة إهلاكهم. والباقون بالواو، وهي أشبه بالمعنى الثاني، أي ولا يخاف الكافر عاقبة ما صنع. وروى ابن وهب وابن القاسم عن مالك قالا: أخرج إلينا مالك مصحفا لجده، وزعم أنه كتبه في أيام عثمان بن عفان حين كتب المصاحف، وفية: وَلا يَخافُ بالواو. وكذا هي في مصاحف أهل مكة والعراقيين بالواو، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم، اتباعا لمصحفهم.

[تفسير سورة والليل ]
سورة" والليل" مكية. وقيل: مدنية. وهي إحدى وعشرون آية بإجماع بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الليل (92): الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى (1) وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى (2) وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4)
قوله تعالى: (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى ) أي يغطي. ولم يذكر معه مفعولا للعلم به. وقيل: يغشى النهار. وقيل: الأرض. وقيل الخلائق. وقيل: يغشى كل شي بظلمته. وروى سعيد عن قتادة قال: أول ما خلق الله النور والظلمة، ثم ميز بينهما، فجعل الظلمة ليلا أسود مظلما، والنور نهارا مضيئا مبصرا. (وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى) أي إذا انكشف ووضح وظهر، وبان بضوئه عن ظلمة الليل. (وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى ) قال الحسن: معناه والذي خلق

الذكر والأنثى، فيكون قد أقسم بنفسه عز وجل. وقيل: معناه وخلق الذكر والأنثى، (فما): مصدرية على ما تقدم. واهل مكة يقولون للرعد: سبحان ما سبحت له! (فما) على هذا بمعنى (من)، وهو قول أبي عبيدة وغيره. وقد تقدم. وقيل: المعنى وما خلق من الذكر والأنثى، فتكون" من" مضمرة، ويكون القسم منه بأهل طاعته، من أنبيائه وأوليائه، ويكون قسمه بهم تكرمة لهم وتشريفا. وقال أبو عبيدة: وَما خَلَقَ أي من خلق. وكذا قوله: وَالسَّماءِ وَما بَناها [الشمس: 5]، وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها [الشمس: 7]، ما في هذه المواضع بمعنى من. وروي ابن مسعود أنه كان يقرأ والنهار إذا تجلى. والذكر والأنثى ويسقط وَما خَلَقَ. وفي صحيح مسلم عن علقمة قال: قدمنا الشام، فأتانا أبو الدرداء، فقال: فيكم أحد يقرأ علي قراءة عبد الله؟ فقلت: نعم، أنا. قال: فكيف سمعت عبد الله يقرأ هذه الآية وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى ؟ قال: سمعته يقرأ والليل إذا يغشى. والذكر والأنثى قال: وأنا والله هكذا سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرؤها، ولكن هؤلاء يريدون أن أقرأ وَما خَلَقَ فلا أتابعهم «1». قال أبو بكر الأنباري: وحدثنا محمد بن يحيى المروزي قال حدثنا محمد قال حدثنا أبو أحمد الزبيري قال: حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن عبد الرحمن بن يزيد عن عبد الله قال: أقرأني رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إني أنا الرازق ذو القوة المتين، قال أبو بكر: كل من هذين الحديثين مردود، بخلاف الإجماع له، وأن حمزة وعاصما يرويان عن عبد الله بن مسعود ما عليه جماعة المسلمين، والبناء على سندين يوافقان الإجماع أولى من الأخذ بواحد يخالفه الإجماع والامة، وما يبني على رواية واحد إذا حاذاه رواية جماعة تخالفه، أخذ برواية الجماعة، وأبطل نقل الواحد، لما يجوز عليه من النسيان والاغفال. ولو صح الحديث عن أبي الدرداء وكان إسناده مقبولا معروفا، ثم كان أبو بكر وعمر وعثمان وعلي
__________
(1). وفي كتاب الأحكام لابن العربي ما نصه: (هذا مما لا يلتفت إليه بشر إنما المعول عليه ما في المصحف فلا تجوز مخالفته لاحد ثم بعد ذلك يقع النظر فيما يوافق خطه مما لم يثبت ضبطه حسب ما بيناه في موضعه فإن القرآن لا يثبت بنقل الواحد وإن كان عدلا وإنما يثبت بالتواتر الذي يقع به العلم وينقطع معه العذر وتقوم به الحجة على الخلق (.)

فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10)

وسائر الصحابة رضي الله عنهم يخالفونه، لكان الحكم العمل بما روته الجماعة، ورفض ما يحكيه الواحد المنفرد، الذي يسرع إليه من النسيان ما لا يسرع إلى الجماعة، وجميع أهل الملة. وفي المراد بالذكر والأنثى قولان: أحدهما: آدم وحواء، قاله ابن عباس والحسن والكلبي. الثاني: يعني جميع الذكور والإناث من بني آدم والبهائم، لان الله تعالى خلق جميعهم من ذكر وأنثى من نوعهم. وقيل: كل ذكر وأنثى من الآدميين دون البهائم لاختصاصهم بولاية الله وطاعته. (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى) هذا جواب القسم. والمعنى: إن عملكم لمختلف. وقال عكرمة وسائر المفسرين: السعي: العمل، فساع في فكاك نفسه، وساع في عطبها، يدل عليه قوله عليه السلام: (الناس غاديان: فمبتاع نفسه فمعتقها، وبائع نفسه فموبقها) «1». وشتى: واحده شتيت، مثل مريض ومرضى. وإنما قيل للمختلف شتى لتباعد ما بين بعضه وبعضه. أي إن عملكم لمتباعد بعضه من بعض، لان بعضه ضلالة وبعضه هدى. أي فمنكم مؤمن وبر، وكافر وفاجر، ومطيع وعاص. وقيل: لَشَتَّى أي لمختلف الجزاء، فمنكم مثاب بالجنة، ومعاقب بالنار. وقيل: أي لمختلف الأخلاق، فمنكم راحم وقاس، وحليم وطائش، وجواد وبخيل، وشبه ذلك.

[سورة الليل (92): الآيات 5 الى 10]
فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى (9)
فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى (10)
فيه أربع مسائل: الاولى- قوله تعالى: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى ) قال ابن مسعود: يعني أبا بكر رضي الله عنه، وقاله عامة المفسرين. فروى عن عامر بن عبد الله بن الزبير قال: كان أبو بكر يعتق على الإسلام عجائز ونساء، قال: فقال له أبوه قحافة: أي بني! لو أنك
__________
(1). هذه رواية الحديث كما قي الثعلبي. والذي في نسخ الأصل: (الناس غاديان: فبايع نفسه فمعتقها أو موبقها).

أعتقت رجالا جلدا يمنعونك ويقومون معك؟ فقال: يا أبت إنما أريد ما أريد «1». وعن ابن عباس في قوله تعالى: فَأَمَّا مَنْ أَعْطى أي بذل. وَاتَّقى أي محارم الله التي نهى عنها. وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى أي بالخلف من الله تعالى على عطائه. فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ما من يوم يصبح العباد فيه إلا وملكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقا خلفا، ويقول الآخر اللهم أعط ممسكا تلفا (. وروى من حديث أبي الدرداء: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (ما من يوم غربت شمسه إلا بعث بجنبتها ملكان يناديان يسمعهما خلق الله كلهم إلا الثقلين: اللهم أعط منفقا خلفا، وأعط ممسكا تلفا) فأنزل الله تعالى في ذلك في القرآن فَأَمَّا مَنْ أَعْطى ... الآيات. وقال أهل التفسير: فَأَمَّا مَنْ أَعْطى المعسرين. وقال قتادة: أعطى حق الله تعالى الذي عليه. وقال الحسن: أعطى الصدق من قلبه. (وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى ) أي بلا إله إلا الله، قاله الضحاك والسلمى وابن عباس أيضا. وقال مجاهد: بالجنة، دليله قوله تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ «2» ... [يونس: 26] الآية. وقال قتادة: بموعود الله الذي وعده أن يثيبه. زيد بن أسلم: بالصلاة والزكاة والصوم. الحسن: بالخلف من عطائه، وهو اختيار الطبري. وتقدم عن ابن عباس، وكله متقارب المعنى، إذ كله يرجع إلى الثواب الذي هو الجنة. الثانية- قوله تعالى: (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى ) أي نرشده لأسباب الخير والصلاح، حتى يسهل عليه فعلها. وقال زيد بن أسلم: لِلْيُسْرى للجنة. وفي الصحيحين والترمذي عن علي رضي الله عنه قال: كنا في جنازة بالبقيع، فأتى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فجلس وجلسنا معه، ومعه عود ينكت به في الأرض، فرفع رأسه إلى السماء فقال: [ما من نفس منفوسة إلا] قد [كتب مدخلها [فقال القوم: يا رسول الله، أفلا نتكل على كتابنا؟ فمن كان من أهل السعادة فانه يعمل للسعادة، ومن كان من أهل الشقاء فإنه يعمل للشقاء. قال: [بل
__________
(1). كذا في كتاب أسباب النزول وروح المعاني. وفي نسخ الأصل: (ما يريد). وفي تفسير الثعلبي ورواية أخرى في أسباب النزول: (لو كنت تبتاع من يمنع ظهرك قال: منع ظهري أريد).
(2). آية 26 سورة يونس.

اعملوا فكل ميسر، أما من كان من أهل السعادة فإنه ييسر لعمل السعادة، وأما من كان من أهل الشقاء فإنه ييسر لعمل الشقاء- ثم قرأ- فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى ، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى ، وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى ، وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى ، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى [لفظ الترمذي. وقال فيه: حديث حسن صحيح. وسأل غلامان شابان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالا: العمل فيه جفت به الأقلام وجرت به المقادير؟ أم في شي يستأنف؟ فقال عليه السلام: [بل فيما جفت به الأقلام، وجرت به المقادير [قالا: ففيم العمل؟ قال: [أعملوا، فكل ميسر لعمل الذي خلق له [قالا: فالآن نجد ونعمل. الثالثة- قوله تعالى: (وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى ) أي ضن بما عنده، فلم يبذل خيرا. وقد تقدم بيانه وثمرته في الدنيا في سورة" آل عمران" «1». وفي الآخرة مآله النار، كما في هذه الآية. روى الضحاك عن ابن عباس فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى قال: سوف أحول بينه وبين الايمان بالله وبرسوله. وعنه عن ابن عباس قال: نزلت في أمية بن خلف وروى عكرمة عن ابن عباس: وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى يقول: بخل بماله، واستغنى عن ربه. (وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى ) أي بالخلف. وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد: وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى قال: بالجنة. وبإسناد عنه آخر قال بِالْحُسْنى أي بلا إله إلا الله. فَسَنُيَسِّرُهُ أي نسهل طريقه ... لِلْعُسْرى أي للشر. وعن ابن مسعود: للنار. وقيل: أي فسنعسر عليه أسباب الخير والصلاح حتى يصعب عليه فعلها. وقد تقدم أن الملك ينادي صباحا ومساء: [اللهم أعط منفقا خلفا، وأعط ممسكا تلفا [. رواه أبو الدرداء. مسألة: قال العلماء: ثبت بهذه الآية وبقوله: وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ «2» [البقرة: 3]، وقوله: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً «3» [البقرة: 274] إلى غير ذلك من الآيات- أن الجود من مكارم الأخلاق، والبخل من أرذلها. وليس الجواد الذي يعطي في غير موضع العطاء، ولا البخيل الذي يمنع في موضع المنع، لكن الجواد الذي يعطي في موضع العطاء، والبخيل
__________
(1). راجع ج 4 ص (291)
(2). آية 3 سورة البقرة.
(3). آية 274 سورة البقرة.

وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (11) إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12) وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى (13)

الذي يمنع في موضع العطاء، فكل من استفاد بما يعطي أجرا وحمدا فهو الجواد. وكل من استحق بالمنع ذما أو عقابا فهو البخيل. ومن لم يستفد بالعطاء أجرا ولا حمدا، وإنما استوجب به ذما فليس بجواد، وإنما هو مسوف مذموم، وهو من المبذرين الذين جعلهم الله إخوان الشياطين، وأوجب الحجر عليهم. ومن لم يستوجب بالمنع عقابا ولا ذما، واستوجب به حمدا، فهو من أهل الرشد، الذين يستحقون القيام على أموال غيرهم، بحسن تدبيرهم وسداد رأيهم. الرابعة- قال الفراء: يقول القائل: كيف قال: فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى ؟ وهل في العسرى تيسير؟ فيقال في الجواب: هذا في إجازته بمنزلة قوله عز وجل: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ «1» [آل عمران: 21]، والبشارة في الأصل على المفرح والسار، فإذا جمع في كلامين هذا خير وهذا شر، جاءت البشارة فيهما. وكذلك التيسير في الأصل على المفرح، فإذا جمع في كلامين هذا خير وهذا شر، جاء التيسير فيهما جميعا. قال الفراء: وقوله تعالى: فَسَنُيَسِّرُهُ: سنهيئه. والعرب تقول: قد يسرت الغنم: إذا ولدت أو تهيأت للولادة. قال:
هما سيدانا يزعمان وإنما ... يسوداننا أن يسرت غنماهما «2»

[سورة الليل (92): الآيات 11 الى 13]
وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى (11) إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى (12) وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى (13)
قوله تعالى: (وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى) أي مات. يقال: ردي الرجل يردي ردي: إذا هلك. قال:
صرفت الهوى عنهن من خشية الردى

وقال أبو صالح وزيد بن أسلم: إِذا تَرَدَّى: سقط في جهنم، ومنه المتردية. ويقال: ردي في البئر وتردى: إذا سقط في بئر، أو تهور من جبل. يقال: ما أدرى أين ردى؟ أي أين ذهب. وما: يحتمل أن تكون جحدا، أي ولا يغني عنه ماله شيئا، ويحتمل أن تكون استفهاما
__________
(1). آية 21 سورة آل عمران. [.....]
(2). البيت لابي سيدة الدبيري. وقبله.
إن لنا شيخين لا ينفعاننا ... غنيين لا يجدي علينا غناهما

فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14) لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16)

معناه التوبيخ، أي أي شي يغني عنه إذا هلك ووقع في جهنم! أي إن علينا أن نبين طريق الهدى من طريق الضلالة. فالهدى: بمعنى بيان الأحكام، قاله الزجاج. أي على الله البيان، بيان حلاله وحرامه، وطاعته ومعصيته، قاله قتادة. وقال الفراء: من سلك الهدى فعلى الله سبيله، لقوله: وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ «1» [النحل: 9] يقول: من أراد الله فهو على السبيل القاصد. وقيل: معناه إن علينا للهدى والإضلال، فترك الإضلال، كقوله: بِيَدِكَ الْخَيْرُ»
[آل عمران: 26]، وبِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ «3» [يس: 83]. وكما قال: سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ «4» [النحل: 81] وهي تقي البرد، عن الفراء أيضا. وقيل: أي إن علينا ثواب هداه الذي هديناه. (وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى ) لَلْآخِرَةَ الجنة. وَالْأُولى الدنيا. وكذا روى عطاء عن ابن عباس. أي الدنيا والآخرة لله تعالى. وروى أبو صالح عن ابن عباس قال: ثواب الدنيا والآخرة، وهو كقوله تعالى: مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ «5» [النساء: 134] فمن طلبهما من غير مالكهما فقد أخطأ الطريق.

[سورة الليل (92): الآيات 14 الى 16]
فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى (14) لا يَصْلاها إِلاَّ الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16)
قوله تعالى: (فَأَنْذَرْتُكُمْ) أي حذرتكم وخوفتكم. (ناراً تَلَظَّى) أي تلهب وتتوقد. وأصله تتلظى. وهي قراءة عبيد بن عمير، ويحيى بن يعمر، وطلحة بن مصرف. (لا يَصْلاها) أي لا يجد صلاها وهو حرها. (إِلَّا الْأَشْقَى) أي الشقي. الَّذِي كَذَّبَ بنبي الله محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَتَوَلَّى أي أعرض عن الايمان. وروى مكحول عن أبي هريرة قال: كل يدخل الجنة إلا من أباها. قال: يا أبا هريرة، ومن يأبى أن يدخل الجنة؟ قال: الذي كذب وتولى. وقال مالك: صلى بنا عمر بن عبد العزيز المغرب، فقرأ وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى
__________
(1). آية 9 سورة النحل.
(2). آية 26 سورة آل عمران.
(3). آية 83 سورة يس.
(4). آية 81 سورة النحل.
(5). آية 134 سورة النساء.

فلما بلغ فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى وقع عليه البكاء، فلم يقدر يتعداها من البكاء، فتركها وقرا سورة أخرى. وقال: الفراء: إِلَّا الْأَشْقَى إلا من كان شقيا في علم الله جل ثناؤه. وروى الضحاك عن ابن عباس قال: لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى أمية بن خلف ونظراؤه الذين كذبوا محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقال قتادة: كذب بكتاب الله، وتولى عن طاعة الله. وقال الفراء: لم يكن كذب برد ظاهر، ولكنه قصر عما أمر به من الطاعة، فجعل تكذيبا، كما تقول: لقي فلان العدو فكذب: إذا نكل ورجع عن اتباعه. قال: وسمعت أبا ثروان يقول: إن بني نمير ليس لجدهم «1» مكذوبة. يقول: إذا لقوا صدقوا القتال، ولم يرجعوا. وكذلك قوله جل ثناؤه: لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ «2» [الواقعة: 2] يقول: هي حق. وسمعت سلم بن الحسن يقول: سمعت أبا إسحاق الزجاج يقول: هذه الآية التي من أجلها قال أهل الارجاء «3» بالارجاء، فزعموا أنه لا يدخل النار إلا كافر، لقوله جل ثناؤه: لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى. الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى وليس الامر كما ظنوا. هذه نار موصوفة بعينها، لا يصلى هذه النار إلا الذي كذب وتولى. ولأهل النار منازل، فمنها أن المنافقين في الدرك الأسفل من النار، والله سبحانه كل ما وعد عليه بجنس من العذاب فجائز أن يعذب به. وقال جل ثناؤه: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ «4» [النساء: 48]، فلو كان كل من لم يشرك لم يعذب، لم يكن في قوله: وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ فائدة، وكان وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ كلاما لا معنى له. الزمخشري: الآية واردة في الموازنة بين حالتي عظيم من المشركين وعظيم من المؤمنين، فأريد أن يبالغ في صفتيهما المتناقضتين فقيل: الأشقى، وجعل مختصا بالصلي، كأن النار لم تخلق
__________
(1). كذا في الأصول وأساس البلاغة للزمخشري. والذي في تفسير الفراء ولسان العرب- مادة كذب-: (لحدهم) بالحاء المهملة. وحد الرجل: بأسه ونفاذه في نجدته.
(2). آية 2 سورة الواقعة.
(3). هم المرجئة، وهم فرقة من فرق الإسلام، يعتقدون أنه لا يضر مع الايمان معصية. كما أنه لا ينفع مع الكفر طاعة. سموا مرجئة لاعتقادهم أن الله أرجأ تعذيبهم على المعاصي أي أخره عنهم. وقيل: المرجئة فرقة من المسلمين يقولون: الايمان قول بلا عمل كأنهم قدموا القول وأرجئوا العمل أي أخروه لأنهم يرون أنهم لو لم يصلوا ولم يصوموا لنجاهم إيمانهم.
(4). آية 48 سورة النساء.

وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى (21)

إلا له وقيل: الأتقى، وجعل مختصا بالجنة، كأن الجنة لم تخلق إلا له وقيل: هما أبو جهل أو أمية بن خلف. وأبو بكر رضي الله عنه.

[سورة الليل (92): الآيات 17 الى 18]
وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى (18)
قوله تعالى: (سَيُجَنَّبُهَا) أي يكون بعيدا منها. (الْأَتْقَى) أي المتقي الخائف. قال ابن عباس: هو أبو بكر رضي الله عنه، يزحزح عن دخول النار. ثم وصف الأتقى فقال: الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى أي يطلب أن يكون عند الله زاكيا، ولا يطلب بذلك رياء ولا سمعة، بل يتصدق به مبتغيا به وجه الله تعالى. وقال بعض أهل المعاني: أراد بقوله الْأَتْقَى
والْأَشْقَى أي التقي والشقي، كقول طرفة:
تمنى رجال أن أموت وإن أمت ... فتلك سبيل لست فيها بأوحد
أي واحد ووحيد، وتوضع (أفعل) موضع فعيل، نحو قولهم: الله أكبر بمعنى كبير، وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ «1» [الروم: 27] بمعنى هين.

[سورة الليل (92): الآيات 19 الى 21]
وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى (19) إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضى (21)
قوله تعالى: (وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى ) أي ليس يتصدق ليجازي على نعمة، إنما يبتغي وجه ربه الأعلى، أي المتعالي وَلَسَوْفَ يَرْضى أي بالجزاء. فروى عطاء والضحاك عن ابن عباس قال: عذب المشركون بلالا، وبلال يقول أحد أحد، فمر به النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: [أحد- يعني الله تعالى- ينجيك [ثم قال لابي بكر: [يا أبا بكر إن بلالا يعذب في الله [فعرف أبو بكر الذي يريد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فانصرف إلى منزله، فأخذ رطلا من ذهب، ومضى به إلى أمية بن خلف، فقال له: أتبيعني بلالا؟ قال: نعم، فاشتراه فأعتقه. فقال المشركون: ما أعتقه أبو بكر إلا ليد كانت له عنده، فنزلت وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ أي عند أبي بكر مِنْ نِعْمَةٍ، أي من يد ومنة، تُجْزى بل
__________
(1). آية 27 سورة الروم.

ابْتِغاءَ بما فعل وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى . وقيل: اشترى أبو بكر من أمية وأبي بن خلف بلالا، ببردة وعشر أواق، فأعتقه لله، فنزلت: إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى [الليل: 4]. وقال سعيد بن المسيب: بلغني أن أمية بن خلف قال لابي بكر حين قال له أبو بكر: أتبيعنيه؟ فقال: نعم، أبيعه بنسطاس، وكان نسطاس عبدا لابي بكر، صاحب عشرة آلاف دينار وغلمان وجوار ومواش، وكان مشركا، فحمله أبو بكر على الإسلام، على أن يكون له ماله، فأبى، فباعه أبو بكر به. فقال المشركون: ما فعل أبو بكر ببلال هذا إلا ليد كانت لبلال عنده، فنزلت وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى . إِلَّا ابْتِغاءَ أي لكن ابتغاء، فهو استثناء منقطع، فلذلك نصبت. كقولك: ما في الدار أحد إلا حمارا. ويجوز الرفع. وقرا يحيى بن وثاب (إلا ابتغاء وجه ربه) بالرفع، على لغة من يقول: يجوز الرفع في المستثنى. وأنشد في اللغتين قول بشر بن أبي خازم:
أضحت خلاء قفارا لا أنيس بها ... إلا الجآذر والظلمان تختلف «1»
وقول القائل:
وبلدة ليس بها أنيس ... إلا اليعافير وإلا العيس «2»
وفي التنزيل: ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ «3» [النساء: 66] وقد تقدم. (وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى ) أي مرضاته وما يقرب منه. والْأَعْلى من نعت الرب الذي استحق صفات العلو. ويجوز أن يكون ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ مفعولا له على المعنى، لان معنى الكلام: لا يؤتي ماله إلا ابتغاء وجه ربه، لا لمكافأة نعمته. (وَلَسَوْفَ يَرْضى ) أي سوف يعطيه في الجنة ما يرضي، وذلك أنه يعطيه أضعاف ما أنفق. وروى أبو حيان التيمي عن أبيه عن علي رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [رحم الله أبا بكر! زوجني ابنته، وحملني إلى دار الهجرة، وأعتق بلالا من ماله [. ولما اشتراه أبو بكر قال له بلال: هل اشتريتني لعملك أو لعمل الله؟ قال: بل لعمل الله
__________
(1). الجآذر (جمع جؤذر) وهو ولد البقرة الوحشية. والظلمان (بالكسر والضم): جمع الظليم، وهو الذكر من النعام.
(2). اليعافير: جمع يعفور: وهو ولد الظبية، وولد البقرة الوحشية أيضا. والعيس: إبل بيض تخالط بياضها شقرة، جمع أعيس وعيساه.
(3). آية 66 سورة النساء. راجع ج 5 ص 270. [.....]

قال: فذرني وعمل الله، فأعتقه. وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا (يعني بلالا رضي الله عنه). وقال عطاء- وروى عن ابن عباس-: إن السورة نزلت في أبي الدحداح، في النخلة التي اشتراها بحائط له، فيما ذكر الثعلبي عن عطاء. وقال القشيري عن ابن عباس: بأربعين نخلة، ولم يسم الرجل. قال عطاء: كان لرجل من الأنصار نخلة، يسقط من بلحها في دار جار له، فيتناول صبيانه، فشكا ذلك إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. [تبيعها بنخلة في الجنة [؟ فأبى، فخرج فلقيه أبو الدحداح فقال: هل لك أن تبيعنيها ب (حسنى): حائط له. فقال: هي لك. فأتى أبو الدحداح إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقال: يا رسول الله، اشترها مني بنخلة في الجنة. قال: [نعم، والذي نفسي بيده [فقال: هي لك يا رسول الله، فدعا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جار الأنصاري، فقال: [خذها [فنزلت وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى [الليل: 1] إلى آخر السورة في بستان أبي الدحداح وصاحب النخلة. فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى يعني أبا الدحداح. وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى أي بالثواب. فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى : يعني الجنة. وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى يعني الأنصاري. وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى أي بالثواب. فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى ، يعني جهنم. وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى أي مات. إلى قوله: لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى يعني بذلك الخزرجي، وكان منافقا، فمات على نفاقه. وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى يعني أبا الدحداح. الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى في ثمن تلك النخلة. ما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى يكافئه عليها، يعني أبا الدحداح. وَلَسَوْفَ يَرْضى إذا أدخله الله الجنة. والأكثر أن السورة نزلت في أبي بكر رضي الله عنه. وروى ذلك عن ابن مسعود وابن عباس وعبد الله بن الزبير وغيرهم. وقد ذكرنا خبرا آخر لابي الدحداح في سورة" البقرة"، عند قوله: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً «1»
[البقرة: 245]. والله تعالى أعلم.
__________
(1). راجع ج 3 ص 237.

وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3)

[تفسير سورة الضحى ]
سورة" الضحى" مكية باتفاق. وهي إحدى عشرة آية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الضحى (93): الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالضُّحى (1) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (2) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (3)
قوله تعالى: (وَالضُّحى . وَاللَّيْلِ إِذا سَجى ) قد تقدم القول في الضُّحى «1»، والمراد به النهار، لقوله: وَاللَّيْلِ إِذا سَجى فقابله بالليل. وفي سورة (الأعراف) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ. أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ «2» [الأعراف: 98- 97] أي نهارا. وقال قتادة ومقاتل وجعفر الصادق: أقسم بالضحى الذي كلم الله فيه موسى، وبليلة المعراج. وقيل: هي الساعة التي خر فيها السحرة سجدا. بيانه قوله تعالى: وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى «3» [طه: 59]. وقال أهل المعاني فيه وفي أمثاله: فيه إضمار، مجازه ورب الضحى. وسَجى معناه: سكن، قاله قتادة ومجاهد وابن زيد وعكرمة. يقال: ليلة ساجيه أي ساكنة. ويقال للعين إذا سكن طرفها: ساجيه. يقال: سجا الليل يسجو سجوا: «4» إذا سكن. والبحر إذا سجا: سكن. قال الأعشى:
فما ذنبنا «5» أن جاش بحر ابن عمكم ... وبحرك ساج ما يواري الدعامصا
وقال الراجز:
يا حبذا القمراء والليل الساج ... وطرق مثل ملاء النساج
__________
(1). راجع ص 72 وما بعدها من هذا الجزء.
(2). آية 97، (98)
(3). آية 59 سورة طه.
(4). في اللسان: (يسجو سجوا وسجوا).
(5). في ديوان الاعشين:
أتوعدني أن جاش ...

والدعامص: جمع الدعموص: وهو دويبة صغيرة تكون في مستنقع الماء.

وقال جرير:
ولقد رمينك يوم رحن بأعين ... ينظرن من خلل الستور سواجي
وقال الضحاك: سَجى غطى كل شي. قال الأصمعي: سجو الليل: تغطيته النهار، مثلما يسجى الرجل بالثوب. وقال الحسن: غشى بظلامه، وقاله ابن عباس. وعنه: إذا ذهب. وعنه أيضا: إذا أظلم. وقال سعيد بن جبير: أقبل، وروي عن قتادة أيضا. وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد: سَجى استوى. والقول الأول أشهر في اللغة: سَجى سكن، أي سكن الناس فيه. كما يقال: نهار صائم، وليل قائم. وقيل: سكونه استقرار ظلامه واستواؤه. ويقال: وَالضُّحى . وَاللَّيْلِ إِذا سَجى : يعني عباده الذين يعبدونه في وقت الضحى، وعباده الذين يعبدونه بالليل إذا أظلم. ويقال: الضُّحى : يعني نور الجنة إذا تنور. وَاللَّيْلِ إِذا سَجى : يعني ظلمة الليل إذا أظلم. ويقال: وَالضُّحى : يعني النور الذي في قلوب العارفين كهيئة النهار. وَاللَّيْلِ إِذا سَجى : يعني السواد الذي في قلوب الكافرين كهيئة الليل، فأقسم الله عز وجل بهذه الأشياء. (ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ) هذا جواب القسم. وكان جبريل عليه السلام أبطأ على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال المشركون: قلاه الله وودعه، فنزلت الآية. وقال ابن جريج: احتبس عنه الوحي اثني عشر يوما. وقال ابن عباس: خمسة عشر يوما. وقيل: خمسة وعشرين يوما. وقال مقاتل: أربعين يوما. فقال المشركون: إن محمدا ودعه ربه وقلاه، ولو كان أمره من الله لتابع عليه، كما كان يفعل بمن كان قبله من الأنبياء. وفي البخاري عن جندب بن سفيان قال: اشتكى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلم يقم ليلتين أو ثلاثا، فجاءت امرأة «1» فقالت: يا محمد، إني لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك، لم أره قربك منذ ليلتين أو ثلاث، فأنزل الله عز وجل وَالضُّحى . وَاللَّيْلِ إِذا سَجى . ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى . وفي الترمذي عن جندب البجلي قال: كنت مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غار فدميت إصبعه، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [هل أنت إلا إصبع دميت،
__________
(1). هي العوراء بنت حرب أخت أبي سفيان، وهي حمالة الحطب، زوج أبي لهب.

وفي سبيل الله ما لقيت [! قال: وأبطأ عليه جبريل فقال المشركون: قد ودع محمد، فأنزل الله تبارك وتعالى: ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى . هذا حديث حسن صحيح. لم يذكر الترمذي:" فلم يقم ليلتين أو ثلاثا" أسقطه الترمذي. وذكره البخاري، وهو أصح ما قيل في ذلك. والله أعلم. وقد ذكره الثعلبي أيضا عن جندب بن سفيان البجلي، قال: رمي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في إصبعه بحجر، فدميت، فقال: [هل أنت إلا إصبع دميت، وفي سبيل الله ما لقيت [فمكث ليلتين أو ثلاثا لا يقوم الليل. فقالت له أم جميل امرأة أبي لهب: ما أرى شيطانك إلا قد تركك، لم أره قربك منذ ليلتين أو ثلاث، فنزلت وَالضُّحى . وروى عن أبي عمران الجوني، قال: أبطأ جبريل على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى شق عليه، فجاء وهو واضع جبهته على الكعبة يدعو، فنكت بين كتفيه، وأنزل عليه: ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى . وقالت خولة- وكانت تخدم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: إن جروا دخل البيت، فدخل تحت السرير فمات، فمكث نبي الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أياما لا ينزل عليه الوحي. فقال: [يا خولة، ما حدث في بيتي؟ ما لجبريل لا يأتيني [قالت خولة فقلت: لو هيأت البيت وكنسته، فأهويت بالمكنسة تحت السرير، فإذا جرو ميت، فأخذته فألقيته خلف الجدار، فجاء نبي الله ترعد لحياه- وكان إذا نزل عليه الوحي استقبلته الرعدة- فقال: [يا خولة دثريني [فأنزل الله هذه السورة. ولما نزل جبريل سأله النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن التأخر فقال: [أما علمت أنا لا ندخل بيتا فيه كلب ولا صورة [. وقيل: لما سألته اليهود عن الروح وذي القرنين وأصحاب الكهف قال: [سأخبركم غدا [. ولم يقل إن شاء الله. فاحتبس عنه الوحي، إلى أن نزل جبريل عليه بقوله: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْ ءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ «1» [الكهف: 23] فأخبره بما سئل عنه. وفي هذه القصة نزلت ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى . وقيل: إن المسلمين قالوا: يا رسول الله، مالك لا ينزل عليك الوحي؟ فقال: [وكيف ينزل علي وأنتم لا تنقون رواجبكم- وفي رواية براجمكم «2»- ولا تقصون أظفاركم ولا تأخذون من شواربكم [. فنزل
__________
(1). آية 23 سورة الكهف.
(2). الرواجب (واحدها راجبة): وهي ما بين عقد الأصابع. والبراجم (واحدها برجمة بالضم): هي العقد التي في ظهور الأصابع يجتمع فيها الوسخ.

جبريل بهذه السورة، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ما جئت حتى اشتقت إليك [فقال جبريل: [أنا كنت أشد إليك شوقا، ولكني عبد مأمور [ثم أنزل عليه وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ «1» [مريم: 64]. وَدَّعَكَ بالتشديد: قراءة العامة، من التوديع، وذلك كتوديع المفارق. وروى عن ابن عباس وابن الزبير أنهما قرأاه (ودعك) بالتخفيف، ومعناه: تركك. قال:
وثم ودعنا آل عمرو وعامر ... فرائس أطراف المثقفة «2» السمر
واستعماله قليل. يقال: هو يدع كذا، أي يتركه. قال المبرد محمد بن يزيد: لا يكادون يقولون ودع ولا وذر، لضعف الواو إذا قدمت، واستغنوا عنها بترك. قوله تعالى: (وَما قَلى ) أي ما أبغضك ربك منذ أحبك. وترك الكاف، لأنه رأس آية. والقلى: البغض، فإن فتحت القاف مددت، تقول: قلاه يقليه قلى وقلاء. كما تقول: قريت الضيف أقرئه قرى وقراء. ويقلاه: لغة طئ. وأنشد ثعلب:
أيام «3» أم الغمر لا نقلاها

أي لا نبغضها. ونقلي أي نبغض. وقال: «4»
أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة ... لدينا ولا مقلية إن تقلت
وقال امرؤ القيس:
ولست بمقلي الخلال ولا قال «5»

وتأويل الآية: ما ودعك ربك وما قلاك. فترك الكاف لأنه رأس آية، كما قال عز وجل: وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ «6» [الأحزاب: 35] أي والذاكرات الله.
__________
(1). آية 64 سورة مريم.
(2). المثقفة والمثقف: الرمح.
(3). كذا في اللسان. وفي الأصول: (يا رب). وبعده كما في اللسان:
ولو تشاء قبلت عيناها

(4). هو كثير عزة.
(5). صدر البيت:
صرفت الهوى عنهن من خشية الردى

[.....]
(6). آية 35 سورة الأحزاب.

وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5)

[سورة الضحى (93): الآيات 4 الى 5]
وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى (5)
روى سلمة عن ابن إسحاق قال: وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى أي ما عندي في مرجعك إلى يا محمد، خير لك مما عجلت لك من الكرامة في الدنيا. وقال ابن عباس: أرى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما يفتح الله على أمته بعده، فسر بذلك، فنزل جبريل بقوله: وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى . قال ابن إسحاق: الفلج في الدنيا، والثواب في الآخرة. وقيل: الحوض والشفاعة. وعن ابن عباس: ألف قصر من لؤلؤ أبيض ترابه المسك. رفعه الأوزاعي، قال: حدثني إسماعيل بن عبيد الله، عن علي بن عبد الله ابن عباس، عن أبيه قال: أرى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما هو مفتوح على أمته، فسر بذلك، فأنزل الله عز وجل وَالضُّحى - إلى قوله تعالى- وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى ، فأعطاه الله جل ثناؤه ألف قصر في الجنة، ترابها المسك، في كل قصر ما ينبغي له من الأزواج والخدم. وعنه قال: رضي محمد ألا يدخل أحد من أهل بيته النار. وقال السدي. وقيل: هي الشفاعة في جميع المؤمنين. وعن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يشفعني الله في أمتي حتى يقول الله سبحانه لي: رضيت يا محمد؟ فأقول يا رب رضيت). وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تلا قول الله تعالى في إبراهيم: فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ «1» [إبراهيم: 36] وقول عيسى: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ «2» [المائدة: 118]، فرفع يديه وقال: (اللهم أمتي أمتي) وبكى. فقال الله تعالى لجبريل: (اذهب إلى محمد، وربك أعلم، فسله ما يبكيك) فأتى جبريل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فسأل فأخبره. فقال الله تعالى لجبريل: [اذهب إلى محمد، فقل له: إن الله يقول لك: إنا سنرضيك في أمتك
__________
(1). آية 36 سورة إبراهيم.
(2). آية 118 سورة المائدة.

أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6)

ولا نسوءك «1»]. وقال علي رضي الله عنه لأهل العراق: إنكم تقولون إن أرجى آية في كتاب الله تعالى: قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ «2» [الزمر: 53] قالوا: إنا نقول ذلك. قال: ولكنا أهل البيت نقول: إن أرجى آية في كتاب الله قوله تعالى: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى . وفي الحديث: لما نزلت هذه الآية قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [إذا والله لا أرضى وواحد من أمتي في النار [.

[سورة الضحى (93): آية 6]
أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (6)
عدد سبحانه مننه على نبيه محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً لا أب لك، قد مات أبوك. فَآوى أي جعل لك مأوى تأوي إليه عند عمك أبي طالب، فكفلك. وقيل لجعفر بن محمد الصادق: لم أوتم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أبويه؟ فقال: لئلا يكون لمخلوق عليه حق. وعن مجاهد: هو من قول العرب: درة يتيمة، إذا لم يكن لها مثل. فمجاز الآية: ألم يجدك واحدا في شرفك لا نظير لك، فآواك الله بأصحاب يحفظونك ويحوطونك.

[سورة الضحى (93): آية 7]
وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى (7)
أي غافلا عما يراد بك من أمر النبوة، فهداك: أي أرشدك. والضلال هنا بمعنى الغفلة، كقوله جل ثناؤه: لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى «3» [طه: 52] أي لا يغفل. وقال في حق نبيه: وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ»
[يوسف: 3]. وقال قوم: ضَالًّا لم تكن تدري القرآن والشرائع، فهداك الله إلى القرآن، وشرائع الإسلام، عن الضحاك وشهر بن حوشب وغيرهما. وهو معنى
__________
(1). رواية الحديث كما ورد في صحيح مسلم: كتاب الايمان: (أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تلا قول الله عز وجل في إبراهيم (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي) الآية وقول عيسى عليه السلام (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) فرفع يديه وقال: (اللهم أمتي أمتي)، وبكى فقال الله عز وجل: (يا جبريل اذهب إلى محمد وربك أعلم، فسله ما يبكيك) فأتاه جبريل عليه الصلاة والسلام فسأله فأخبره رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما قال وهو أعلم فقال الله: (يا جبريل اذهب إلى محمد فقل: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك).
(2). آية سورة الزمر.
(3). آية 52 سورة طه.
(4). آية 3 سورة يوسف.

قوله تعالى: ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ، على ما بينا في سورة" الشورى" «1». وقال قوم: وَوَجَدَكَ ضَالًّا أي في قوم ضلال، فهداهم الله بك. هذا قول الكلبي والفراء. وعن السدي نحوه، أي ووجد قومك في ضلال، فهداك إلى إرشادهم. وقيل: وَوَجَدَكَ ضَالًّا عن الهجرة، فهداك إليها. وقيل: ضَالًّا أي ناسيا شأن الاستثناء حين سئلت عن أصحاب الكهف وذي القرنين والروح- فأذكرك، كما قال تعالى: أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما «2» [البقرة: 282]. وقيل: ووجدك طالبا للقبلة فهداك إليها، بيانه: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ «3» ... [البقرة: 144] الآية. ويكون الضلال بمعنى الطلب، لان الضال طالب. وقيل: ووجدك متحيرا عن بيان ما نزل عليك، فهداك إليه، فيكون الضلال بمعنى التحير، لان الضال متحير. وقيل: ووجدك ضائعا في قومك، فهداك إليه، ويكون الضلال بمعنى الضياع. وقيل: ووجدك محبا للهداية، فهداك إليها، ويكون الضلال بمعنى المحبة. ومنه قوله تعالى: قالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ «4» [يوسف: 95] أي في محبتك. قال الشاعر:
هذا الضلال أشاب مني المفرقا ... والعارضين ولم أكن متحققا «5»
عجبا لعزة في اختيار قطيعتي ... بعد الضلال فحبلها قد أخلقا
وقيل:" ضالا" في شعاب مكة، فهداك وردك إلى جدك عبد المطلب. قال ابن عباس: ضل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو صغير في شعاب مكة، فرآه أبو جهل منصرفا عن أغنامه، فرده إلى جده عبد المطلب، فمن الله عليه بذلك، حين رده إلى جده على يدي عدوه. وقال سعيد بن جبير: خرج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع عمه أبي طالب في سفر، فأخذ إبليس بزمام الناقة في ليلة ظلماء، فعدل بها عن الطريق، فجاء جبريل عليه السلام، فنفخ إبليس نفخة وقع منها إلى أرض الهند، ورده إلى القافلة، فمن الله عليه بذلك. وقال كعب: إن حليمة لما قضت حق الرضاع، جاءت برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لترده على عبد المطلب،
__________
(1). آية 52 راجع ج 16 ص (55)
(2). آية 282 سورة البقرة.
(3). آية 144 سورة البقرة.
(4). آية 95 سورة يوسف.
(5). المفرق (كمقعد ومجلس): وسط الرأس. والعارض: صفحة الخد.

فسمعت عند باب مكة: هنيئا لك يا بطحاء مكة، اليوم يرد إليك النور والدين والبهاء والجمال. قالت: فوضعته لأصلح ثيابي، فسمعت هدة شديدة، فالتفت فلم أره، فقلت: معشر الناس، أين الصبي؟ فقال: لم نر شيئا، فصحت: وا محمداه! فإذا شيخ فان يتوكأ على عصاه، فقال: اذهبي إلى الصنم الأعظم، فإن شاء أن يرده عليك فعل. ثم طاف الشيخ بالصنم، وقبل رأسه وقال: يا رب، لم تزل منتك على قريش، وهذه السعدية تزعم أن ابنها قد ضل، فرده إن شئت. فانكب (هبل) على وجهه، وتساقطت الأصنام، وقالت: إليك عنا أيها الشيخ، فهلا كنا على يدي محمد. فألقى الشيخ عصاه، وارتعد وقال: إن لابنك ربا لا يضيعه، فاطلبيه على مهل. فانحشرت قريش إلى عبد المطلب، وطلبوه في جميع مكة، فلم يجدوه. فطاف عبد المطلب بالكعبة سبعا، وتضرع إلى الله أن يرده، وقال:
يا رب رد ولدي محمدا ... اردده ربي واتخذ عندي يدا
يا رب إن محمد لم يوجدا ... فشمل قومي كلهم تبددا
فسمعوا مناديا ينادي من السماء: معاشر الناس لا تضجوا، فإن لمحمد ربا لا يخذله ولا يضيعه، وإن محمدا بوادي تهامة، عند شجرة السمر. فسار عبد المطلب هو وورقة بن نوفل، فإذا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قائم تحت شجرة، يلعب بالأغصان وبالورق. وقيل: وَوَجَدَكَ ضَالًّا ليلة المعراج، حين انصرف عنك جبريل وأنت لا تعرف الطريق، فهداك إلى ساق العرش. وقال أبو بكر الوراق وغيره: وَوَجَدَكَ ضَالًّا: تحب أبا طالب، فهداك إلى محبة ربك. وقال بسام بن عبد الله: وَوَجَدَكَ ضَالًّا بنفسك لا تدري من أنت، فعرفك بنفسك وحالك. وقال الجنيدي: ووجدك متحيرا في بيان الكتاب، فعلمك البيان، بيانه: لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ «1» [النحل: 44] ... الآية. لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ «2» [النحل: 64]. وقال بعض المتكلمين: إذا وجدت العرب شجرة منفردة في فلاة من الأرض، لا شجر معها، سموها ضالة، فيهتدي بها إلى الطريق، فقال الله تعالى
__________
(1). آية 44 سورة النحل.
(2). آية 64 سورة النحل. [.....]

وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8)

لنبيه محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَوَجَدَكَ ضَالًّا أي لا أحد على دينك، وأنت وحيد ليس معك أحد، فهديت بك الخلق إلي. قلت: هذه الأقوال كلها حسان، ثم منها ما هو معنوي، ومنها ما هو حسي. والقول الأخير أعجب إلي، لأنه يجمع الأقوال المعنوية. وقال قوم: إنه كان على جملة ما كان القوم عليه، لا يظهر لهم خلافا على ظاهر الحال، فأما الشرك فلا يظن به، بل كان على مراسم القوم في الظاهر أربعين سنة. وقال الكلبي والسدي: هذا على ظاهره، أي وجدك كافرا والقوم كفار فهداك «1»
. وقد مضى هذا القول والرد عليه في سورة" الشورى" «2». وقيل: وجدك مغمورا بأهل الشرك، فميزك عنهم. يقال: ضل الماء في اللبن، ومنه أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ «3» [السجدة: 10] أي لحقنا بالتراب عند الدفن، حتى كأنا لا نتميز من جملته. وفي قراءة الحسن ووجدك ضال فهدى أي وجدك الضال فاهتدى بك، وهذه قراءة على التفسير. وقيل: وَوَجَدَكَ ضَالًّا لا يهتدي إليك قومك، ولا يعرفون قدرك، فهدى المسلمين إليك، حتى آمنوا بك.

[سورة الضحى (93): آية 8]
وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى (8)
أي فقيرا لا مال لك. فَأَغْنى أي فأغناك بخديجة رضي الله عنها، يقال: عال الرجل يعيل عيلة: إذا افتقر. وقال أحيحة بن الجلاح:
فما يدري الفقير متى غناه ... وما يدري الغني متى يعيل
أي يفتقر. وقال مقاتل: فرضاك بما أعطاك من الرزق. وقال الكلبي: قنعك بالرزق. وقال ابن عطاء: ووجدك فقير النفس، فأغنى قلبك. وقال الأخفش: وجدك ذا عيال، دليله فَأَغْنى . ومنه قول جرير:
الله أنزل في الكتاب فريضة ... لابن السبيل وللفقير العائل
__________
(1). مثل هذه الأقوال لا يصح نسبتها إلى سيد الخلق صلوات الله وسلامه عليه ولا لاحد من الأنبياء، لان العصمة ثابتة لهم قبل النبوة وبعدها من الكبائر والصغائر على الصحيح.
(2). راجع ج 16 ص 55 فما بعدها.
(3). آية 10 سورة السجدة.

فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)

وقيل: وجدك فقيرا من الحجج والبراهين، فأغناك بها. وقيل: أغناك بما فتح لك من الفتوح، وأفاءه عليك من أموال الكفار. القشيري: وفي هذا نظر، لان السورة مكية، وإنما فرض الجهاد بالمدينة. وقراءة العامة عائِلًا. وقرا ابن السميقع" عيلا" بالتشديد، مثل طيب وهين.

[سورة الضحى (93): الآيات 9 الى 11]
فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)
فيه أربع مسائل: الاولى- قوله تعالى: (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ) أي لا تسلط «1» عليه بالظلم، ادفع إليه حقه، واذكر يتمك، قاله الأخفش. وقيل: هما لغتان: بمعنى. وعن مجاهد فَلا تَقْهَرْ فلا تحتقر. وقرا النخعي والأشهب العقيلي" تكهر" بالكاف، وكذا هو في مصحف ابن مسعود. فعلى هذا يحتمل أن يكون نهيا عن قهره، بظلمه واخذ ماله. وخص اليتيم لأنه لا ناصر له غير الله تعالى، فغلظ في أمره، بتغليظ العقوبة على ظالمه. والعرب تعاقب بين الكاف والقاف. النحاس: وهذا غلط، إنما يقال كهره: إذا اشتد عليه وغلظ. وفي صحيح مسلم من حديث معاوية بن الحكم السلمي، حين تكلم في الصلاة برد السلام، قال: فبأبي هو وأمي! ما رأيت معلما قبله ولا بعده أحسن تعليما منه- يعني رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فوالله ما كهرني، ولا ضربني، ولا شتمني ... الحديث. وقيل: القهر الغلبة. والكهر: الزجر. الثانية- ودلت الآية على اللطف باليتيم، وبره والإحسان إليه، حتى قال قتادة: كن لليتيم كالأب الرحيم. وروي عن أبي هريرة أن رجلا شكا إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قسوة قلبه، فقال: (إن أردت أن يلين، فامسح رأس اليتيم، وأطعم المسكين). وفي الصحيح عن أبي هريرة: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (أنا وكافل اليتيم له أو لغيره كهاتين).
__________
(1). في بعض نسخ الأصل: (لا تسطو).

وأشار بالسبابة والوسطى. ومن حديث ابن عمر أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (إن اليتيم إذا بكى اهتز لبكائه عرش الرحمن فيقول الله تعالى لملائكته: يا ملائكتي، من ذا الذي أبكى هذا اليتيم الذي غيبت أباه في التراب، فتقول الملائكة ربنا أنت أعلم، فيقول الله تعالى لملائكته: يا ملائكتي، اشهدوا أن من أسكته وأرضاه؟ أن أرضيه «1» يوم القيامة (. فكان ابن عمر إذا رأى يتيما مسح برأسه، وأعطاه شيئا. وعن أنس قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [من ضم يتيما فكان في نفقته، وك